الحلقة الرابعة والعشرون كانت الطبيعة الينبوع الصافي الذي اغتسل فيه طفولتنا باستمرار. أستطيع القول بأن الاحتلال الفرنسي لبلادنا بكل وحشيته لم يقدر أن يسلخ كينونتنا عن مباهج تلك الطبيعة الخلابة التي كانت مسرحا واسع الآفاق لمخيلتنا، وملعبا لتفاصيل حياتنا الطفلية. إن مناظر أشجار الزيتون كانت بمثابة المرايا التي رأينا فيها كبرياءنا وعنفواننا وكثيرا ما اختبأنا بين أغصانها وفي الثقوب التي تتخلل جذوعها حينما كانت الطائرات الحربية الفرنسية تحلق فوقنا وترمي من حين لآخر بالقنابل والرّصاص عشوائيا بدون رحمة ولا شفقة. * عندما كنّا صغارا في زمن الحرب كانت غابات الزيتون ملاجئ لكثير من العائلات الهاربة من منازلها لتفادى القتل أو التعذيب على أيدي العسكر الفرنسي. ومن هنا فإن الطبيعة المحيطة بنا قد لعبت دورا حاسما في الحفاظ على حياتنا في تلك القرى المحاصرة بالثكنات. إنه كثيرا ما أقيمت الأعراس تحت أشجار الزيتون وتردد صدى البنادر تحت أغصانها الخضراء والمثقلة بالثمار. في هذا المناخ كانت مدّاحات الأعراس يغنين الأغاني الشعبية النابعة من الحياة الريفية ومن أفعال المقاومة والتّضحيات الكثيرة التي دفعت في ساحات الكفاح الوطني. في الوقت الذي كانت المدّاحات يطلقنا أسراب الزغاريد في الفضاء، كنا نتأمل الشّابات الفاتنات الجمال يفتحن جدائلهن السوداء والشّقراء ثم يشرعنا في الرّقص المتموج لحدي ملامسة الجمال المطلق. كان هذا هو المسرح الإبداعي المبكر الذي تعلمنا فيه أبجديات الفن المنبثق من روح الشعب وتاريخه. * لقد غنت تلك المداحات قصائد الحب والوصال والفراق وكانت القصائد التي يروينها عن عذاب البطش الاستعماري والظلم، وآلام الهجرة تتسلل مباشرة إلى أعماقنا وتفتح فيها جروحا عميقة، حيث يستسلم بعضنا بعد سماعنا للبكاء الطويل. بدون منازع، فإن أغاني تلك المداحات تمثل شهادة حية عن المعانات الكبرى على أيام الاحتلال الفرنسي. لا يمكن أن أنسى أبدا تلك الأصوات التي رددت بمحبة وإجلال أشعار سي محند أومحند. لقد رافق طفولتنا البعيدة شعر هذا الشاعر الشعبي الأمازيغي الجزائري الفريد من نوعه. إنه "سي محند أومحند ناث حمادوش إبن قرية إشرعون من عرش ناث إراثن الذي توفي في عام 1906"أي بعد ولادة والدي بعام واحد. قد نسجت حول حيات هذا الشاعر أساطير وخرافات كثيرة مما جعله يتحول هو نفسه إلى أسطورة تسير على قدمين. كان الشيوخ يروون عنه الكثير، عن لقائه الشهير برجل الروحانية والحكمة وهو "الشيخ سي محند ولحسين« ودار بينهما جدال سمي بجدال عملاقي الحكمة الروحية والموهبة الشعرية الأصيلة. * لقد أصبحنا مسكونين بسيرتي الشاعر والحكيم وصارا كلاهما غذاء روحيا لنا. قيل لنا إن الملاك أوقف الشاعر "سي محند"قرب النبع وخيّره بين أن يمنحه ما يريده من الذهب والفضة، وبين أن يمنحه موهبة قول الشعر، فاختار "سي محند أومحند"الشعر والحكمة. وهكذا ندرك بأن هذه الحكاية بأن الشاعر "سي محند أومحند"لا يلهمه الشيطان ولا يتبعه الغاوون وإنما هو صاحب مرجعية مختلفة ألا وهي مرجعية الملاك. قلت سابقا بأن هذا الشاعر من مواليد القرن التاسع عشر، وقد تثقف ثقافة أمازيغية عريقة كما تبحر في الثقافة العربية الإسلامية في بعدها الروحي. يعتبر "سي محند« من الصوفيين مثله مثل أي شخصية أخرى لعبت دورا في ترسيخ حب المعرفة والتعلق بالثقافة الروحية مثل الشيخ "سي محند أولحسين«. * لقد ردد الرواة المعاصرون له والآتون بعده بأن هذا الشاعر كان على صلة وثيقة بالعالم العلوي اللاّمرئي، وقالوا عنه بأنه كان يتلقى الشعر مباشرة من السماء، إذ لم يكن يكتب ويشطب ويعيد الكتابة ويصلح العبارات، بل إنه كان يتدفق مثل الينبوع السلسبيل الذي يجري في السهول في كبرياء وثقة تامة. تعلّمنا آنذاك من سيرة هذا الشاعر الحرية، أي التحرر من عالم المادة والمال. "سي محند أومحند"اختار الشعر ورفض الذهب والفضة. اختار سي محند أومحند الترحال في أرجاء الجزائر، كما زار تونس على قدميه ولم يرضخ لقوانين الأسرة التقليدية. من الأخبار التي وصلتنا عنه أن السلطات الفرنسية طاردته لتثأر منه، لأن أحد إخوانه ضرب فرنسيا وهشّمه تهشيما، وهكذا فرّ سي محند من قريته "أشرعيون"المحاذية لبلدة ثيزي راشد إلى تونس. في الطريق إلى تونس عاش هذا الشاعر مغامرات كثيرة، وقد كتب عن هذه الرحلة قصيدة رائعة تحت عنوان "الطريق إلى تونس«. يعتبر الشاعر سي محند أومحند بمعيار عصرنا من الشعراء المؤسسين لحركة شعر "التروبادور"وشعر المقاومة الوطنية بامتياز. ومما يؤسف له أن شعره لم يترجم إلى العربية ترجمة إبداعية تليق بموهبته الخلاقة. * وفي هذا الصدد، أذكر أنني التقيت، منذ أربع سنوات تقريبا، بالشاعر الفلسطيني المعروف "سميح القاسم"في تونس وتحدثنا طويلا حول الشعر والشعراء. في تلك الجلسة ارتجلت بعض مقاطع من قصيدة للشاعر "سي محند" بعد أن ترجمتها إلى اللغة العربية وبعدئذ قال لي بصدق عهدته فيه: "إن هذا شعر عالمي عظيم«. نعم، لم تعمل وزارة الثقافة على ترجمة تراث "سي محند"إلى اللغات العالمية والتعريف به عربيا وعلى المستوى الدولي، كما لم تسمّ باسمه المؤسسات والشوارع لتخليد ذكراه في الذاكرة الوطنية. وفضلا عن ذلك، فإن المناهج والبرامج الدراسية ببلادنا لم تنصفه ولم تقرر قصائده على طلابنا وطالباتنا، رغم أن عوالم هذا الشاعر تتميز بأبعاد ثقافية عصرية وتقف إلى صف التقدم ويعد "سي محند« شاعر المقاومة الجزائرية بحق. * من الصور الثقافية التي تربى جيلي عليها وشكلت وجدانه الفردي والجمعي أيضا، ما كان يقوم به الحكواتيون من سرد للقصص والخرافات التي تختلط في ثناياها الحقيقة بالخيال وتعدّ أيضا من المنابع الأولى التي نهلت منها، وشكلت أيضا الرأسمال الوجداني والثقافي لمرحلة مبكرة من حياتي وحياة جيلي. ما هي عناصر هذه الصور؟ وماذا فعله هؤلاء المدّاحون والحكواتيون في حياتنا؟ تلك هي قصّة أخرى سأروي تفاصيلها في المقال القادم.