تهافت أعاجم الباب العالي ودولة الملالي على قيادة ما بقي من العرب الموالي من الشيعة والسنة بالوكالة والمقاولة من الباطن، لن يتوقف عند "استرداد" بغداد الرشيد مناصفة مع الأمريكان، وشام الأمويين بالمثالثة، حتى تنجز مهمّة إحالة إدارة أيام العرب بالوكالة لمشايخ العجم من المسلمين، والأخوان من العرب والبربر، ويلتحقون شعوبا وقبائل وهم صاغرون إلى بيت طاعة علوج الغرب، وسلطان مملكة الدجال الأمريكي الأعور. * في السباق المحموم الذي تشهده المنطقة العربية بين القوى العظمى والقوى الإقليمية المتوسطة من أجل اقتسام كعكة العالم العربي، نتابع بكثير من الإعجاب والتعجب والمساءلة المشروعة، الجهود التي يبذلها أحفاد الباب العالي من "العثمانيين الجدد" للفوز على الأقل بدور المقاولة من الباطل، والسدانة الرخيصة، التي لا تستحي مما أقدم عليه رجب طيب أردغان ورفاقه في الأزمة الليبية، وأحداث سوريا. *
* عودة "الباب العالي" من بوابة الدهاليز * فمن الضغط السافر على الجارة سوريا، رغم العلاقات الإستراتيجية بين البلدين، وحسن الجوار الذي كان يضرب به المثل، إلى الاعتراف التركي المبكر بالمجلس الانتقالي في بنغازي في الوقت بدل الضائع، ظهر واضحا، أن تركيا "العثمانيين الجدد" هي على استعداد لدفع أي ثمن قصد إرضاء الأوربيين، ومنهم خاصة فرنسا الطرف الأوربي الأكثر معارضة لانضمام تركيا إلى الاتحاد الأوربي. * الموقف التركي الجديد والخطير في آنٍ واحد، في ما يجري في سوريا وليبيا، له أكثر من محفز سياسي، كان ينبغي علينا أن نستشرفه مبكرا، حتى لا نشعر بالإحباط الذي نشعر به اليوم، ونحن نرى تركيا المسلمة، تسارع إلى إنقاذ حملة النيتو الصليبية من الإفلاس، بهذا الاعتراف التركي بالمجلس الانتقالي، ساعات قليلة بعد تلك التظاهرة الشعبية المليونية التي شهدتها طرابلس المناهضة للعدوان الصليبي، والمؤيدة للزعيم الليبي. *
* العثمانيون الجدد لقيادة الأعراب من "السنة" * المحفزات لهذا الموقف التركي كثيرة، يأتي على رأسها تلك الرغبة المرضية عند الإسلاميين الأتراك في استرضاء الأوربيين، وتشجيعهم على القبول بانضمام تركية، بوصفها بوابة أوربا على قلب العالم العربي. المحفز الثاني له صلة برفع رصيد الأتراك داخل حلف الناتو في جميع مشاريعه في الضفة الجنوبية للأبيض المتوسط، بحكم الموروث التاريخي للدولة العثمانية التي حكمت المنطقة قرابة خمسة قرون، وبحكم الدين المشترك، والعلاقات الجيدة مع معظم الدول العربية المطلة على الأبيض المتوسط. أما المحفز الثالث، والذي لم تتضح بعد معالمه، فله صلة بأطماع الأتراك في تولي القيادة الروحية الدينية والسياسية للعرب "السنة" من أجل موازاة الدور الإيراني جهة الكتلة "الشيعية" العربية، مادام هذا التوجه يندرج تماما ضمن الخطة الأمريكيةالغربية، التي تريد التأسيس لقاعدة متينة يجري فوقها صراع عربي داخلي مستدام على خلفية الصراع المذهبي "الشيعي السني". * عند هذا المستوى من التحليل المبدئي لحراك الأتراك، يبرز الدور المرتقب لتركيا، المحكومة بقوى إسلامية، قدمت أكثر من عربون للغرب عن استعدادها بسرعة للاندماج والانسجام، وخدمة التيار المهيمن في العالم، تماما كما استطاع الاشتراكيون في أوربا من قبل الانسجام والتأقلم مع النظام الليبرالي العالمي، وقدموا وما يزالون يقدمون اليوم خدمات جليلة لنظام عالمي كان قد شارف على نهاية تاريخية. *
* إدارة أيام وهوام العرب بزعماء العجم * لماذا يوكل هذا الدور لتركيا وليس لواحد من الدول العربية الكبيرة، مثل مصر أو السعودية، الأولى بحكم تاريخها ووزنها، وموقعها في قلب العالم العربي، والثانية بحكم مواردها المالية وسلطتها على الحرمين الشريفين؟ * لا شك عندي أن السعودية كانت، وستظل مبعدة وغير مرغوب فيها لتولي مثل هذا الدور القائد، لعالم عربي يراد له أن يدمج قسرا في النظام العالمي، وتحديدا في بنياته الفوقية الثقافية، ولأن السعودية بحكم تأثير المنظومة الدينية التقليدية، والثقافية "الوهابية" وهيمنة الفكر السلفي المتهم بالتطرف من جهة، وبحكم ضعف القوى الاجتماعية فيها، وغياب مجتمع مدني منفتح على الثقافة الغربية، لا تصلح في نظر الغرب لقيادة العالم العربي إلى ما يريده الغرب. وعلى خلاف ذلك، فإن مصر مؤهلة كل التأهيل، لكن اتفاقيات كامب دافيد، وفشل القوى غير الإسلامية في صناعة بديل للناصرية، أفقداها رصيدها من القوة الناعمة الكفيلة باستعادة القدرة على التأثير مجددا وإلى حين في العالم العربي، الذي يحتاج إلى قوى سياسية جديدة، لها وجود وتأثير في الشارع العربي، ويكون لها استعداد للدخول في شراكة لا تصطدم مع رغبات الغرب أو تعوقها في ثلاث ملفات: * - ملف النزاع العربي الصهيوني، وحاجة الغرب إلى تأمين أمن دائم للكيان الصهيوني، يعلم الجميع أنه يتعارض مع إرجاع كامل الحقوق للفلسطينيين. * - ملف الانفتاح السياسي الذي يضمن للمجاميع والقوى السياسية العلمانية، وللإقليميات العرقية والدينية والمذهبية، يضمن لها الحق في المشاركة السياسية، وهامشا واسعا من حرية العبادة، والفكر، والإبداع، بعيدا عن القمع والإقصاء. * - ملف الانفتاح الاقتصادي، وضمان استمرار تدفق النقط، وتنقل حركة رؤوس الأموال في مأمن من التأمين والمنافسة والجباية والرقابة. *
* الأخ الأكبر يستمني أحلام الإخوان * داخل المشهد السياسي العربي القائم، لا توجد اليوم سوى قوى سياسية واحدة قادرة، إضافة إلى ما تتمتع به من حضور داخل المجتمعات العربية، قادرة على التعامل بقدر عالٍ من المرونة مع هذه المطالب الغربية الثلاث وتسويقها لشعوب مازالت تعيش على وعود الشعار "الإسلام هو الحل" وأعني بها "مجرة" الإخوان المسلمين، بما هو معلن منهم كإخوان، أو من الذين ارتدوا "طاقية الإخفاء" تحت مسميات: العدالة والتنمية، والإصلاح، والنهضة وعناوين قريبة من هذه، تنهل جميعها من الميراث السياسي والفكري لحركة الإخوان. * قد يسأل السائل: إذا كان الغرب قد وصل إلى هذه القناعة حتى يرى في الإسلاميين من الإخوان الشريك القادم بدل الأحصنة النافقة من القوميين، و"البراذين" الهجينة من العلمانيين، فلم كانت له تلك الحدة والشراسة في إسقاط حكومة حماس بأصولها الاخوانية؟ ولم تأخر في فتح قنوات الحوار مع إخوان مصر؟ ولم هو بحاجة إلى دولة من خارج الإقليم، مثل تركيا، لقيادة هذا المسار، الذي سوف ينتهي بوصول حكومات إسلامية في كبرى الدول العربية؟ *
* "شيعة" الملالي و"سنة" الخديوي * السؤال المركب هذا سؤال وجيه ومشروع. فقد كان بوسع مصر أن تخطف هذا الدور، لو أن السلطة المنتفض عليها وحركة الإخوان استطاعتا في وقت مبكر استشراف الرغبة الغربية، وتوصلتا إلى ما توصلت إليه القوى النافذة في تركيا، حين أوعز لها أن الوقت قد حان لتسليم دفة الحكم للقوى الإسلامية، بعد إنجاز توافق بين المؤسسة العسكرية وجناح طموح من حزب أربكان ذي الأصول الإخوانية، أو على الأقل الشريك معها في المرجعية؟ ثم إن تعاظم الدور الإيراني كقائد للإسلام السياسي الشيعي، وبداية توسع نفوذه في ما سمي بالهلال الشيعي، كان يحتاج إلى قوة لها نفس الوزن، وتستطيع أن تفرض الريادة على الجمهور العربي "السني" الذي خضع منذ ثلاثة عقود لتخويف متعاظم من المد الشيعي. * الذين يتابعون "موازنات" بانتظام يذكرون أني كنت قد مهدت في أكثر من قالة لهذا الدور التركي المتنامي في العالم العربي، كما استشرفت في وقت مبكر قرب ساعة انطلاق شراكة مفتوحة بين قوى إسلامية معتدلة، على رأسها حركة الإخوان، والقوى الغربية النافذة أمريكا وأوروبا، كما وقفت مطولا، في بداية ما سمي بالربيع العربي، عند الدور الرئيس الذي أوكل للقوى الإسلامية في تونس ومصر، ثم في ليبيا وسورية، ولم يخف على الملاحظين الدور الناعم الذي لعبه الأتراك، من جهة مباركة الثورتين التونسية والمصرية، والتصدي لبعض حملات التخويف من الإسلاميين، لكن الدور ظهر بشكل أوضح في ليبيا وسوريا، وافتضح بما يكفي في القرار التركي الأخير، الذي منح حلف النيتو غطاء إسلاميا لعدوانه على ليبيا بعد اعتراف تركيا بالمجلس الانتقالي، وقطع علاقاتها الدبلوماسية مع الدولة الليبية. *
* إخوان "العصملي" لتطويق "الخطر" السلفي * لصالح هذا الدور المستقبلي القائد، ولو من باب المقاولة من الباطن لصالح المشروع الغربي القديم الجديد، تدخل تركيا بأوراق لعب ممتازة ومتنوعة. فهي تحظى بالثقة الأمريكية، وحاجة الولاياتالمتحدة إلى أدوار تركية متنوعة في اتجاه وسط آسيا والبحر الأسود، كما هي بحاجة إليها في ملفي أفغانستان والعراق، وعما قريب في الملف الفلسطيني، كما أن تركيا قد وجدت في قطر، وربما في الإمارات حليفين موسميين، ينازعان السعودية دورها الريادي في منطقة الخليج، ويحتاجان إلى مزيد من الحضور التركي في المنطقة. * إلى ذلك تضاف السيطرة التركية على منظمة المؤتمر الإسلامي، التي تحولت إلى اتحاد، عبر الدور النشط لأمينها العام التركي أوغلو، ودورها المتزايد داخل إتحاد علماء المسلمين، بالشراكة مع "علماء" الإخوان وأموال دولة قطر. * وفي حال وصول الإخوان وحركة النهضة إلى الحكومة في مصر وتونس، فإن الدور التركي الريادي سوف يتضح أكثر، بآفاق مفتوحة على المجهول بالنسبة لمستقبل العالم العربي، الذي يكون وقتها قد وضع داخل سياق خطر، قد يتحول سريعا إلى صراع بين إسلام سياسي "شيعي" تلعب به إيران في الجناح الشرقي للعالم العربي، سوف تدفع السعودية ثمنه، وإسلام سياسي "سني" بلون إخواني، له نفس الطموح نحو التمدد في الفضاء شرقا وغربا. * لست من الذين يخوّفون الناس، لا بالإسلاميين ولا بالعلمانيين، أو التهويل حول التمدد الشيعي الذي لا يُنكر، أو طموح أحفاد الباب العالي في لعب أدوار في منطقة كانت تحت سلطة الأتراك منذ أقل من قرن. فهؤلاء إما أبناء المنطقة أو جيران تمنحهم الجغرافية والتاريخ المشترك قدرا من المشروعية، لولا أن اليد التي تحرك هذا وتشجع ذلك على ملء الفراغ العربي المخيف هي ذاتها اليد التي لعبت من قبل بأمثال هؤلاء وأولئك وسخرتهم لتهيئة المنطقة لحقبة الاستعمار، ثم لتقسيمات سايكس بيكو. *
* "داحس" السنة و"غبراء" الشيعة * الذين يقرأون التاريخ يدركون كيف وظف الإنجليز الدولة الصفوية في إيران لضرب وإضعاف الخلافة العثمانية، وكيف وظفت إيران البهلوية في تقليم أظافر المد القومي العربي، وكيف سخرت الثورات العربية القومية بقيادة لورانس لإخراج العثمانيين من العالم العربي، وكيف خان الباب العالي رعيته المسلمة بداية بالاجتياح الصليبي الإستعماري لأيالة الجزائر، وخذل محمد علي في مصر، وسلم الشام للفرنسيين والإنجليز دون قتال يذكر. * موطن الخوف عندي حيال هذا الدور التركي المرادف للدور الإيراني، وبالاستناد إلى قوى إسلامية "سنية" و"شيعية"، أظهرت شهوة واستجاعة للسلطة لا تقل عن شهوة القوى المنتفض ضدها، هو من جهة ما يضمره من نية غربية واضحة في إدخال منطقة العالم العربي حقبة صراع طويلة على الريادة بين محورين سني وشيعي يعملان بالوكالة، وصراعات لا تنتهي على السلطة بين قوى إسلامية مطوعة، مستقوية برضا اليهود والنصارى عنها، وقوى غير إسلامية أو إسلامية متهمة بمعاداة الغرب، صراع مزدوج يضيع معه، إلى جانب ضياع الحلم القومي العربي، فرص بناء دول قطرية حديثة ذات سيادة مع أو حتى من دون أساطير الديمقراطية التي يتاجر بها الدجال الغربي الأعور.