نهاية الإضراب العام كان في تلك الأيام الأستاذ رشيد الغنوشي زعيم الحركة الإسلامية التونسية موجودا في العاصمة , و كنت أعرف ذلك الإسم و أهتم بما يكتب منذ السبعينات و كنا نقرأ مجلتهم و لنا إتصال غير مباشر بحركتهم، حيث كان بعض شبابها يدرس في الجزائر , فكنا نثق في فهمه للعمل الإسلامي , فهو محسوب على التيار الإخواني المعتدل , المستقل .. طلبت من أخونا السوفي استضافته عندي في البيت لأعرض عليه ماذا ينوي عباسي القيام به و أفهمه عملنا و نطلب منه التأثير على الشيخ ليتراجع عن استعمال القوة و القرون أو كما يحلو له القول بالمغالبة . حضر الشيخ الغنوشي و بعض رفقائه و بدأنا نتذاكر في الجبهة الإسلامية و كيف أنني أحضر مشاريع مهمة في لجنة التخطيط و أننا حققنا فتحا كبيرا في الإنتخابات الأولى البلدية و الولائية و أن الرئيس الشاذلي ماض في استكمال الإصلاح السياسي رغم بعض العثرات و لكن أمورنا خير من أي بلد في العالم الإسلامي .و أننا إن شاء الله ذاهبون للانتخابات التشريعية و سوف يرشح منا من يكونون وزراء بدون شك، فيتواصل التغيير بالتي هي أحسن و أننا لا نمانع في وجود أحزاب غير إسلامية بل سوف نعطيهم مكانا لطمأنتهم ، فهو الذي قال لنا بعد الانتخابات المحلية في زيارته لنا ، قال بالحرف الواحد ، عليكم بخطاب التطمين ، فكنت أعول عليه أن يواصل في هذا الخط ..عرضت عليه أن يتكلم مع عباسي فيقنعه بالرجوع الى أسلوب الخطوات و الصبر و لا يخرج لنا الجيش للشارع و يرسل الشباب للتحرش عليهم بالإضراب و المسيرات ، فنحن أغلبية مجلس الشورى متفقون على السير بالحكمة و عدم التصادم مع الغرب ، سنحافظ على الأسلوب الديموقراطي في الحكم ..لا نمانع في وجود حزب الأرسيدي أو الباكس ..استعملت كل المصطلحات لجره لفهمي للأحداث ، جيشنا مكون من أبناء الشعب البسطاء و الفقراء ، لا يوجد في عقلهم شيء يسمى عداوة للإسلام ..أما الشيوعيون فلقد سقطت روسيا فلم يبق لهم ما يتمسكون به فلم نهددهم ..تركني حتى أكملت كلامي ، ثم قال أكل مجلس الشورى لهم نفس الرأي ،قلت أغلبيتهم ..قال لي : أنتم مخطئون ، إن الديموقراطية لا توصلكم للحكم ..و إن الغرب لا يحبنا ..اندهشت و كدت أن أختنق من شدة الغضب الذي كضمته .و لكن سكتت ، لم أزد كلمة واحدة و بدأت أردد في نفسي .أهذا الذي كنت أظنه معتدلا. مقابلة بوسليماني و محفوظ رحمهم الله كان بعض الإخوة من جمعية الإصلاح و الإرشاد يزورونني في المقر و نتبادل الحديث ، اقترحوا علينا أن تكون لقاءات مع الشيخ بوسليماني رحمه الله ، فكان فعلا لنا لقاءان تذاكرنا في بيته و وعدوا بأنهم لن يتخلوا عنا و سيتعاونون معنا.و للأسف بدأت الفتنة مبكرة و انقطع الحبل . ثم طلبت من الرجل الفاضل بوفراش محمد أن يلاقيني بالشيخ محفوظ ، و كذلك فعل ، فكان لقاء وديا مباركا ، طرحت عليه رحمه الله نفس التخوفات و حاولت إقناعه ، بأننا ذاهبون إلى فتنة. قال لي يا السي يحي ، إنني أقدر تصورك و أفكارك و لكنني لا أبوح لك بسر أنني أنا و الشيخ لا يمر بيننا التيار كما يقولون ، فلقد صور له أن الشيخ محفوظ لا يحبه و و الله إنني لأحبه و أحبكم كلكم في الله و لكن يتهمونني بالبرودة و كيف ضربت ذات يوم في المدية في المسجد من طرف عناصركم بالبيض ..قلت و الله ما سمعنا بها إلا مؤخرا و أنت تعرف منهم أصحاب هذا العمل السخيف ، و إنني شجعت الأخ بوسليماني لمواصلة الإتصال بكم و التناصح و سوف نلتقي بدون شك فالمجال واسع و العمل كبير و لا بد من التعاون ..كان رحمه الله رجلا بشوشا ، متفائلا ..بقيت هذه العلاقة معه فكان إذا سمع بي عند الشيخ مراني يأتينا و يرحب بنا و يسر لرأيتنا ..و لما أصبحت في وزارة الشؤون الدينية مديرا للديوان ،كنت أزوره في بيته ، فيسرع لإستقبالنا و يضع يده في أيدينا و يدخلنا الى البيت و يرفع صوته مرات بكلمات مضحكة : أخ . بدأ الإضراب و بدأت التجمعات الليلية و وصل بالشباب المشجع للإضراب ، المبيت بالساحات ، المساكين يبيتون على الأرض و في الخيام . و لكن ما هي إلا أيام حتى خرج الدرك بقرار من مجلس الأعلى للأمن و ما إن سمع الشيخ عباسي بالبيان في التلفزة حتى قال لقد خدعونا .قلت لقمر الدين خربان خذ ما ينفعك من المكتب و كل الوثائق و الكتب فسأحمل الحاسب من نوع أوليفتي و بعض الكتب و سأرحل غدا ، راجعا لتلمسان ، فأنتم ذاهبون إما للأحباس أو للسحق ، فلقد حذرتك ، أحسن ما تفعل أن تقفل حقيبتك و تشد الرحال للخارج فأنت معروف بانتمائك للجيش و سوف تستدرج لتصبح حاملا للسلاح و تستعمله ، و تنال خسارة الدنيا و الآخرة ...و الحمد لله أنه استمع و أنقذ نفسه و هاجر و لم يورط نفسه و نجا من هموم و عواقب الظلم و الظلمات .كذا الأخ مورد و جماعته ودعتهم و أمرتهم أن لا يرجعوا للمقر بعد اليوم فلقد انتهت الجبهة الإسلامية للإنقاذ كحزب إسلامي يريد إقامة دولة إسلامية و تحولت الى دعوة للفتنة بإسم الإسلام.. و ما هي إلا أيام حتى قرأت و سمعت عن بيان ال22 نقطة و أن أخانا علي بلحاج سأل من طرف الشباب المضرب ، ماذا نفعل إذا داهمتنا قوات الأمن ، قيل أنه قال : دافعوا على أنفسكم ..فقلت لصاحبي ..أتتذكر ما قلت له :قلت له سوف لن يستطيع الوقوف أمام الغوغاء و تأمرهم بالرجوع الى بيوتهم و أن لا يواجهوا قوات الأمن و الجيش ..ها هو ينسى العهد الذي وعدنا به . من وراء نهج الثورة رغم سقوط حكومة حمروش ؟ بعدما رجعت إلى بيتي متأسفا ، و قد توقف الإضراب بصعوبة ، لم افهم كيف خرجت تلك الوثيقة و من كتبها و بالأحرى من سول و خطط لها ..ليس لي جواب الى الآن إلا ما ورد على لسان بعض إخواننا من مجلس الشورى الذين يقطنون بالعاصمة و كانوا قريبين من الأحداث ، أولها في حوار جريدة السلام مع الشيخ أحمد مراني في جريدة السلام يوم 04 أكتوبر 1992 ، نلخصه كما يلي : بعد عشرة أيام من العصيان المدني أعلنت حالة الطوارئ ، مع فجر الرابع من جوان واضطر حمروش الى تقديم استقالة حكومته . في اليوم التالي كلف الرئيس الشاذلي بن جديد وزير الخارجية في الحكومة السابقة أحمد غزالي بتشكيل حكومة جديدة كانت مهمة رئيسها الأول : التفاوض مع جبهة الإنقاذ لوقف العصيان المدني و قد نقل يومئذ غزالي لقيادة الإنقاذ وعدا من رئيس الجمهورية بتأجيل الانتخابات النيابية و إجراء انتخابات رئاسية مسبقة و كانت مبادرة الاتصال برئيس الحكومة الجديد من الشيخ بشير فقيه الذي طلب من عباسي بمرافقته لمقابلة غزالي فرفض بحجة أنه لم يتلق دعوة لمثل هذا اللقاء ، لكن أمام إلحاح الفقيه و تدخل الشيخ بالحاج في نفس الاتجاه لم يجد عباسي بدا من الذهاب لمقابلة رئيس الحكومة الجديد لكن الشيخ عباسي أصر مع ذلك على إفشال اللقاء و لم يكن يتحرج من اللجوء الى الاستفزاز السافر و تحمل غزالي منه ذلك ليقنعه في نهاية المطاف بضرورة وقف الإضراب و العصيان مقابل تلبية جملة من المطالب في مقدمتها : -تجميد قانون الانتخابات و الدوائر الانتخابية المصادق عليهما في بداية أفريل . -تأجيل الإنتخابات النيابية التي كانت مقرر إجراؤها في 27 جوان . -إجراء انتخابات رئاسية مسبقة . -إعادة المضربين المطرودين الى مناصب عملهم . و بعد تعهد رئيس الحكومة الجديد بتحقيق هذه المطالب قام الشيخ عباسي و أعلن فعلا عن وقف الإضراب من على منبر مسجد السنة بعد صلاة الجمعة 7 جوان 1991 ، و لكن الشيخ عباسي كان يبيت في الوقت نفسه لأمر آخر إذ بادر في اليوم التالي الى جمع المجالس البلدية المنتخبة باسم الج إإ ليقول لها صعدي من الموقف ما استطعت ! و فعلا عرف التوتر في شوارع أهم المدن الكبرى خاصة تصعيدا خطيرا ، إذ أصبح أشد مما كان عليه أيام الإضراب و بعد أن كان عدد الضحايا لا يتجاوز 30 قفز الى 70 ..ومع ذلك كلف مجلس الشورى الشيخين مراني و فقيه و ثالث بمتابعة الإتصال مع الحكومة بهدف معالجة مضاعفات الإضراب لا سيما إطلاق سراح الموقوفين و إعادة العمال المطرودين ..و حل اليوم الحاسم : الثلاثاء 25 جوان موعد اجتماع المجلس الشورى لمعالجة مشكلة قيادة الجبهة ..و كان الشيخ بلحاج اقترح تأجيل النظر في هذه المشكلة الى ما بعد الإضراب ..عشية هذا الموعد الهام أصدر المجلس الشوري في إطار تهدئة الأوضاع تعليمات الى البلديات ذات الأغلبية الإسلامية ، يطلب منها عدم اعتراض سبيل الجيش إذا أقدم على نزع شعار بلدية إسلامية و ترك الأمر للقيادة تتولى النظر فيه مع الحكومة غير أن الجماعة المقربة من عباسي أصدرت أمرا مضادا ، أي التصدي للجيش !و قد أدى ذلك الى صدامات عنيفة في حي باب الوادي و حي باش جراح حيث سقط عدد من الضحايا بين قتلى و جرحى ..و كان من أهداف هذه المناورة خلط الأوراق من جديد و نسف اجتماع المجلس الشوري ..و تأكد ذلك عندما جاء أنصار الشيخ عباسي في اليوم التالي ليقولوا : كيف نتكلم في مشاكلنا الداخلية و دماء إخواننا تسيل ؟..و اقترحوا على الفور صياغة بيان يدين الجيش و الشرطة معا ! حاول أنصار الحوار في المجلس الشوري بلا جدوى تجنب هذا التطرف و الدعوة الى محاورة السلطات بهدف وقف إراقة الدماء و سرعان ما احتدم الجدل بين الطائفتين حتى خرج الشيخ فقيه بشير غاضبا معلنا صراحة أنه سيتحمل مسؤولياته بمفرده ! اتصل فقيه بشير فورا بقيادة حالة الحصار فضربت له موعدا الساعة الثانية بعد الظهر بقصر الحكومة .. حضر معه الشيخ مراني.. لقد وجدنا لدى قيادة حالة الحصار و رئيس الحكومة شخصيا استعدادا كاملا للحوار و التفاهم و من الأشياء التي عبروا عن استعدادهم بقبولها :وقف عملية نزع شعارات البلدية الإسلامية ..إطلاق سراح الموقوفين و إعادة المطرودين الى مناصب عملهم .العدول عن استدعاء الشيخ بلحاج في قضية روجي ديدي و كان الدرك يومئذ يتأهب لحمل الشيخ على المثول أمام قاضي التحقيق و لو بالقوة ..عاد الشيخان في اليوم نفسه الى اجتماع المجلس الشوري ليبلغا نتائج اللقاء بالقيادة و رئيس الحكومة فقال حشاني متسائلا : ترى هذا الإستعداد الطيب مقابل ماذا ؟! ..فرد عليه الشيخان : مقابل تهدئة الوضع ..فأجابهما بنوع من التحدي : لا نهدئ بل نصعّد ..! هذا الجواب من شيخ يعبر عن جماعة عباسي في المجلس دفع الشيوخ فقيه و مراني و سحنوني الى مغادرة الإجتماع و التوجه مباشرة الى دار التلفزة لتبرئة ساحتهم مما يجري على الساحة باسم الجبهة الإسلامية داعين أنصارهم الى ملازمة الهدوء و معالجة الخلاف بالحكمة و الكف عن إزهاق الأرواح البريئة بغير مبرر ..في ذلك اللقاء التلفزيوني مساء 25 جوان 1991 ، اعتبر الشيخ فقيه عباسي مدني خطرا على الإسلام و على الجزائر وطنا و شعبا