في الطريق إلى الدولة الإسلامية كنت أرى أن على الطلبة أن يستفيدوا من كل التيارات والحركات الإسلامية بدون أن ينحازوا ولا يقيموا في هذه السن من العمر تكتلا شبه حزبي من خلايا أو أسر كما تعرفها جماعة الإخوان ولكن ينهلوا من كل العلماء ومن كل البلدان حتى يصبحوا رجالا حقا بعدما يقيموا بيوتا وأسرا ويقومون بدورهم في عشيرتهم من دعوة إلى الالتزام أكثر بأخلاق الإسلام من حجاب للنساء واستقامة وجمع للشمل. كنت أرفض أن يمضي الشاب وقته في المسجد ويدرس ويعلم وينشد ويترك دروسه المدرسية والثانوية والجامعية، كنت أكره أن ندعو مجموعة كبيرة من الشباب إلى المسجد لبضعة أيام نتحلّق حولهم ونمدهم بكل ما لدينا ثم نتركهم بعد ذلك لشأنهم يتساءلون عن كيفية السير والتفقه، فيقرأون بدون فهم ويؤيدون التشبث بالقشور والتشدد في قضايا ماتت أو لا تفيد وقد يصبحون لنا أعداء ينتقدوننا بغير علم وينتقدون المجتمع وينفرون الناس وخاصة عندما أخذوا يظهرون العداوة لآبائهم والشيوخ في المساجد، ولكن لا جدوى من كلامي لأنني لم أكن مهيكلا في الجماعات ولا يسمع لكلامي فهم أحسن مني لأنهم يتبعون العلماء حسب ظنهم فهم يبلغون وأنا أدعوهم لتكوين أنفسهم قبل كل شيء والتخطيط لما يريدون، ولكن لا ثقة لهم في شخص مثلهم فهم أصحاب الدعوة وأصحاب الواجب بدون نقاش. والعجيب العجاب الذي كان يذهلني منذ البداية في تصرف تلك الجماعات هو ميلهم لإدماج الشباب الصغير جدا في عباءاتهم وجعله تابعا لهم كالظل حتى وصل ببعضهم أن أصبحوا كآبائهم أو أكثر. أما في الجامعة فبدأت ألاحظ على دعاة جماعة الإخوان جمعهم لكل طالب خامل ثقيل الحس والحركة بحجة أنه هادئ الطبع مطيع للأوامر وملتزم بتعليمات الجماعة، أما القليل الصبر على ثقل طبعهم والسريع الحركة والتفقه وهضم البرامج في أقصر وقت فهو غير مرغوب فيه أو أنه موصوف بالمنرفز، ولو أن هذا الوصف صحيح في بعض الأحيان على بعض تصرفات بعض الإخوة الذين تهوروا في الرد على تحرشات او استفزازات جماعة المشايعة في الأحياء الجامعية... وهنا أحكي نكتة واقعية لأخ من الاخوة في الشرق كان ينتمي إلى جماعة الإخوان، وقعت له مشاحنة مع زميل له من التيار الشيوعي فرد عليه بخشونة أثارت شيئا من الإحراج لجماعة الإخوان في محيطها، فماذا كان حكمها على هذا الأخ؟ وصف بالمتهور وغير الصالح وأكثر من ذلك بالمريض نفسانيا، أي أنه مريض عقليا شيئا ما لكي لا تتهم الجماعة وطلبة المسجد، وللأسف صبغت عليه هذه التهمة حتى في المسجد وعزل وأصبح كل من يقترب منه في الحي يحذر منه، من طرف إخوانه في الدين، أصحاب الدعوة والعمل الصالح الذين يريدون إقامة دولة الإسلام بدلا من دولة الاشتراكية، هكذا جنّنوه بألسنتهم واتهموه بغير حق، أنهى دراسته بتحدّ على كل حال وتخرج طبيبا، وفتح بعد وقت قصير عيادة في حي في مدينته، فلما زاره صديق قديم له الذي حكى لي هذه القصة لم يجد عنده أي زبون وبقي طويلا عنده فلم يلاحظ دخول المرضى عنده، تعجب وقال له أرى إن هذا المكان لا يحتاجون لك كطبيب، أهناك غيرك من الأطباء يذهبون إليهم بدلا منك، أجابه لا يا أخي إنما الشعب في هذا الحي الكبير ليس لهم غيري ويذهبون لآخر بعيدا بدلا مني، ولكن لماذا يا أخي ألست طبيبا مؤهلا، لا يا أخي أنظر من النافذة لتفهم، أنظر إلى تلك الزاوية، هل تلاحظ أن هناك من يقف في ذلك المكان إنه من الإخوة الطلبة القدماء يترصدون زبائني إذا أتاني أحد يلتقطونه عند الخروج ويحذرونه من هذا الطبيب المجنون، نعم يا أخي، أنا أفكر في الهجرة تماما، لأن دعاية الخاوة ليس مثلها دعاية على وجه الأرض، فهم إذا قرروا شيئا وأصدروا فتوى أو رأيا لابد السمع والطاعة ولا يجوز أن تتحدى خطأهم فهم خلفاء الله في الأرض يحملون أمانة إقامة دولة الإسلام، لا يجوز أن تعارضهم، وإذا وصفوك بشيء ولو خطأ لابد أن تقول لهم أحسنتم جازاكم الله خيرا ووفقكم الله لما تقومون به، فهم لهم الحق عليك وما أنت إلا مسمار في طريقهم يجب عليهم أن يدقوه ويوطئوه أرضا، هكذا يا أخي منذ سنين وأنا الطالب الذي جنّ في الحي لم يخطئوا في حقي بل الدليل هاهنا لا يأتيني أي مريض، لأنه يعرف أني مريض مثله، هكذا ابتلاني ربي بهذه الفئة الباغية التي تسمي نفسها حركة إسلامية.. صدق أو لا تصدق، أما أنا فأصدق هذه القصة وأعرف أنهم قادرون على ذلك. وقع ما لم يكن في الحسبان مثال ثانٍ أذكره، واقعة حدثت لأحد الإخوة الملتزمين بنهج الإخوان من تونس، كان يدرس الطب وكان حقيقة أول من على يده تعرفت على ابن القيم الجوزية، كان خلال سنة 73 - 74 يقرأ في كتاب "مدارج السالكين"، كان ملتزما ويقيم لنا حلقات يوم الأحد نتدارس فيها القرآن الكريم ومواضيع مختلفة وينهج بنا التدرج، فإذا به بعد رجوعه من العطلة الصيفية يعتزل المسجد ويبدأ بالتدخين ويغيّر اتجاهه، لا أقول إنه أصبح غير مسلم ولكنه أصبح لا يعمل ضمن الجو الحركي، تأثرت بهذا الأخ وذهبت لزيارته في بيته واستفسر عمّا وقع له حتى أصبح لا يريد مخالطة الإخوة، قال لي يا أخي وقعت في خديعة، كيف ذلك؟ قال: كنت خطبت فتاة من أخيها معنا في الحركة وقد شكرها لي وقال إنها ملتزمة ومتحجبة، فرحت بها ووعدتها فور ما أنهي دراستي سأقيم بيت الزوجية، والتحقتُ بدراستي كما كنت تراني ولكن وقع ما لم يكن في الحسبان، في يوم من الأيام جاءتني برقية من أخي يدعوني لأزوره في أقرب وقت، قال ذهبت في عطلة دراسية لأرى ماذا حدث، فقال لي أخي يا ابن أمي لقد غرّر بك، إن الفتاة التي خطبتها غير صالحة وأخوها الذي يتظاهر بالتقوى يعلم ذلك. قلت: هذا محال، قال لي أخي سأريك، انتظرنا حتى أتى المساء واختبأنا في السطح لنرى، فيا ويلتاه ماذا أرى الفتاة عارية الرأس بلباس غير محتشم تغازل جارا من فوق السطح.. قال أخي هذا الأول سترى غدا الثاني، ذهب بي إلى مكان ننتظر مجيئها، هاهي أتت أنظر إلى السيارة التي ستركبها هذا الثاني وأنت الثالث الزوج الاحتياطي المسلم الذي ستمسح فيك ذنوبها يا مغرور بالخيوة، بالخوانجية، هكذا صدمت يا أخي بهذه الأخت المزعومة والأدهى والأمر أن أخاها الذي كان يمدح تديّنها كان عالما بتصرفاتها وأراد أن يجعل مني خروفا لهم جميعا.. هكذا تخلّى أخونا عن الفكر الحركي ورجع إلى طبيعة الحياة ينظر إليها كفرد له ما له من حقوق وعليه ما عليه من واجبات ولا يرتفع عليها ويظن أنه مكلف بإصلاحها حسب مخطط وضع له من طرف جماعة خرجت من زمن بعيد في الأربعينيات من مصر الحبيبة على يد شاب معلم أصبح قدوة ومرشدا بل مرجعا كاد أن يصبح مقدسا.. في تلك الفترة، ما بين 73 - 75، أخبرني أحد الاخوة أن جماعة الإخوان المصريين، الأم الموجودة الآن في الكويت، عينت لنا في الجزائر الشيخ محفوظ نحناح رحمه الله مرشدا لنا في الجزائر. أصبحت مشحونا بفكرة إقامة الدولة الإسلامية بتدرج، بداية من تكوين الفرد ثم الأسرة ثم المجتمع ثم الدولة، فعزمت على تكوين نفسي لأصبح إطارا بانيا لهذه الدولة المنشودة وبما أننا نحن اللبنة الاولى فعلينا أن نكون أنفسنا في جميع الاختصاصات ونتمكن من إخراج نموذج الدولة الإسلامية من التراث الإسلامي وتصميم هيكلها بأساليب عصرية تجعل منها نموذجا يحتذى به فلا هي دولة النمط الاشتراكي أو الشيوعي أو على النموذج الرأسمالي أو غير ذلك من النظم الوضعية فهو نظام وسطي يحترم حرية الفرد والجماعة ويشجع التكامل بين الفرد والجماعة، يأخذ بجميع أسباب القوة والتمكين في الأرض.. إذ علينا ان نكون مهندسين معماريين لدولة بكاملها، نصمم ونبدع بعقل إسلامي متفتح راشد، انطلقت كالبرق ألتهم كل شيء، أقرأ من علوم الإدارة والتنظيم وكتب التراث والشريعة، كنا نحضر ملتقيات الفكر الإسلامي حيث كانت فرصة للتعرف على الاخوة في جميع أنحاء الوطن، والالتقاء بأساتذة وعلماء من العالم الإسلامي، منهم الداعية الحركي ومنهم الأستاذ الأكاديمي، أذكر لقاء مع راشد الغنوشي مرشد جماعة الإخوان بتونس تبادلت معه الحديث حول جدوى اتباع منهاج الاخوان المصريين بدون إدخال تغييرات عليه، فكان له رد جميل جدا ملخصه أن الاخوان وغيرهم من العلماء لايعرفون قدرا للمغرب العربي في ميدان العلم والعلماء، فالمراجع كلها من الشرق بداية من مصر ذهابا إلى الشرق، مع العلم أننا في المغرب العربي ننتمي إلى أعرق وأجمل ما أنجزت الحضارة الإسلامية وأين؟ في الأندلس، وللأسف أن هذا الأخ لم يواصل تطوير والتعمق في هذه الملاحظة، باتخاذ منهج دعوي، إصلاحي خاص بنا في المغرب العربي بدون التمسك بالأسلوب الحركي المبتدع في الشرق، فلو أنه أخذ محل الجد هذه الملاحظة وانتج منهاجا وطريقة للعمل الإسلامي الخاص بنا مثل جمعية العلماء في تونس والجزائر وتطوير أسلوبها لنجحنا في إقناع خصوم الحل الإسلامي بأنه غير ضار لهم بل سيستفيدون منه وهم مرحب بهم للإشتراك في تطويره والتعاون معنا لإخراجه للوجود وتنفيذه وإنجاحه، خاصة أننا في المغرب العربي يجمعنا الدين الواحد وحتى الذي نسي دينه وألحد أو غير دينه لا تجد فيه بعد المعاشرة لدّا أو خصما بل في بعض الاحيان معينا لك في الدين ومستحسنا لعملك ومحترما إذا ما تعاملت معه بالحسنى، أفلا يقول الجزائري إن "اللّي يجيني بالملاحة نعطيه بَالْطُوياَ" أي الذي يعاملني بالطيبة أعطيه معطفي.. خلاصة بداية دخولي في الإسلام الحركي أتممت دراستي الجامعية وقد كدت أن أتمم برنامج التكوين الإخواني الاول الذي كان مقررا لجماعتهم في الكويت ولكن بدون أن أصبح مناضلا أو قل إن شئت أخا في التنظيم بل محبّا فقط، لا أفضل هذه الجماعة على الأخرى المسماة جماعة طلبة مسجد الجامعة المركزية أو البنّابيّين إلا بالمراجع الواضحة للأولى وأما الإخوة فكلم كانوا عندي سواسية ولكل فضله وطريقته وحماسه وظروفه، أما نشاطي فهو حر لا يلتزم بهذه الجماعة ولا بالأخرى ويعتبر ان العمل الصالح غير مقيّد بتنظيم، هكذا إذاً جُلتُ مع جماعة التبليغ وخرجت معها واتصلت ببعض المجاهدين وتعرفت عليهم وظننت فيهم خيرا وحاولت أن أجد عندهم الحماس لإصلاح نظامنا السياسي بإبداله بنظام إسلامي، كانت لهم فكرة عن الإصلاح ولكن مخلوطة بالتقاليد والأعراف ورجالهم من الجيل القديم الذي لا يعرف إلا الاشتراكية كمنهج سياسي. الخلاصة أنني أصبحت متشبعا بالفكر الإسلامي الحركي الهادف إلى إقامة دولة إسلامية ولكن أعمل بأسلوب فردي وبحرية فكر ومبادرة وأخ لكل الناس، كانوا يسمون أمثالي إلكترون حر يدور بمفرده في دائرته. لقد بدأت أحرج المنتسبين إلى جماعة الإخوان وأجدهم أثقل فهما وعملا وتقليديين أكثر من باحثين ومجتهدين، أما جماعة بن نبي العاصمية فهي بحكم بعدها عني لا أجد فيها مبتغاي وكذا في عدم وجود عناصر لها في وهران أحتك بهم ونعمل معا. بهذه الخلفية الفكرية سخر لي ربي منحة دراسية إلى أمريكا لتحضير شهادة الماجستر في إحدى أرقى جامعات أمريكا وأصعبها. يتبع...