وضعت الثورات العربية التي دخلت سنتها الثانية حدا نهائيا لوصاية الحكام على الشعوب، وبدأت تكشف عن الأجنحة المتصارعة داخل الدول التي لم تشملها بعد الثورة، وتعري الدول الأوروبية التي تريد وصاية جديدة عليها، فهل ما جرى بين ساركوزي وأردوغان يدخل ضمن هذا المنظور السياسي الجديد؟. * الخيانة وجهة نظر؟ حين قال رجب طيب أردوغان مخاطبا ساركوزي: "أنا على يقين أن بال ساركوزي لديه الكثير من الأمور ليقولها لابنه بشأن المجازر التي ارتكبها في الجزائر"، لم يستوعب الكثيرين سبب "الملاسنة" بين رئيس الحكومة التركي والرئيس الفرنسي. ما قاله أردوغان وهو أن 15٪ من الجزائريين أبادتهم فرنسا في مجازر 8 ماي 1945م التي شارك فيها والد ساركوزي، وشارك فيها آباء فرنسيون لأبناء يحملون الجنسية الجزائرية ليس جديدا، فهو موجود في الكتب التاريخية للمؤرخين، وإنما الجديد هو أنها جاءت في سياق الثورات العربية التي يتصارع الكبار على احتوائها. مازلت أتذكر ذلك اليوم الذي قمت فيه بإجراء حوار مع الراحل الكاردينال ديفال، وحين اقترحت عليه واحدا من جماعته يتقن اللغة العربية ليترجم الحوار حتى يحافظ على مصطلحاته الدينية رفض اقتراحي، واقترح مسيحيا لبنانيا، وحين سألته لماذا؟، قال: من اقترحته شارك والده في مجازر 8 ماي 1945م وليس مؤهلا ليقترن اسمه معي أو معك في هذا الحوار حول "الكنيسة والمسجد". ما يؤسف له أن ردود الفعل لبعض الأحزاب السياسية وبعض الوجوه المحسوبة على الوطنيين، قرأت ما جرى بين ساركوزي و أردوغان قراءة خاطئة، وهي أنه دافع عن ماضي تركيا، والقراءة الأصح هي أن الدور الذي لعبه أردوغان في الدفاع عن غزة والموقف الحاسم إزاء القضية الفلسطينية إلى جانب الدعم الواضح للثورة السورية، جعل نيكولا ساركوزي يقنع حزبه بتبنّي مشروع يجرّم تركيا العثمانية إزاء مجازر سنوات 1915 - 1917م التي يقول عنها الأرمن إنها بلغت مليونا ونصف مليون. والقانون الفرنسي لا يعترف بالإبادة فقط وإنما يجرّم إنكار تركيا لها وهو بذلك يستهدف النظام التركي الحالي، ويريد ابتزازه لصالح إسرائيل ولفائدة المصالح الفرنسية في الوطن العربي، ولهذا لجأت إسرائيل هي الأخرى إلى اتخاذ القرار نفسه، وبالتالي، سيمارس ضغط دولي على تركيا حتى تتراجع عن موقفها ولا تتدخل في قضية الثورات العربية. البعض من قادة أحزابنا الوطنية، سامحهم الله، توهموا أن أردوغان يريد دعم التيار الإسلامي في الجزائر، لأن التيار الوطني رفض تجريم فرنسا الاستعمارية وحاول التقرب منها حتى يبقى في الحكم. صحيح أن هناك مليونا ونصف مليون أرمني يراهن عليهم ساركوزي في الانتخابات الرئاسية القادمة إلى جانب الحرْكة الذين أعاد لهم الاعتبار على حساب مليون ونصف مليون من الشهداء، ولكن ما ذنب أردوغان إذا كان في الجزائر من يدافع عن فرنسا أكثر من الفرنسيين؟
لو كانت لنا أحزاب وجمعيات؟ إذا أرادت أية دولة أن تدافع على حقوق الشعوب فعليها بإعادة قراءة تاريخها، فإذا كان فيه ما يسيء إلى سمعتها فليس من حقها الدفاع عن الآخرين. ماضي فرنسا في الجزائر غير مشرّف على جميع الأصعدة، فخلال 132 سنة من الاحتلال والإبادة واستغلال خيرات البلاد صارت النادلة على إدانة فرنسا الاستعمارية في متناول الجميع فهذا برج إيفل (لاتوريفال) المصنوع من حديد الونزة بالجزائر شاهد على نهبها لخيرات الجزائر، وتلك الأنواع من بذور القمح التي كانت تمثل في الجزائر ما قبل 1930م أكثر من 40 نوعا بقي منها أقل من خمسة أنواع والباقي محفوظ عند فرنسا ولا أتحدث عن الذهب والتحف والآثار والأرشيف. ولكن من باب الأخلاق، أن يكون التعاون بين الجزائر المستقلة وفرنسا ساركوزي مبنيا على أسس مشتركة وهي تجريم الاستعمار الفرنسي في الجزائر وإدانة من يتنكر له مثلما هي فرنسا الآن تدين تنكر الأتراك لماضيهم مع الأرمن. لو كانت عندنا أحزاب وطنية مستقلة عن فرنسا وجمعيات حقيقية وبرلمان منتخب لما تجرأت حكومة ساركوزي على الاستخفاف بذاكرة الشعب الجزائري، ولو كان من اعتبروا ما قاله أردوغان وصاية على الجزائر ينتمون إلى الأسرة الثورية لاعترفوا بأن جزائرية أردوغان الذي ينتمي إلى الشرفاء الذين استنجدت بهم الجزائر لمواجهة الاحتلال الاسباني لغاية سقوطهم شهداء أثناء الاحتلال الفرنسي أكثر من جزائرية البعض منهم.
هل الأحزاب الإسلامية الجزائرية تركية؟ صحيح أن التجربة الإسلامية التركية أصبحت قدوة في الوطن العربي والعالم الإسلامي ولكنه من الصعب المقارنة بينها وبين ما قد يحدث في الجزائر. فالنظام التركي امتداد لكمال أتاتورك والنظام العربي مختلف من دولة لأخرى، فتركيا الإسلامية تخلصت من تدخل الجيش في نظام الحكم، بينما الثورة المصرية رهنت نفسها إلى المؤسسة العسكرية، في حين أن الثورة التونسية وضعت العسكر خارج الحكم. أما ليبيا فقد يتحول ثوارها إلى جيش نظامي وتبقى الثورة اليمنية نموذجا للجيش القبلي ولهذا فإن نجاحها مرهون بمحاكمة الرئيس عبد الله صالح الذي كرّس مبدأ القبلية السياسية. أما من يتصورون أنهم سيحصدون الأغلبية في البرلمان القادم فهم يحاولون تضليل الرأي العام الجزائري لأن لا قيمة لأغلبية في ظل دستور 1996م الذي يمثل فيه من يعينهم الرئيس وهم 48 نائبا في مجلس الأمة ما يسمى بالثلث المعطل، والدستور الحالي يخول رئيس الجمهورية تعيين وزيره الأول ممن يدافعون عن برنامجه، فهل تدخل أحزاب التحالف الرئاسي تشريعيات 2012م باسم الرئيس حتى تضمن حزب الإدارة للبقاء في السلطة لتدفع الجزائر فاتورة العنف القادم؟.