يعز علي أن أدلي بشهادة في حق الدكتور عبد الله ركيبي، وهو غير قادر على الحضور بيننا (1). فقد كان قبل اليوم زينة المجالس، وملفت الأنظار، ومحرك الألسنة، يقول ما يعتقد أنه الحق ولا يبالي. * عاصرت سي عبد الله ركيبي منذ عهد الدراسة في جامع الزيتونة بتونس، خلال الخمسينات من القرن الماضي. ولم نفترق إلا لنلتقي على نبض الوطن وهمومه، ووقع الدفاع عن اللغة العربية ضد المغيرين عليها، وأوجاع الثقافة وتراثها وآمالها ومآلها. * حمل سي ركيبي وشم الثقافة العربية انطلاقا من قلب الأوراس الأشم، وجمع المجد من أطرافه حين اختلطت في جيناته دماء مازيغ وقحطان. وحمل معه منذ الطفولة الشعور بظلم الاستعمار في شخوص محسوبين على الجزائر بالجغرافيا فقط، نحسبهم منا وقلوبهم شتى. لذلك كان ثائرا قبل الثورة، ميالا بنضاله السياسي إلى حزب الشعب، وبانتمائه الثقافي إلى جمعية العلماء. حمل هذه الأفكار المتقدمة لمفهوم الوطنية منذ صغره إلى تونس، حيث وجد الفرصة مواتية لتبادلها مع أترابه الطلبة من هذا الصف أو ذاك. * كنا نلتقي في حلق الدراسة بالزيتونة، ولكن تعارفنا كان ما يزال فتيا، فلم يكن هناك اختلاط في المسكن ولا في اللهو ولا في نشاط جمعية أو رابطة. ومع ذلك فإنه حين أعلنت جمعية البعثة التابعة لجمعية العلماء عن مسابقة أدبية، تتعلق بآمال الشباب الجزائري في مستقبل بلاده، بادر إلى المشاركة فيها بقصة (الطاغية الأعرج) التي رمز بها إلى (ڤايد) بلدته جمورة، بل كل ڤايد ظالم، لم يرع للشعب حقا ولا ذمة. وقد فاز سي عبد الله في القصة على يد لجنة تحكيم معروفة الوجوه والجدية من شيوخ الزيتونة الشباب. ثم أرسلت جمعية البعثة القصة الفائزة مع صورة صاحبها إلى البصائر فنشرتهما. وربما كانت قصة الطاغية الأعرج هي أول إنتاج أدبي سياسي نشر له. * وبعد نيلنا شهادة التحصيل من الزيتونة، رجع كل منا إلى الوطن واستلم مهمته، فدخل كلانا ميدان التعليم عند جمعية العلماء: هو في مدرسة ندرومة قرب تلمسان، وأنا في مدرسة الحراش بالعاصمة. وبعد عام دراسي سافرت إلى المشرق عن طريق تونس، أما هو فقد بقي يؤدي مهمته إلى أن ألقي عليه القبض ربما سنة 1956، وأخذ إلى محتشد بآفلو. ثم فر منه إلى بلدته جمورة بولاية بسكرة، حيث فرضت عليه الإقامة بهذه المدينة، ولكن بعض المجاهدين هربوه إلى تونس عام 1958، ومن تونس طلب عام 1960 منحة دراسية في القاهرة من وزارة الثقافة بالحكومة المؤقتة (2) . * وهكذا جمع الله الشتيتين من جديد على الساحة الطلابية في القاهرة، غير أن معاصرتنا فيها لم تدم طويلا، لاغترابي بعيدا عن الشرق والرفاق، إثر حصولي على منحة للدراسة في الولاياتالمتحدةالأمريكية في نفس السنة (1960)، فلم يبق رابط بيننا سوى حبل الرسائل والذكريات. وقد بلغني أنه أثناء الخلاف الذي نشب على مستوى قيادة الثورة، بعد إعلان الاستقلال، لعب سي عبد الله دورا بارزا في توجيه طلاب الجزائر بمصر نحو المكتب السياسي والرئيس الأول للبلاد. ومن ميزات سي عبد الله الشجاعة الأدبية والصراحة والاندفاع والتحدي. فإذا آمن بأمر نافح دونه إلى أقصى الحدود، ولا يهمه بعد ذلك أرضي الناس عنه أم سخطوا. وقد خسر بعض أصدقاء جراء هذا الموقف. وحينما تسأله الحكمة من ورائه يقول بدون مبالاة: المبدأ قبل الفرد. * وبعد تخرجه من جامعة القاهرة سنة 1964، رجع إلى الجزائر والتحق بالمعهد التربوي الوطني التابع لوزارة التربية، ولم يلبث إلا حوالي سنة ثم جاءت زوجته المصرية الفلسطينية إلى الجزائر، وقد كانت سيدة مثقفة تتعاطى الأدب والصحافة. وأذكر أنني عندما زرت الجزائر سنة 1966، قادما من أمريكا، لجس نبض إمكانية العمل بالجامعة، استضافني سي عبد الله في بيته وجددنا العهد، وحثني على الرجوع إلى الجزائر والاشتراك في المعركة الثقافية كما كنا نسميها التي يخوضها هو وأصحابه، ومنهم صديق كلينا، الأستاذ عبد الله عثامنية، الذي كان ينشط في نادي الفكرالعربي، وإسناد رئاسته إلى سي الركيبي. * في هذه المناسبة سلمني مجموعة من الأسئلة الأدبية والثقافية المكتوبة لأجيبه عنها، بصفته كان محررا للصفحة الثقافية في جريدة الشعب. وبعد رجوعي إلى جامعة أوكلير أجبته عن الأسئلة، ولكنه أخبرني بأن أجوبتي لم تنشر، لأنه لم يعد مسؤولا عن الصفحة المذكورة، وربما قال أيضا إنها كانت طويلة(3). وعلى كل حال، فإنه لم يتوقف عن مطالبتي بالرجوع إلى الجزائر للعمل معا، من أجل الدفاع عن الثوابت الوطنية التي آمنا بها وكافحنا من أجلها منذ الخمسينات. * وبعد قضاء سنة أخرى في أوكلير، رجعت نهائيا إلى الوطن في أكتوبر 1967، والتحقت بجامعة الجزائر الوحيدة عندئذ. وقبل دخول الجزائر مكثت بضعة أشهر في باريس، أدرس الفرنسية وأحضر محاضرات في حضارة الفرنسيين وثقافتهم، كما هي في بلادهم، وعلاقتهم بجيرانهم للمقارنة مع ما كنت قد درسته في منيسوتا، ودرسته لطلبة أوكلير. كانت الحياة الاجتماعية والأكاديمية تجمع بيننا في جامعة كنا نحسب أنها وطنية، فإذا بها كانت ما تزال بأيدي أساتذة فرنسيين، وبعض تلاميذهم المخلصين الذين صوتوا ربما ضد الاستقلال، ولم يساندوا إضراب الطلبة سنة 1956، وقد وجدت سي عبد الله حاصلا على شهادة الماجستير من جامعة القاهرة. وبعدها بمدة (سنة 1972) نال الدكتوراه من نفس الجامعة بإشراف الدكتورة، سهير القلماوي، المشهورة بأنها تلميذة طه حسين المفضلة. * وكثيرا ما استضافني سي الركيبي في بيته، وحدي أو مع غيري، وكثيرا ما حملني في سيارته الصغيرة إلى حيث أسكن قبل أن أشتري سيارة. وهو من القلائل الذين كانوا يعرفون ويتابعون معاناتي جراء عدم اعتراف سلطات الجامعة الفرنكفونية بشهادتي، مما ترتب عليه حرماني من السكن الوظيفي وعدم استلام أي راتب، وقد كنت أرفض ما كانوا يسمونه التسبيقة. وقد كان يسعى في صمت لإيجاد حل لهذه المعاناة، التي دامت سنة دراسية على يد من كنا نسميهم "اللوبي الفرنكفوني"، لأن الجامعة كانت تحت النفوذ الأكاديمي الفرنسي ببرنامجها وإدارتها ومكتبتها. فكنا مع الأستاذ صالح خرفي في أقلية من "المعربين" الذين التحقوا بجامعة الجزائر "المفرنسة"، وكان علينا أن نخوض صراعا مريرا مع القوى العلنية والخفية التي كانت تؤسس لبقاء الجزائر فرنسية، ولو حصلت في ظاهر الأمر على الاستقلال. * في هذه الأثناء، سعى سي الركيبي وأصدقاؤه إلى ترشيحي نائبا للعميد، إلى أن نجحوا في مسعاهم، وكان ترشيحي في نظرهم منطقيا، لأنني كنت الجزائري الوحيد الحاصل على الدكتوراه. ورغم إلحاحهم، فإنني كنت متمنعا وغير راغب في المنصب، لأنني لا أقدر على الصراع ولا أرغب فيه. وتحت ضغط الأصدقاء أمثاله قبلت الترشح. وللغرابة كانت النتيجة إيجابية لأننا حصدنا على الحد الأدنى للفوز بنائب عميد كلية الآداب. وهكذا أصبحت أحد نائبين (الآخر هو الأستاذ عبد الحميد حاجيات) لعميد كان يعلن بالصوت المليان، أنه مع الثقافة الفرنسية، وأنه لن يخون فرنسا التي يفتخر بأنه خدم في جيشها ضد ألمانيا، خلال الحرب العالمية الثانية. * كان سي الركيبي يهاجم خصوم الثوابت الوطنية ولا يبالي بالعواقب، خلافا لسلوكي في التعامل معهم. وكثيرا ما دخل في ملاسنة مع الخصوم، وكان يساعده على ذلك فصاحة اللسان ورباطة جنانه وصدق إيمانه بالقضية التي يدافع عنها. وكان صوته جهوريا وحادا، ولكن أفكاره كانت مشوشة، فهي تنثال عليه انثيالا فيسترسل في الحديث، أو بالأحرى الهجوم، إلى حد الإطالة. وكان الطرف الآخر ماهرا في المراوغة وفي فن الردود، ظاهر التعريض به والإساءة إليه، ولكن بأسلوب هادئ ووخزات تجرح ولا تدمي. * طالما جمعتنا في الجامعة وغيرها لجان واجتماعات وامتحانات. وفي خارج الجامعة، كانت لنا مجالس في بيتينا أو في بيوت أصدقائنا. وقد التقينا مرات في بيته بالقاهرة، عندما كان يحضر للدكتوراه مع مشرفته التي كانت تعجب بأدبه. وكان سي الركيبي لا يترك فرصة إلا عرفني فيها بأصدقائه المصريين من أدباء الجيل الجديد، أمثال عبد المحسن طه بدر وعبد المنعم تليمة. وقد قدم له بعض كتبه التي طبعها في القاهرة أدباء، من أمثال شكرى عياد وصالح جودت والقلماوي. * وفي مصر أيضا، عرفني سي الركيبي على أصهاره، وهم عائلة (حرك) التي استضافتنا بكرم وأريحية، وكان من بينها من يهتم بقضايا العمال ومن يهتم بالصحافة والأدب. وقد زار أفراد منها الجزائر، وعبروا عن إعجابهم بشعبها وثورتها. ولعل أكبر حادث أثر على سي الركيبي في تلك الأثناء هو مقتل ابنته الوحيدة، حنان، في حادث سيارة مريع بينما كانت تلعب بين يديه في مصر. وقد ظل تأثير فقدها جرحا في جوانحه، حتى بعد أن طال عليه العهد، وبعد أن عوضه الله بثلاثة أولاد (هشام وزياد وخليفة). وربما لا يشبه تأثير فقد ابنته عليه إلا تأثير وفاة شريكة حياته، بعد مرض العضال. * خدم سي الركيبي الأدب الجزائري بتدريسه في الجامعة وفي تآليفه وفي دراساته الأدبية العديدة. وقد درس فنونه من قصة ورواية ومسرحية ومقالة. ثم إن الفضل يرجع إليه في ريادة الكتابة عن القصة دراسة ونقدا، ومنها تعرية الفرنكوفونية وآدابها، والكشف عن دور الأوراس في أدب الثورة، وقد تناول أيضا القضية الفلسطينية في الأدب الجزائري، وهي القضية التي عاشها بقلبه ولسانه وقلمه. وكان من الناقمين على موقف السادات الذي جمد دور مصر في الوطن العربي. وكانت زوجته تشاركه في كثير من أفكاره، وكانت أستاذة الأدب العربي في إحدى الثانويات، وشاعرة قومية الشعور والهوى. * وخدمة للأدب الجزائري، أشرف سي الركيبي على عدد من الرسائل الجامعية، وتخرج على يديه طلاب جيدون ظلوا أوفياء له، أغلبهم من الجزائريين، وبعضهم من الوطن العربي. وقد شارك في مناقشة الرسائل الجامعية، وبعضها ناقشه عندما كان سفيرا لبلاده. * يتبع