صور للدمار والخراب وأخرى للأمل بغد أفضل من الأيام السوداء التي عاشها الليبيون أيام حكم ما يصفه الليبيون بالجلاد الطاغية القذافي، هي ما وقفت عليه "الشروق" كأول صحيفة جزائرية تدخل الأراضي الليبية، بعد الإعلان عن سيطرة الثوار على أغلب الأراضي وتحريرها من كتائب القذافي، إضافة إلى توتر العلاقات بين المجلس الانتقالي الليبي والحكومة الجزائرية لإيوائها أفراد عائلة القذافي الفارين إلى الجزائر، وتصريحات عائشة القذافي من الجزائر لقناة الرأي السورية بضرورة مقاومة من يوالي أباها للثوار والخونة كما وصفتهم. * بداية الرحلة باتجاه لليبيا * منذ اندلاع الثورة الليبية والكثير من الجزائريين كانوا يتطلعون بشغف لأخبار الانتفاضة ضد العقيد معمر القذافي، حتى أصبحت كلماته "زنڤة زنڤة" مثارا لسخرية والاستهزاء في شوارع الجزائر العاصمة وغيرها من ولايات الوطن. * كانت فكرة المغامرة بالتنقل إلى الأراضي الليبية تحمل بكل ما تحمله الكلمة من معاني المخاطرة، غير أن طبيعة العمل الصحفي ومحاولة نقل حقيقة ما يحدث في الجارة الشقيقة ليبيا من أحداث المعارك والقتال الدامي الجارية أحداثه بين الثوار والموالين للقذافي في عدد من المدن الليبية، دفعنا أكثر إلى الإقدام على ترتيب عملية السفر مع قيادي المجلس الوطني الانتقالي، لتسهيل مهمتنا على الأراضي الليبية. * تطلب وصولي إلى المعبر الحدودي التونسي الليبي المشترك "رأس جدير" انطلاقا من الجزائر العاصمة قطع مسافة تزيد عن 2000 كلم، طيلة يوم كامل ابتداء من مطار هواري بومدين إلى مطار "قرطاج" بالعاصمة تونس، ثم الانتظار لساعات أخرى قبل الظفر بتذكرة على القائمة الاحتياطية، لأسباب ترجع للعدد الكبير لليبيين العائدين إلى ديارهم بعد استتاب الأمن نسبيا في مناطق يسيطر عليها الثوار خاصة بالجهة الغربية، تجاذبت أطراف الحديث معهم ليخبرني بعضهم أنهم قدموا من الجزائر بعد فرارهم خلال الشهر الفارط إليها، عبر معبر دبداب من غدامس. * * جزائريون عالقون على معبر "رأس جدير" باتجاه ليبيا * في حدود الساعة الرابعة من مساء ذات اليوم، كنت على مشارف البوابة الحدودية "رأس جدير" كانت حركة التنقل كثيفة جدا، من كل الجنسيات باستثناء عشرات الجزائريين من ولايات بلعباس ووهران وعين تموشنت وعنابة رفقة عائلاتهم عالقين بالمعبر منذ أسبوعين، بسبب رفض أعوان الجمارك وشرطة الحدود التونسية المصادقة على جوازات السفر للأشخاص الحاملين للجنسية الجزائرية بالتأشير لهم للدخول إلى التراب الليبي، بدعوى أن القانون الذي أصدره العقيد معمر القذافي وابنه سيف الإسلام بمنع أي أجنبي من الدخول إلى ليبيا بدون تأشيرة يتحصلون عليها من السفارات والبعثات الدبلوماسية الليبية في بلدانهم الأصلية، لا زال جاريا، غير أن الآلاف من الجنسيات الأخرى كالتونسيين والمصريين والمغربيين والموريتانيين، يسمح لهم بصورة عادية الدخول إلى الجانب الليبي دون أدنى عراقيل تذكر. * هذا الإجراء مسني أيضا باعتبار الجنسية الجزائرية التي أحملها، رغم طبيعة مهمة العمل وإظهاري للوثائق الخاصة بذلك وكذا تحدثي مع المسؤول التونسي للبوابة، اضطررت للاتصال بمسؤولي المجلس الوطني الانتقالي الليبي، أين أجروا بدورهم اتصالات مع مسؤولي مدينة "زوارة" وكتيبة الثوار الحارسة للمعبر في الطرف الليبي وبعد أخذ ورد بين الطرفين الليبي والتونسي، وافق التونسيون على مصادقة جواز سفري للدخول للجانب الليبي، لكوني مدعوا من طرف المجلس الانتقالي في طرابلس وأنني شخص مرحب بي. * * "الشروق" رفقة ثوار ليبيا * أول شيء يشد انتباه الزائر إلى ليبيا بعد ثورة 17 فيفري، على بعد أمتار من الأراضي التونسية، توزع عشرات المسلحين من الثوار بالزي المدني والعسكري، بمراكز الحراسة ومقرات الجمارك الليبية، وجدت آمر كتيبة منافذ الحدود "رأس جدير" عبد الحكيم الزواري غالي القندوز في انتظاري، وبعد التأكد من هويتي رحب بي وبوطني الثاني كما وصفه، وراح بعفوية في تعريفي بعناصر من الثوار الذين هم تحت إمرته، قال لي "أنت الآن في مأمن، وقد أبلغونا من طرابلس بنقلك إلى مدينة زوارة وبعدها يحولونك إلى العاصمة طرابلس للمهمة التي قدمت لأجلها" * لم يتردد الكثير من الثوار بترديد صيحات "الله أكبر" وعبارات "الله يمهل ولا يهمل" بعد علمهم بهويتي، حاولت الاقتراب والحديث من بعضهم عن الثورة التي أطاحت بحكم رجل تسلط على رقاب الملايين من الليبيين لفترة زادت عن 43 سنة. * أول من تحدثت إليه سالم الغرياني لم يتجاوز 25 من العمر، يقول "أنا مدرس في التعليم، انضممت إلى الثورة في بدايتها، وبعد سقوط معبر رأس جدير وفرار الموالين لكتاب القذافي تم تحويلنا إلى هنا من نقطة إغرماون"، وأضاف "نعمل بصورة طبيعية جدا، خاصة وأن الإجراءات القانونية يباشرها أشخاص شرفاء ذوو خبرة لم تتلطخ أيديهم بدماء المواطنين الليبيين". * بعد الفراغ من الحديث مع سالم، تقدم إلينا عدد من المواطنين الذين يريدون العبور إلى الجانب التونسي، أصروا على نقل معاناتهم اليومية، حيث أكدوا أن ما يزيد عن 3 ألاف شاحنة يوميا تنتقل عبر هذا المعبر باتجاه المدن التونسية كبن قردان ومدنين وغيرها من أجل التزود بالمؤونة والمواد الغذائية لصالح سكان المنطقة الغربية، وأضافوا "لماذا السلطات الجزائرية أغلقت أبوابها في وجوه الملايين من الشعب الليبي، لأجل التزود بالمواد الغذائية فقط"، وحسب ذات المتحدثين "الأمر لا يعقل، ففي الوقت الذي كانت فيه آلاف الأطنان من المواد الغذائية التموينية تتدفق على نظام القذافي وأزلامه من الجزائر، قبل سقوطه يقفل أحفاد أبناء المليون ونصف المليون شهيد حدودهم في وجوهنا، ووجوه الأطفال الجياع والمرضى والجرحى خاصة بمدينة غدامس، ولو فتح الجزائريون معبر دبداب لكان الوضع الإنساني خاصة بالمدن الحدودية والوسطى أكثر تحسنا". * في هذه الأثناء تقدم إلي عبد الحكيم الزواري آمر كتيبة "رأس جدير" ملحا علي بضرورة التنقل إلى مدينة زوارة، للتكفل الأحسن بي، قبل حلول الظلام وسوء الأحوال الجوية التي ميزت المنطقة خلال الساعات الماضية. * جزائريون شاركوا مجاهدي ليبيا في الثورة ضد القذافي * ركبت رفقة أربعة أشخاص مسلحين برشاشات كلاشينكوف الروسية وأسلحة أمريكية الصنع، سيارة رباعية الدفع "ستايشن" في موكب من الثوار في سيارات أخرى كانت ترافقنا، لتأمين الرحلة عبر كامل مسافة الطريق ال 70 كلم الرابطة بين مدينة "زوارة" والمعبر الحدودي رأس جدير. * خلال مدة الرحلة، حاولت جاهدا أن أثير شهية آمر الكتيبة ورفقائه بالحديث إلي، رغم الحساسية التي ميزت اللقاء لكون الجزائر خذلت الثورة حسب اعتقادهم بإيواء أفراد عائلة القذافي وكذا حيادها المثير للكثير من التساؤلات خلال انطلاق الثورة، رغم اعتراف أغلب دول العالم بشرعية الثورة واختيار الشعب الليبي في محاسبة جلاديه. * أهم شيء دفع رفقائي في سيارة "الستايشن" إلى الحديث معي، معرفتي للغة الأمازيغية التي كانوا يفتخرون بالحديث بها، تعجبوا من إيجادتي لها غير أن هذا لم يدم طويلا، بعد أن عرفوا أني منحدر من منطقة القبائل بالجزائر، حدثوني عن الجزائر العاصمة وتيزي وزو وميشلي "عين الحمام" وبومرداس وبجاية وبرج بوعريريج والبويرة، إضافة إلى مدن أخرى كباتنة وخنشلة، كانوا يقولون أن الأمازيغ كلهم لحمة واحدة في منطقة المغرب العربي الواحد من ليبيا وتونسوالجزائر والمغرب الأقصى، في هذه الأثناء يتدخل أستاذ للتعليم العالي كان يرافقنا ليقول "نحن نعلم أن الجزائريين كمواطنين مع الثورة واختيار الشعب، ولكن حسابات السياسيين هي التي تعقد من الأمر بين الشعبين" ويضيف "بل أكثر من ذلك كان هناك عدد لا بأس به من الجزائريين المقيمين في ليبيا بجانب مجاهدي الثورة منذ انطلاق شرارتها الأولى، وخير دليل على ذلك الأخ شعبان زايدي 56 سنة المنحدر من ولاية تيزي وزو، لم يتردد يوما في الوقوف بجانب المجاهدين الثوار ضد أزلام القذافي وأفراد عصابات الكتائب الأمنية" وصور كثيرة لتعاون الإخوة الجزائريين المقيمين في ليبيا مع المجاهدين الثوار. * ثوار ليبيا.. الرشاش في يد والمصحف في اليد الأخرى * كنت من فترة لأخرى، أحاول رفع انتباهي أكثر لما يدور حولي بسبب اختلاف كلمات كثيرة بين أمازيغية ليبيا والجزائر، إضافة إلى مرورنا بأكثر من 18 حاجزا لمجموعات مسلحة من الثوار تم نصبها على مسافة ال70 كلم، جال في خاطري كل الأفكار خاصة وأننا كنا على الطريق الساحلي بالقرب من مدينة "زلطن" التي يتمركز فيها موالون للقذافي، على مسافة لا تزيد من 4 كلم من المدينة المذكورة. * فجأة توقفت المركبات، ونزل عبد الحكيم ورفاقه لتفقد الحواجز الأمنية التي تعد نواة القوات الأمنية والعسكرية في المنطقة، نزلت أيضا من السيارة لأتفاجأ بشباب في مقدمة العمر لا يتجاوز سن أكبرهم21 سنة يقودهم رجل مسن، لضبط الأمور كما أخبرنا هو عن نفسه، كان الكثير من الشباب الذين التقينا بهم في نقاط المراقبة والتفتيش بادية عليهم آثار التدين والالتزام بتعاليم الدين، من رفع قمصانهم وإسدال لحاهم والمحافظة على الصلوات الخمس، حيث شدني منظر شاب في مقتبل العمر بالزي العسكري واللحية الخفيفة واقف للصلاة العصر وسلاحه يتوسطه في الأرض بين قدميه. * تيقنت بعدها أن ثورة الليبيين كانت بدوافع دينية أكثر من غيرها، ليؤكد لي هذه القناعة العشرات من الثوار الذين قابلوني بصيحات الله أكبر على كل من طغى وتجبر، إضافة إلى حديث مرافقي عن المسائل الدينية، وفي هذا الصدد يؤكد أستاذ التعليم العالي من زوارة "أن الدين في قلب الشعب الليبي كالجمرة التي تحتاج إلى إيقاد، والحمد لله الثورة أوقدتها ولن تنطفأ مرة أخرى أبدا، الشباب كلهم في إقبال على التدين، والمصحف في يد والرشاش في يد أخرى". * * النجاة من اشتباك موالين للقذافي بمدينة "زلطن" * خلال هذا الحديث، وصلنا إلى طريق تم سده بأكوام ترابية كبيرة، لمنع تنقل حركة المركبات يوميا باتجاه "زلطن" التي يقطن فيها أكثر من 15 ألف قاطن يوالون القذافي حسب سكان مدينة زوارة، توقفنا برهة بعد سماع إطلاق كثيف للنار بالمنطقة كان على مقربة منا، اعتقد آمر الكتيبة المكلف بمرافقتي أن الأمر يخص صدا لمحاولة موالين للنظام القديم باختراق الطوق الأمني المفروض عليهم حتى الاستسلام، لذلك توجب الانتباه أكثر في خضم الاشتباك، مضيفا "أعوان القذافي لا يتورعون عن قتلك أو إلحاق الأذى بك إن ظفروا بك من أجل استثارة الجزائريين ضد الثوار بدعوى أننا من تسبب في ذلك" وكذلك يثيرون مثل هذه القضية حتى يتسنى لهم الفرار إلى تونس كما حدث مع قائد الحرب في المنطقة الغربية لليبيا اللواء العيساوي، الذي تم توقيفه عقب حادثة تشبه هذه". * بعد مغاردتنا للطريق الساحلي الرئيسي، وسلوكنا لمسلك ترابي يؤدي إلى الطريق المعبد للمصنع الكيماوي "بوكماش"، عاد الهدوء إلى سيارتنا واطمأننت أكثر بعد سماعنا للنشيد الليبي باللهجة الأمازيغية التي يسعى أكثر من 2 مليون ليبي بالغرب لترسيمها كلغة رسمية ثانية على غرار تجربة الأمازيغ بالجزائر. * سألت عن المسافة التي تفصلنا عن مدينة الزوارة، ليأتي لي الجواب أنها لا تتجاوز 15 كلم، مررنا خلالها بمناطق ك "غابة بوكشفة و"إغرماون" و"ماتشوك"، إلى أن بدأت مباني مدينة زوارة تتراءى إلينا بصورة جيدة، أين قضيت في المدينة ساعات أخرى قبل نقلي إلى العاصمة طرابلس.