يقف الإنسان أحيانا متعجبا أمام العديد من الظواهر الاجتماعية التي انتشرت مؤخرا بمجتمعنا بعدما باتت تقوض أركانه، وبعد أن أصبحت لبنته الأساسية مستهدفة، فما كان بالأمس ضربا من الخيال، أصبح اليوم واقعا معاشا تصنعه أعظم مخلوقة، جعل الله الجنة تحت قدميها، فصبر "أيوب" ما عاد من خصالها، حينما رفضت أن تكون ضحية لواقع لا يعترف بأن الحياة أخذ وعطاء، فبعد أن كنا ولسنوات نعيش على وقع قصص لأمهات يعانين في صمت في دور العجزة، بعد أن آثر أولادهن رضا زوجاتهن عليهن، خانهن العقل واستبد بهن الشيطان، نعيش في هذه السطور معكم قصص العديد من الاستثناءات التي رفعت التحدي، ورفضت العيش في كنف عائلة أذاقتها المرّ وباختيارها حتى وإن كُنَّ في نظر المجتمع قاسيات فما عشنه أقسى وأصعب بكثير. وإن اختارت بعض المسنات على مضض العيش كخادمات لزوجات أبنائهن حتى لا يعشن وحيدات في دور المسنين، وألا يحرمن ملء أعينهن من فلذات أكبادهن، فمشاعرهن لا تفقهها إلا أم مثلهن حملت وَهنًا على وهن، ربت وشقيت وعانت الويلات، فإن البعض منهن رفضن أن يكن مغلوبا على أمرهن، اخترن التمرد على المألوف وخلقن الاستثناء، ما همهن لومة لائم، فالمهم أن تظفرن بعم الراحة وأية راحة غير راحة البال. أمهات اخترن الوحدة والعيش بعيدا عن أحضان الدفء الأسري لشراء راحة البال "فتيحة"، "يمينة" وغيرهما كثيرات من استثناءات صنعن حكاية تحدي واخترن الوحدة عن طيب خاطر، رغم سعي أبنائهن لإعادتهن إلى أحضان العائلة، خاصة وأن الكثير منهم إطارات سامية وكل الأمور محسوبة عليهم، لكن ما انكسر لا يمكن أبدا أن يستعيد هيئته الأولى، بعد أن أصبحت الجنة عند الكثير من أبنائهم كما سبق الذكر تحت أقدام زوجاتهن لا أقدام أمهاتهن، حتى وإن عانين المرض وتوجب وجود من يعينهن على متاعب الحياة، فالأفضل أن يبتعدن عن القيل والقال وما تحيكه زوجات أبنائهن، فبعد أن استخلصن العبر من تجارب الحياة تأكدن مدى صدق المثل الشعبي القائل" للقرب يتناطحوا وللبعد يتصايحوا" هن إذن سيدات أصرين على العيش دون فلذات أكبادهن ،بعد أن استعجل أبنائهن ذات يوم ترحيلهن من حياتهم ،فهن كما يؤكدن يستمتعن اليوم بوحدتهن ...ربات بيوت وبامتياز حتى بعد أن تجاوزن الستين ،لا احد يزاحمهن حياتهن ،فقط ذكريات بعضها حلو وبعضها الأخر مر،تقص حكاياها كل زاوية من زوايا البيت
أنجبت 8 إطارات لكنها فضلت العيش وحيدة مع ذكرياتها تصر الحاجة "يمينة" منذ عامين على العيش بمفردها رغم كل الضغوط، عاصمية بكل ما تحمله الكلمة من معنىّ، كلامها، لباسها، عاداتها، فدماء هذه المدينة التي تعشقها حتى النخاع تجري في عروقها، بعد زواجها انتقلت من "بئر خادم" للإقامة ب"حسين داي" ورزقها الله ب8 أبناء، أغلبهم إطارات سامية بأكبر المؤسسات المدنية وحتى العسكرية، فالبكر الذي وافته المنية قبل سنوات كان إطارا ساميا في الجيش، عاشت في حياته أجمل أيام عمرها والتي لم تعشها حتى مع زوجها، فأب أولادها الذي زفت إليه وهي لا تتجاوز السابعة عشر كان صعب المراس لا حب، لا عاطفة ولا حنان ولا حتى كلاما معسولا كما تشتهي كل النساء، لا يعرف إلا النقد على كل ما وقعت عليه عيناه، ليقرر بعدها الرحيل نهائيا إلى وهران، أين أعاد الزواج بثانية أصغر سنا منها، تاركا لها مسؤولية 8 أطفال لم تعنها في تربيتهم إلا ماكنة الخياطة التي امتصت الكثير من نور عينيها الزرقاوين، وبعد أن كبر بكرها تكفل بمسؤولية الأسرة وسهر على تربية وتعليم إخوته حتى بلغوا أشدهم وأصبح غالبيتهم إطارات، لكن مع رحيله رحلت كل الأشياء التي تصنع بهجتها، ولأنها رفضت أن تهجر ذاكرتها، فقد رفضت أن تغادر البيت، رغم محاولة إخوتها وأبنائها إقناعها بالانتقال للعيش مع أحدهم خاصة أن الله أغدق عليهم من نعمه الشيء الكثير، بعد أن استقل غالبية أبنائها بحياتهم الخاصة، بقيت مع أصغرهم الذي يعاني ضعف المدخول، غير أنه وبعد أن كبر أحفادها وتزوج أكبرهم، انقلبت حياتها رأسا على عقب، وبدأت مشاكل الاكتظاظ وما يحدث عادة بين الزوجة والحماة وما زاد الطين بلة، أن أحفادها كانوا عدوانيين جدا بعضهم منحرف السلوك يتعاطى الممنوع حتى أن هناك منهم من هو مسبوق قضائيا. رغم الوحدة.. السعادة في أعماقها صنعت لها عمرا آخرا الحاجة "يمينة" التي كانت ترى بأم عينيها بيتها يُخرب بفعل استهتار أحفادها وتعنت زوجة ابنها التي لم تكن تقيم لها أي وزن، بل تصر على التنكيل بها بكلامها الجارح، تحكي بمرارة كيف أنها ذات يوم وبعد أن عجز ولدها على ردعهم طردتهم بقوات الأمن بعد أن أذاقوها الويل ورفضوا المغادرة في مسرحية درامية لازال سكان الحي يتذكرونها إلى غاية الآن، عندها فضلت العيش وحيدة رغم دعم باقي أبنائها لقرارها وإصرارهم على ترك المكان والرحيل حتى ترتاح على الأقل من نظرات أناس لا يفقهون إلا منطقا واحدا لا ينبغي لأم في ذات شتاء بارد أن تطرد عائلة ابنها عن طريق الاستعانة بالشرطة، حتى وإن كانت تموت في اليوم ملايين المرات، هاهي اليوم تعتمد على نفسها في كل شيء، تستيقظ فجرا لتصلي وتقرأ ما تيسر من القران الكريم، بعدها تنظف البيت وتخزن المياه خوفا من انقطاعه، تتسوق بعدها لابتياع مختلف مستلزمات البيت، وتلتقي بقريناتها لتبادل الأحاديث وغالبا ما تكون هموم الأبناء القاسم المشترك بينهن وحتى حديث السياسة والرياضة يحضر وبقوة تبعا للمناسبة، تصر كل يوم على اقتناء صحيفة، فهي تعتبر نفسها من جيل المفرنسين وتفتخر بذلك كثيرا، تحرص كثيرا على إعداد أشهى الوجبات، خاصة إذا كان أحد أبنائها سيشاركها المائدة، قلبها كما يقال بالعامية "حار جدا"، فهي لا تكل ولا تمل، تحب كثيرا الزوار الذين تتحفهم بأحاديث الطرب، فهي تحفظ الكثير ل"أسمهان"، "فريد الأطرش"، "عبد الحليم" وغيرهم، زيادة على أنها دائمة الحركة، رغم أن الزمن أخذ منها الكثير، تقول إنها سعيدة جدا بحياتها ورغم إلحاح كل أولادها على بيع البيت والعيش مع أحدهم لكبرها ومرضها، إلا أنها ترفض كل الحلول، حتى فكرة أن يقيم أحدهم معها رغم أن بعضهم قاطعها لعنادها وتعريضهم للقيل والقال، فكما تؤكد إحدى بناتها أن حماتها دائمة اللوم عليها وعلى إخوتها وتتهمهم حتى بالعقوق، فلا أحد يصدق أنها تريد العيش لوحدها في هذه السن المتقدمة جدا، فحتى في شهر رمضان ترفض مغادرة بيتها إلا في السهرة، فلا شربة تحلو لها إلا شربتها والمائدة التي تزينها بكل ما لذ وطاب حتى وإن لم تأكل منها إلا القليل، تتمنى أن يشاركها أبناءها المائدة لكن ببيتها لا ببيتهم، ترحب بهم كزوار لا أهل، وكما أسرت لنا فقد فكرت كثيرا في بيع البيت تجنبا لنظرات الشفقة ونزولا عند رغبة أبنائها الذين صار بعضهم يعتبرها وصمة عار بعد أن صارت الألسنة لا تكف الحديث عنهم، إلا أنها سرعان ما تعدل عن قرارها وتصر على مواصلة حياتها بمفردها حتى يأخذ الله أمانته، فالمقام لا يطيب لها إلا في بيتها، حيث ذكرياتها مع ولدها الذي رحل وتركها تبكيه بعد سنوات بحرقة وهي تتذكره تتطلع بقسمات وجهه في صور كل واحدة تحكي الكثير، فالزمن على قولها توقف برحيله وهي لا تنتظر إلى الرحيل لتقيم إلى جواره.
زوجة ابنها لا تكف أذيتها رغم تحملها لأشغال البيت ومصروفه !! الحاجة "فتيحة" حكايتها هي الأخرى لا تختلف كثيرا عن حكاية الحاجة "يمينة" وهي من مدينة تيزي وزو وتقيم بحي "القصبة العتيق"، لم ترزق إلا بطفلين من زيجتين كلتاهما كانت نهايتها تراديجيا حقيقية، الأولى توفي فيها الزوج في حادث مرور بعد أن ترك لها طفلا، أما الثاني فكان رجلا والسلام، أنجبت منه هو الآخر طفلا، اختفى بعدها أثناء العشرية السوداء بعد أن اختار طريق التطرف ومعاداة الدولة وكما أخبرت لاحقا فقد لقي حتفه في إحدى المشادات مع رجال الأمن، أقسمت بعدها أن لا تتزوج، واكتفت بنصيبها من الرجال، سهرت وتعبت كثيرا على ضمان العيش الكريم لولديها حتى لا تحرمهما غياب الأب الذي خرج ذات يوم ولم يعد، نجحت كما تقول في تربية واحد في حين فشلت في تربية الآخر فقد كان عنيدا كوالده واختار طريقا مظلما تماما مثل والده أيضا، فإذا كان الأب قد فقد روحه على يد قوات الأمن فإن الابن زهقت روحه في إحدى الجلسات الماجنة التي حضر فيها الخمر وغاب عنها العقل، ولأنها لم تخرج من الدّنيا إلا بولد واحد، فقد كانت تحبه لدرجة التقديس حتى هو كان يحبها وبجنون، فالحياة كما كان يردد دائما تحت قدميها، لكن بعد زواجه تغير كثيرا وبدأت المشاكل تدب بينهما والحميمية تتلاشى مع مرور الزمن، زوجته لم يرق لها أبدا أن تدلله أمه كثيرا وهو من تعتبره ملكية خاصة بها، ليجد الزوج نفسه حائرا بين إرضاء والدته التي رفضت حتى فكرة إعادة الزواج ثانية بعد أن ترملت وهي ابنة 28 عاما، وبين زوجته سليطة اللسان التي لا تكف أبدا عن الشكوى والتذمر من هذه العجوز التي نغصت عليها حياتها وعكرت صفو مملكتها، كيف لا وهي كما تقول تنازعها قلب الملك، رغم كل ما تفعله لإرضائها وإرضاء ابنها، فكل أشغال البيت على عاتقها والأكثر إنها فوق هذا هي من تتكفل بمصروف البيت وتحضره حتى من السوق، دون أن يشفع لها حتى بالاحترام والتقدير.
وحيدها غادرها .. جارت عليه الدنيا فعاد إليها لكنها أبت قربه ومع مرور الوقت كان الحال يسير من سيئ إلى أسوء، ولما وجد الابن عملا خارج العاصمة حيث يقيم أهل زوجته، غادر دون أن يستشير والدته ودون أن يفكر حتى فيما ستؤول إليه حالها وهو وحيدها، حتى أنه غادر ذات صبيحة كانت فيها والدته بالمقبرة تحدث زوجها الحبيب عما فعلت بها ثمرة حبهما وكيف تحالفت مع الأيام حتى لا تعرف السعادة طريقها إليه، لكن أموره لم تسر على ما يرام، فقرر العودة بيد أن أمه رفضت استقباله ثانية حتى وإن كان يعيش اليوم الأمرين عند أهل زوجته، فكما تقول "الخروج من الحمام ليس كالدخول إليه أبدا"، فما دام تخلى عنها واختار طريق زوجته، عليه تحمل مسؤولية اختياره، خاصة وأنها اكتشفت خلال الفترة التي عاشتها بمفردها أن الحياة بدون مشاكل زوجته أجمل بكثير، فهي لم تعرف طعم الراحة إلا برحيلهم، فبعد أن كانت تظن أن العيش بدون ولدها مستحيل، أيقنت اليوم أنه ممكن جدا وحتى أهنأ، فولدها ما عاد ولدها الذي ألفته، ورغم ضغط الأهل عليها لإعادته رفضت الموضوع جملة وتفصيلا، فزوجة ولده ما تركت أحدا من أهلها إلا ونسجت له الملايين من الحكايات عن ظلم حماتها وجورها بهتانا وظلما، لتأتي في الأخير وبكل وقاحة تطلب العودة دون حتى أن تعتذر أو تطلب الصفح .
البحث عن السلام في تصور المسنات سبيله فردانية العيش
3 سنوات كاملة مرت وهي تصر ليومنا هذا على ألا يطأ أحد بيتها للعيش معها إلا بعد موتها، حتى بعد أن عادت المياه إلى مجاريها بينها وبين عائلة ابنها خلال عيد الفطر الماضي، فحياتها اليوم رائعة كما تقول خاصة مع جيرانها الطيبين، فبعد أن كان يستحيل قبل اليوم على أي أم أو حتى سيدة أن تفكر في العيش منفردة، أصبح الأمر مطلوب كثيرا حتى بوجود الأبناء، فالكثيرات يفضلن العيش مرتاحات تحت أي ظرف حتى وإن كن مسنات، تعانين من مشاكل صحية ومعرضات لازمات في أي وقت، ودون التفكير حتى إن كان في قرارهن الكثير من التحدي للمجتمع وكسر ما هو متعارف عليه، ظاهرة بدأت تأخذ طريقها وبسرعة، خاصة في المدن الكبرى التي أصبح فيها بإمكان حتى الشابة الاستقلال بحياتها، فهل تراها الروابط الأسرية بدأت تتفكك أم أنها كغيرها من الظواهر الأخرى ضريبة ندفعها لحياة المدنية التي نعيشها في الوقت الراهن.