بتجديد حملة تخويف أعراب الخليج من ضربة إسرائيلية للنووي الإيراني، تكون حليمة الأمريكية قد ارتدت إلى عادتها القديمة، لتبتز الأعراب بالخوف، وحملهم على مزيد من الانخراط في مسار بناء شرق أوسط أمريكي، يوضع فيه بقية العرب بين الهلال الشيعي الصفوي، والهلال التركي الإخواني، بمشاركة فعالة من المقاولين العرب السذّج لولاية فقهاء العجم على الأعراب. * لأكثر من سنة ونصف توقفت آلة الابتزاز الغربية عن الضخ الإعلامي في ملفي: النووي الإيراني، والمحكمة الدولية الخاصة بلبنان، حتى يفسح المجال لمواخير ويكيليكس بصرف المياه الفاسدة في المشهد الرسمي العربي، عشية إطلاق الربيع العربي. فقد سكتت الوكالة الدولية للطاقة عن الكلام المباح لتخويف العوام من أعراب الخليج بالبرنامج النووي الإيراني، كما توقفت آلة التهديد والضغط والابتزاز في ملف اتهام المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، لعناصر من حزب الله بالتورط في اغتيال الحريري. * وحتى تكتمل صورة الابتزاز الغربي للمنطقة العربية، وتحديدا لعرب الخليج، وحملهم على الانخراط الكامل في مسارات الربيع العربي، فقد سلط موقع ويكيليكس والجزيرة لتقويض سلطة أبو مازن بتسريبات قاتلة، أنهت دوره ودور داعميه من عرب الخليج في الملف الفلسطيني لصالح قوى فلسطينية، باتت حليفة لسورية وحزب الله وإيران. * تخويف الأعراب من إيران ضاربة أو مضروبة * هذا ما كنا عليه منذ سنة ونصف السنة، عشية اندلاع أحداث الربيع العربي. فما الذي حدث حتى ينتكس بالمنطقة إلى المربع الأول بإعادة تشغيل طبول الحرب وترهيب عروش الخليج؟ وهل أن العودة إلى مسلسل التهويل والتخويف بضرب إيران، وتداعياته على المنطقة العربية في الخليج، له ما يبرره في ما تضمنه التقرير الجديد للوكالة الدولية للطاقة؟ أم أن الحاجة تبرر الوسيلة، وأن مسار معالجة منطقة العالم العربي بمفردات الربيع العربي، المتوحل في رمال ليبيا، المعوق بألف عائق وعائق في تونس ومصر، المتعثر في اليمن وسورية، يحتاج إلى مزيد من التهويل، والتخويف، والضغط والابتزاز لأعراب الحليج، من أجل مزيد من الانخراط خاصة في المسار السوري؟ * غير أن المتابع الحصيف لحملة التهديدات الإسرائيلية، بقرب توجيه ضربة للمنشآت النووية الإيرانية، يلاحظ ذلك القدر من التركيز في الحملة الجديدة على تداعيات الضربة على دول الخليج أكثر منه على إيران، كان آخرها تصريح وزير الدفاع بانيتا، وإجماع الخبراء العسكريين الغربيين، على أن الضربة لن توقف البرنامج النووي الإيراني، بما يعني أن الحملة تعمل على خلق حالة من الخوف والفزع عند دول الخليج، والدفع بها إلى البحث عن حماية غربية، خاصة مع قرب رحيل الجزء الأكبر من القوات الأمريكية من العراق، والدفع العربي المسبق للحماية، إما في شكل صفقات تسلح جديدة، أو القبول بتمركز جزء من القوات الأمريكية المنسحبة من العراق في بعض دول الخليج، أو الدفع بدول الخليج إلى الانخراط أكثر في مسار إسقاط النظام السوري، لتكرار السيناريو الليبي. * أحجية الصراع الأمريكي الإيراني الكاذب * قد يكون من المفيد، الوقوف قليلا عند مفردات "الصراع" الغربي الإيراني، وتفكيك الأحجية فيه، لأنها فعلا أحجية، ومقارنة مسار هذا الصراع بمسارات أخرى من الصراع الغربي العربي. فمما لا شك فيه، أن قوى الاستكبار الغربية لم تظهر كثيرا من الرغبة والحزم في تعويق ثورة الخميني ضد شاه إيران، ونتذكر جميعا كيف تخلت الولاياتالمتحدة عن حليفها الشاه محمد رضا بهلوي، وقد ينسى البعض ذلك "العجز" الأمريكي في تحرير رهائن السفارة الأمريكية لأكثر من 440 يوما من قبضة النظام الخميني الجديد الفتي الضعيف، لكن لا أحد ينسى كيف وضعت دول الخليج وقتها تحت التخويف والابتزاز، ودفع بها إلى تمويل تجدد الحرب العراقية الإيرانية بمئات المليارات من الدولارات، ثم نقل الخوف من إيران إلى الخوف من الجار العربي في العراق، وما تبع ذلك من مفاعيل حربي الخليج الأولى والثانية، دفع فيها عرب الخليج كلفة مالية وسياسية باهظة. * وليس خفيا على الجميع كيف ساعد ريغن نظام الملالي عبر صفقة الأسلحة الإسرائيلية في ما سمي بفضيحة "إيران غيت"، كما ليس خفيا على أحد التدخل الغربي في الوقت المناسب لإنقاذ الجيش الإيراني من الانهيار بعد هزائمه في معركة القادسية، وهرولة "المجموعة الدولية" إلى مجلس الأمن لإصدار القرار الذي أوقف الحرب الإيرانية العراقية. * حاجة العم صام لوظيفة فارس القديمة * على أكثر من مستوى ومسار، دأبت السياسة الغربية في ملف الجمهورية الإسلامية الإيرانية على تحقيق توازن دقيق بين حاجتها إلى قوة إقليمية، تسخر كبعبع لإخافة عروش الخليج، وحاجة الغرب إلى الإبقاء على القوة الإيرانية دون المستوى الذي يهدد مصالح الغرب في المنطقة، أو يشكل تهديدا حقيقيا على مستقبل إسرائيل، حتى بعد انتهاء دورها الوظيفي ، وإلا كيف نفسر ذلك التدافع الأمريكي الغربي لضرب وتفكيك القوة العسكرية العربية الوحيدة القادرة على تحقيق توازن مع إيران، والمغامرة بعمل عسكري واسع في العراق، نفذ خارج غطاء الشرعية الدولية؟ * معظم الخبراء العسكريين والاستراتيجيين يجمعون، ومنذ سنوات، على أن تفكيك البرنامج النووي الإيراني يتجاوز طاقة إسرائيل، بل ويستعصي حتى على القوة الجوية والصاروخية الأمريكية، وأنه يحتاج إلى قصف أمريكي متواصل لأشهر، يعزز بإشراك قوات برية غربية ودولية، على غرار ما أنجز في العراق وأفغانستان ثم في ليبيا. * وضع جملة العرب بين هلالين * وفي كل الأحوال، فإن التهديد الإيراني للمنطقة العربية، لم ولن يأتي من برنامجها النووي العسكري، ولا من تسليم الولاياتالمتحدة العراق العربي إلى مقاولة إيرانية من الباطن، ولا من التمدد الشيعي في ما سمي بالهلال الشيعي، لكن التهديد الحقيقي القاتل لعموم الفضاء العربي، وتحديدا لمنطقة الخليج والشام، إنما يأتي من بداية تنفيذ مسار شبيه بمسار سايكس بيكو، يضع المنطقة تحت وصاية مزدوجة إيرانية تركية، تعمل تحت المظلة الأمريكيةالغربية، معركته الفاصلة يراد لها أن تنجز ببلاد الشام، بترحيل النظام البعثي السوري، وتسليم القيادة للإخوان المسلمين،؛ المسلمين بولاية الفقيه العثماني أردوغان، وتحقيق التواصل مع أقاليم الموصل ونينوى والأنبار السنية بالعراق، كمقدمة لتقسيم العراق بين سنة، تحت ولاية العثمانيين الأتراك، وشيعة تحت ولاية إيران الملالي. * صفوية إيران من رحم أعاجم الأتراك * ربما يكون العرب بحاجة إلى إعادة قراءة تاريخ المنطقة، والوقوف عند محطات كثيرة من تاريخ الشرق الأوسط، ظلت فيها المنطقة العربية تدار بتفعيل قوة الأتراك العثمانيين، والعائلات الإمبراطورية المتعاقبة على بلاد فارس، منذ زوال حكم التيموريين، وبداية حكم الصفويين. * في هذا السياق، يجهل الكثير من العرب حقيقة أن العصبية القومية التي قامت عليها الدولة الصفوية، إلى غاية شاه عباس الثالث، إنما كانت عصبية تركية أذرية، وأن أول شاه حكم فارس الصفوية، إسماعيل الأول، كان أول من لقب بلقب "المرشد الكامل" وهو نجل زعيم فرقة صوفية من أصول تركية تسمى "الكيزيلباش" بقيادة الشيخ صفي الدين، المنحدر من فيروز شاه، وهو من أتراك أذربيجان، انتقلت إلى التشيع، ثم استعملت الدولة الصفوية لتشييع فارس بقوة الحديد والنار. كما قد يجهل العرب أنه قد سبق للدولة الصفوية غزو واحتلال العراق، كما سبق للشاه ندير خان أن احتل كابل وقندهار بأفغانستان سنة 1738، وأن التعاون بين الدولة الصفوية والقوى الغربية يعود إلى زمن أعظم شاه في الدولة الصفوية، الشاه عباس الأول، الذي أعانه الإنجليز في حروبه مع العثمانيين والأزبك، ثم في استعادة جزيرة هرمز من البرتغاليين، وقد كان التمدد الصفوي يتناوب شرقا، في اتجاه أفغانستان وحتى الهند، التي غزاها ندير شاه، أو غربا، في اتجاه العراق ومنطقة الخليج، مع فترات من التوتر والحروب المفتوحة مع الباب العالي. * ولاية "المرشد الكامل" على العرب القصر * قد لا تفي هذه الإطلالة التاريخية السريعة بالغرض، لكنها قد تساعد على لفت انتباه العرب إلى الدور الإقليمي المتواصل لإيران، منذ إعادة بناء دولة فارس، وتشييعها على يد الصفويين، وأن الدور قد استمر مع البهلويين نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، حتى سقوط الشاه محمد رضا، وقيام الجمهورية الإسلامية سنة 1979. كما تساعد على فهم التنافس التركي الإيراني على النفوذ بالمنطقة، واستعانة الطرفين بالقوى الغربية لتوسيع النفوذ بالمنطقة العربية، أو الاحتفاظ به، ولا غرابة في ذلك فهو منطق الجغرافية، وحكم موازين القوة، التي غاب عنها العنصر العربي منذ تفكيك الخلافة العباسية، بل وربما في وقت مبكر منذ سقوط الدولة الأموية. * منطق الجغرافية وأحكام موازين القوة، هو ما لم يستوعبه العرب بعد عودتهم المحتشمة إلى التاريخ، ضمن القالب القطري المفكك والمجزأ الذي أوجدته اتفاقية سايكس بيكو، بعد سقوط الخلافة العثمانية مطلع القرن العشرين، والذي تزامن مع إنهاء الدولة الصفوية، وبداية حكم العائلة البهلوية، والتناغم الحاصل وقتها بين الدولة الأتتركية العلمانية وشاه إيران، كما نرى اليوم نفس التناغم بين ملالي إيران وإخوان أردوغان، وتنافسهما على الفضاء العربي، ولو من بوابة المقاولة من الباطن لقوى الاستكبار العالمي. * ضمور الحواس عند عرب أصيبوا بالتخشب * في كل هذا، ليس عندي أي مأخذ، لا على حكام إيران ولا على الحكام الأتراك، وهم يجتهدون، بالمنطق البراغماتي، وفنون السياسة والدبلوماسية، دفاعا عن مصالح دولهم وشعوبهم، باستثناء ما في تساوقهم مع الأجندة الأمريكية من توفير مزيد من فرص التمكين للهيمنة الأمريكيةالغربية على المنطقة، وعلى حساب مصالح شعوب عربية، لكني أشعر بقدر هائل من الإحباط حيال عمى الأبصار والبصيرة، والصمم الصلد، وتخشب الجوارح، وضمور معظم الحواس عند النخب العربية بجميع مشاربها، وهي تسقط في شراك لعبة جديدة قديمة، تدفع بها إلى الهرولة خلف الظل بدل الفريسة، وصرف النظر عن عدوها الحقيقي، واستنزاف قواها ومقدراتها في عداوات بلا أفق مع خصوم ثانويين، ثم الانخداع المرة تلو المرة، فالانقياد الطوعي إلى شراك حملات التخويف من الجار، الذي تحكم الجغرافية بوجوب التوصل معه والتسوية على قدر مقبول من التعايش، بدل البحث الجاد عن سبل بناء فضاء عربي متضامن، له من مقومات القوة ما ليس لتركيا أو إيران متى توفرت الإرادة السياسية. * تعريب التخريب الشامل لبيت العرب * فعلى خلفية تناقضات ثانوية، وصراعات على زعامة وهمية، كان العرب أشد أعداء العرب في العقود السبعة الماضية، وأكثرهم فتكا بمصادر القوة الحقيقية أو الكامنة للعرب. فلم تكن إسرائيل هي من عطلت تحول مصر إلى قوة إقليمية قائدة لعمل عربي ذي شأن، بل استنزفتها عداوة عروش الخليج، التي كانت وقتها تعيش تحت الخوف من الثوريين القوميين، ولم يكن العراق ليسقط، ثم ليفكك، لولا التآمر العربي عليه، ولم يقسم السودان إلا بعد خضوعه لعبث الجيران، ثم تجاهل العرب لمحنته في حرب طويلة مع ميليشيات الجنوب المدعومة من إسرائيل والغرب، وسقطت ليبيا تحت السيطرة الغربية والفوضى بمشاركة عربية حاسمة، ولن تسقط سورية إلا بعد أن يهرول العرب، بعد حملة التخويف الجديدة من إيران، للتضحية بها، قبل الالتفات نحو الجزائر: آخر كيان عربي سوف يساق بشكل من الأشكال إلى فوضى داخلية، أو حرب مع أحد الجيران، سرعان ما تدول لإفساح الطريق أمام قوات النيتو، وتثبيت الأمركة من البحر إلى البحر.