في أول زيارة له إلى الجزائر منذ تكليفه من قبل الرئيس الفرنسي «نيكولا ساركوزي» بملف العلاقات الاقتصادية مع الجزائر، فضل «جان بيار رافاران»، وهو وزير أول سابق، أن يتحدث عن المستقبل، وبدت كلماته وكأنها ترسم خارطة طريق لترميم علاقة خاصة بدأت تتآكل بفعل تراكم الخلافات وسوء الفهم المتبادل. الحديث عن المصالح الاقتصادية كان يقفز إلى الواجهة كلما أثير ملف العلاقة بين الجزائروفرنسا، وفي كثير من الحالات كانت هذه المصالح يحيطها شيء من الغموض والتضخيم رغم أن الأرقام تؤكد أن الأمر لا يتعلق بمبادلات تجارية كبيرة أو باستثمارات ضخمة، فحجم التبادل التجاري بين الجزائروفرنسا يدور في المعدل بين 8 و10 مليار أورو حسب أرقام سنتي 2008 و2009، وهذه المبادلات لا تمثل إلا 1 بالمائة من حجم التجارة الخارجية لفرنسا، وحتى مجال الطاقة الذي يهيمن بشكل شبه كامل على صادرات الجزائر لا يغير الشيء الكثير في المبادلات بين البلدين، ففرنسا لا تستورد إلا 5 بالمائة من حاجاتها من مصادر الطاقة، أي النفط والغاز، من الجزائر، كما أن فرنسا تستثمر سنويا أقل من نصف مليار أورو في الجزائر. ويصر السفير الفرنسي لدى الجزائر «كزافييه ديانكور» على القول إن "فرنسا تعد أول مستثمر خارج المحروقات لأن المجموعات البريطانية والأمريكية تستثمر في قطاع المحروقات، أما فيما يتعلق بباقي القطاعات، فإننا نجد على سبيل المثال مصنع ميشلان والمختص في صناعة إطارات السيارات، يعتبر أول مصدّر جزائري خارج البترول، ويقوم بتصدير نسبة 40 بالمائة من إنتاجه، ليصبح أول مصدر بعد سوناطراك"، وهي إشارة إلى أن الحضور الفرنسي في الجزائر أكثر جدوى من غيره. غير أن الأرقام يمكن قراءتها من زاوية مغايرة تماما، ففرنسا هي الممون الأول للجزائر وهي تستحوذ على 16 بالمائة من واردات الجزائر، والحفاظ على هذه المكانة سيكون أمرا مهما، بل إنه هو المهمة التي كلف بها «جان بيار رافاران» الذي قال بعد توليه الملف "إن فرنسا تحتل مواقع مهمة بالجزائر والمؤسسات الفرنسية ترغب في الاستثمار فيها أكثر فأكثر، ويجب الأخذ في عين الاعتبار الإرادة الجزائرية في تعزيز هذا المسعى المتمثل في تطوير اقتصادها الوطني والعمل على ترقية اقتصاد ما بعد البترول"، وهذه ليست قضية حاضر بل قضية مستقبل، فحسابات القوة الاقتصادية تقوم الآن على دراسة الاتجاه أكثر من متابعة الوقائع اليومية التي تقدمها الأرقام، والاتجاه يقول أن فرنسا تتراجع بشكل منهجي على الساحة الجزائرية رغم أنها تحتل المرتبة الأولى، ففي سنة 1992 كانت فرنسا تمون الجزائر ب 24 بالمائة من مجمل ما تستورده من الخارج وكانت آنذاك تحتل المرتبة الأولى، وفي سنة 2009 بقيت فرنسا تحتل المرتبة الأولى لكن حصتها تراجعت إلى 16 بالمائة فقط، ولإعطاء الرقم دلالته لا بد من المقارنة، فالصين قفزت خلال العشريتين الأخيرتين من المرتبة العاشرة ضمن مموني الجزائر سنة 1990 وبنسبة 2 بالمائة من إجمالي واردات الجزائر إلى المرتبة الثانية سنة 2009 وبحصة تبلغ 12 بالمائة من إجمالي الواردات الجزائرية وهي حصة قريبة جدا من حصة فرنسا، وحسب الخبراء الذين يدرسون هذا التحول فإن الاتجاه هو نحو فقدان فرنسا للريادة خلال السنتين القادمتين على أقصى تقدير. هذا قد يساعد على فهم التوقيت الذي تحركت فيه باريس من أجل الاستدراك، والمفتاح المهم للفهم هو قول «رافاران» لدى وصوله إلى الجزائر الأسبوع الماضي "إن فرنسا تريد تهيئة المستقبل من خلال مشاريع صناعية طويلة المدى ورغبة في تحقيق شراكة مربحة تعود بالمنفعة على الطرفين"، وفي هذا التصريح اعتراف بأن العلاقة الاقتصادية التي كانت قائمة بين البلدين لم تكن مربحة للطرفين، وليس هذا كل ما في الأمر، فالمستقبل هو الهدف، وهو ما يعني أن فرنسا تحركت بناء على استشرافها لما ستكون عليه هذه المنطقة بعد عشرية أو عشريتين، فهناك مزيد من الاستقرار الأمني والسياسي، وهناك توجه نحو وضع قواعد اقتصادية واضحة وعصرية، وهناك إصلاح للمنظومة المصرفية، وقوة عاملة كبيرة ومؤهلة، وهذه كلها مقومات قوة ونهضة يمكن أن تقلب الأرقام رأسا على عقب خلال السنوات المقبلة، فجنوب المتوسط هو المجال الذي يمكن أن تنطلق منه فرنسا لبناء دورها كقوة كبيرة على الساحة الاقتصادية العالمية، وصورة المنطقة في المستقبل بدأت ترتسم وهي مغايرة تماما لما يمكن أن نراه اليوم. خلال زيارة الرئيس الفرنسي «نيكولا ساركوزي» إلى الجزائر سنة 2007 تم تمديد عقد شراء فرنسا للغاز الجزائري إلى غاية 2019 بمعدل 2.5 مليار متر مكعب وهو مؤشر على توجه فرنسا نحو الاعتماد أكثر على الجزائر في تأمين حاجاتها من مصادر الطاقة وهو أمر ظلت تتحاشاه لسنوات وانطلاقا من اعتبارات سياسية، والقراءة الأهم لهذا المؤشر يجب أن تأخذ في الاعتبار تفصيلا مهما، وهو إذا كانت الجزائر هي الممون الثالث لفرنسا بالغاز فإنها تأتي قبل روسيا وهو ليس بالأمر الهين من الناحية السياسية والإستراتيجية.