لم يعد الفساد يفرق بين قطاع وآخر، ولم تعد محطاته معلومة ولا محددة بمكان أو زمان، بعد أن اختار مرة أخرى قطاع الصحة محطة جديدة له، حيث تحول معهد باستور بالجزائر العاصمة إلى "مرض" ينخر قطاعا بكامله، وليكون محطة مهمة للفساد تضيع فيها آلاف الملايير في أقبية المركز دون أن يتحرك أحد لمواجهة هذا النموذج الحي من الفساد، فما الذي يحدث بالضبط وراء جدران معهد باستور؟، وماذا عن أساليب التسيير التي تجعل هيئة كهذه تحمل طابعا صناعيا وتجاريا تتجه نحو الإفلاس عن إرادة وبسبق الإصرار والترصد؟ وماذا عن آلاف الملايير التي اختار لها المفوضون على تسييرها المزابل والنفايات عوض العيادات والمستشفيات التي تعاني شح التموين بالأدوية؟ هذه بعض الأسئلة التي حاولت "ا"لشروق اليومي" البحث عن أجوبة لها في دهاليز معهد باستور، فكان هذا التحقيق، آملين من السلطات المختصة تقديم عناصر أجوبة مقنعة بشأن الجهود التي بذلت لوقف هذا الفساد. بلاغ يكشف ضياع أزيد من 34 مليار سنتيم تواصل مصلحة الشرطة القضائية لأمن دائرة سيدي امحمد بالجزائر العاصمة التحقيق الأمني الذي باشرته في أفريل الماضي بطلب من وكيل الجمهورية قصد التحري في مخزون "ماق" ساحل من الأدوية المنتهية صلاحيتها، حيث طلب من مدير معهد باستور الرد كتابيا على كل الإجراءات التي تم اتخاذها حول وضعية الأدوية المنتهية صلاحيتها والتي كلفت خزينة الدولة الملايير من السنتيمات دون أن يفهم أحد أسباب هذا التلاعب بالمال العام. والمثير في قضية هذه الأدوية المنتهية صلاحيتها هو وجود تقريرين موازيين بخصوص نفس كمية الدواء، تقرير أول حرص أصحابه على الاحتفاظ به في أدراج هذه الهيئة، وآخر أخذ وجهته نحو المصالح ذات الصلة بالموضوع من مصالح الشرطة القضائية ومصالح الضرائب، حيث وإن كان التقريران تضمنا نفس قائمة الدواء، فقد حملا قيمتين متباينتين تماما، فالتقرير الذي تم الاحتفاظ به في الهيئة يقدر قيمة الدواء الفاسد بأزيد من 34 مليار سنتيم في حين يقدر التقرير الثاني الذي سلم لمصالح الشرطة الأدوية المنتهية صلاحيتها من أمصال ولقاحات مختلفة بأزيد من 14 مليار سنتيم، أي بفارق يتجاوز ال 20 مليار سنتيم. وحسب بعض المراجع، فإن التقرير الذي وجه لمصالح الشرطة فرضته التصريحات التي سبق أن قدمها مسؤول في معهد باستور لمصالح الضرائب، على اعتبار الضريبة الواجب دفعها لهذه المصالح عن كل مخزون من الدواء، وهو ما يفتح المجال أمام شكوك بشأن حصول تلاعب في محاضر رسمية بقصد تخفيض حجم الضرائب المفروضة من قبل المصالح المخولة بالتحصيل، وهو ما يضع مصلحة المحاسبة أمام وضع صعب لتبرير ما تم التصريح به من طرف مسؤولي المعهد كقيمة المخزون الفاسد الحقيقي والمقدر بأزيد من 34 مليار سنتيم وبين ما تم التصريح به على اعتبار أن المخزون تمت فوترته عند الاستلام والإيداع. التحقيق القضائي يؤدي إلى اختفاء مدير معهد باستور تفيد معلومات توفرت ل "الشروق اليومي" أن مدير معهد باستور "م. بلقايد" غادر منصبه ولم يعد لمزاولة مهامه منذ 5 أوت الماضي إلى يومنا هذا، أي بعد أن بدأت الروائح الكريهة تنبعث من صفقات الأدوية المبرمة، ومن مخزون 5 سنوات متعاقبة من الأدوية المنتهية صلاحيتها التي قاربت قيمتها الإجمالية، حسب الوثائق التي بحوزتنا، 8300 مليار سنتيم، حتى أن مخزني ملحقتي معهد باستور الكائنتين بكل من دالي إبراهيم والقبة باتا يضيقان بهذا المخزون الذي يبدو أن المصالح المعنية عجزت عن التخلص منه بالنظر إلى الكميات الكبيرة التي تضم أمصالا تعد مادة من الاستحالة الاستغناء عنها بجميع المستشفيات والعيادات و لقاحات مضادة للبرد وأنواع من اللقاحات الأخرى بالإضافة إلى كمية كبيرة من الأدوية المصنعة محليا والمستوردة، هي خسارة بالملايير تتحملها الخزينة العمومية التي تدفع دائما ضريبة سوء التسيير والارتجالية المفرطة. وتؤكد شهادات عاملين في المعهد أن المدير إختفى مع بداية التحقيق الذي أمر به وكيل الجمهورية لدى محكمة سيدي امحمد نهاية شهر أفريل الماضي بخصوص الأدوية المنتهية صلاحياتها قبل أن يظهر مجددا لدى مصالح وزارة الصحة والسكان، لكن ضمن ملفاتها، حيث قدم شهادة مرضية تلقتها مديرية الموظفين بالوزارة دون أن يظهر أثر له. عناصر الدفاع الوطني يلقحون بلقاح مستورد ولم تتوقف متاعب معهد باستور عند المشاكل الخطيرة التي تتسبب فيها للقطاعات الصحية والإستشفائية التي تفتقد للأدوية والأمصال التي يتوجب على المعهد توفيرها لها، ولكن أيضا متاعب أخرى، وتعني الاتفاق الذي يلزم معد باستور مع وزارة الدفاع الوطني، والذي يتعهد فيه المعهد بتوفير 80 ألف جرعة سنويا من الأمصال المضادة للأفاعي والزواحف، توجه هذه الأمصال بصفة خاصة لتلقيح المجندين والعسكريين التابعين للجيش الوطني الشعبي سواء ضمن واجب الخدمة الوطنية أو بصفة دائمة في المؤسسة العسكرية، والذين يتولون حماية الحدود والعمل في أعماق الصحراء، بقصد حمايتهم من مختلف الزواحف. وقد كانت هذه الكميات تصنع إلى وقت قريب في مخابر معهد باستور الذي يصدر في نفس الوقت هذه الأمصال نحو مدغشقر وبلدان أخرى، غير أن العجز المسجل من قبل معهد باستور بعد أن قرر تخفيض الإنتاج لأسباب تبقى مجهولة لحد الساعة، جعلت مخابر المعهد لا تتعد قدرتها الإنتاجية 5 آلاف جرعة سنويا، وهو ما يعتبر منتوجا شبه منعدم بالنظر إلى الحجم الكبير للطلب، هذا العجز حمل إدارة المعهد مضطرة للإعلان عن مناقصة لاقتناء الكمية الواجب توفيرها لوزارة الدفاع الوطني في الآجال المحددة. ويجري الحديث منذ فترة على أن المناقصة الخاصة بالمصل المضاد للزواحف قد رست على متعامل مصري، وسيتم اقتناء الكميات الواجب توفرها ليلقح عناصر الجيش الوطني الشعبي وكافة مستخدمي وزارة الدفاع الوطني لأول مرة بأمصال مستوردة من الخارج؟.. وفي الوقت الذي أصدر فيه ولاة الجمهورية تعليمة يطالبون فيها المواطنين بجمع العقارب التي تستخدم في صناعة هذه اللقاحات ونقلها للمعهد الذي يضم أربعة ملاحق على مستوى العاصمة ترفض فيه إدارة المعهد تسلم هذه العقارب، الأمر الذي دفع أحد المواطنين الذي جاء إلى العاصمة حاملا كمية كبيرة من العقارب إلى التخلص منها بمقام الشهيد بعد أن رفضت إدارة المعهد استلامها، هذه الحادثة أدت يومها لإعلان حالة الطوارئ بمقام الشهيد، وقد جرى الاتصال بمعهد باستور قصد الاستفسار عن هذه القضية، لكن ذلك لم يستدعي الجهات المعنية لتحريك الدعوى العمومية آنذاك. الأدوية المنتهية صلاحيتها تأخذ منحى تصاعديا ومن أبرز الأوضاع التي تم تسجيلها على مستوى معهد باستور، أن حجم الأدوية المنتهية صلاحياتها يسجل تصاعدا قياسيا منذ سنة 2000 وصولا لسنة 2005، ففي الوقت الذي تشكو فيه المستشفيات العمومية شح التموين من الأمصال واللقاحات، تكشف عمليات جرد للمخزون الفاسد أن الحصيلة تأخذ منحى تصاعديا يفرض الاستفهام عن الأسباب الرئيسية التي تقف وراء عدم استغلال هذا المخزون، ولو بتوجيهه للمستشفيات العمومية كهبات أو وضع خطة لتفادي خسائر بذات الحجم. فمثلا بلغت قيمة المواد الفاسدة أكثر من 26 مليار دينار نهاية سنة 2005 فيما بلغت في السنوات التي سبقتها قيما أقل مقارنة بسنة 2005، هذه القيم التي بدأت ترتفع إلى حد أن قيمة المنتجات الفاسدة المودعة بملحقة دالي إبراهيم ما بين أمصال ولقاحات وصلت قيمة 780 مليار سنتيم، هذا الجرد أجري شهر أفريل من السنة الجارية. وقد بلغت قيمة الأدوية والأمصال وكافة المواد الطبية المنتهية صلاحياتها في مجملها إلى 8300 مليار، وأشارت تقارير داخلية إلى أن جزءا مهما من المخزون فقد فاعليته بسبب انقطاعات كهربائية سجلتها مبردات الحفظ، غير أن المبرر يبدو غير منطقي، على اعتبار أن أهمية معهد بحجم معهد باستور يستدعي احتواءه على مولدات كهربائية تستغل في مثل هذه الحالات. مخبر فرنسي يسعى لاستعادة المخزون الفاسد في 17 سبتمبر الماضي، تلقى معهد باستور مراسلة رسمية من مخبر فرنسي يقول فيها بأنه بالرغم من تعديل الفاتورة رقم 5018152 التي حملت خطأ في القسيمة المالية والمتعلقة بجزء من طلبية من المواد المستوردة من هذا المخبر الفرنسي، غير أن الشحنة ما تزال على مستوى مطار هواري بومدين بسبب عدم استصدار وثيقة تخليص جمركي، ونفضت إدارة المخبر الفرنسي يديها من كل مسؤولية من انتهاء صلاحية هذه الكميات الخاصة بجزء ثان من الطلبية بسبب عدم استصدار هذه الوثيقة التي كان يتوجب لاستصدارها التصريح بخصوصها من وزارة الصحة والسكان وإصلاح المستشفيات. الغريب في مراسلة المخبر الفرنسي هو إبداء استعداده لاسترجاع هذه الكميات الفاسدة شريطة معاودة عملية التفاوض بخصوصها، وذلك وفقا للاتفاق الشائع والذي يلزم المستوردين بإعادة الأدوية المنتهية صلاحياتها الى المخابر التي صنعتها، هذا العرض وإن كان اعتماده من شأنه أن يقلص الخسارة ويعوض ولو جزءا منها، تجاهلته إدارة معهد باستور ولم ترد على المراسلة التي حملت العرض، كما تعمدت إبقاء كميات الطلبية هذه بمطار هواري بومدين دون أن تلتفت إلى ضرورة إيجاد حل لها. ملحقة دالي إبراهيم في خطر وفي 30 سبتمبر الماضي وجهت مديرة فرع دالي إبراهيم للمدير العام لمعهد باستور مراسلة رسمية أكدت له فيها بأن الملحقة تمون دائما من غاز "عديم الرائحة" ممنوع الاستخدام قانونيا في المخابر، على اعتبار أنه يعرض أرواح العاملين في المخبر وكل العمارة X للخطر، كما تطرقت صاحبة المراسلة لذكر العديد من المشاكل التي يتخبط فيها المعهد والذي حمل الفروع النقابية للملحقات الأربعة إلى التحرك وعقد العديد من الاجتماعات للنظر في المشاكل المهنية والاجتماعية التي يعاني منها العمال وكذا أساليب التسيير. غدا تطالعون رد وزير الصحة ومدير معهد باستور تحقيق: سميرة بلعمري: [email protected]