فاقت اليوم سلوكيات الكثير من الأغنياء البخلاء حدود المعقول، وأصبحت أخبارهم فاكهة حديث العام والخاص، يتبادلون عبر مختلف اجتماعاتهم نكتهم ويتندرون بطرائفهم، فأضحت حكاياهم تنافس حتى حكايا مشاهير «الجاحظ» في كتابه «البخلاء»، بعد أن استبد بهم حب الدينار وأعمى بصائرهم الشح وراحوا يزاحمون المتسولين فيما تخلفه الأسواق في نهاية كل يوم، لا لفاقة ولا لعوز ولا لفقر بل الشح والبخل وحده السبب، فلا ثرائهم الواسع ولا غناهم الفاحش حال دون أن يستبيحوا العيش من الفضلات، ويزاحموا الفقراء والمساكين في لقمة يأخذونها بقلة الأثمان رغم أن الله أغدق عليهم من نعمه الكثير. أغنياء في جيوبهم لكنهم مساكين لفقر نفوسهم في القناعة ممارسات مستهجنة ترسم صورة يندى لها الجبين تترجم أخلاقيات بعض الأشخاص، يبدو أنهم يستمتعون وهم يقومون بتدنيس طبع الكرم وعزة النفس والترفع عن الدنايا التي تميز طباع جل الجزائريين، فإن كانت حكايا المتسولين الذين امتهنوا هذه الحرفة ليضخوا المزيد من الملايين في حساباتهم البنكية، ويجمعوا ثروات طائلة باستخدام كل الوسائل حتى وإن كان بالتنكيل بالبراءة، المهم العزف على الوتر الحساس والتأثير في القلوب قبل العقول لاستنزاف الجيوب، وإن كان حب المال الذي جعله الله زينة الحياة الدّنيا يدفع بهؤلاء إلى التقليل من شأنهم لحد الذل والدوس على كرامتهم وكبرياءهم لتجميع المال، فإن الكثيرين منهم اليوم يجتهدون ويوظفون كل الوسائل المشروعة منها وحتى غير المشروعة للحيلولة دون مغادرة الملايين التي جمعوها في أرصدتهم، فالدخول مسموح لكن الخروج ممنوع، غير أبهين لا بكلام الناس ولا بسخريتهم ولا باستهزائهم، ولا حتى بالحرمان الذي طال عائلاتهم التي لم تتذوق طعم العيش الكريم لا في الشهر الفضيل أو مختلف المناسبات والمواسم. يقتاتون كل مساء من قمامات الأسواق إنهم يصرون على اكتناز المال وادخاره بدعوى الاقتصاد والترفع على أن يكونوا إخوانا للشياطين كما تقول به أحكام الدين الحنيف، ولا يترددون حتى في الدفاع عن تهمة الركوع تحت أقدام شيطان المال، فهم العقلاء وغيرهم ممن ينفقون كدهم وتعبهم في أتفه الأمور من ملذات الدّنيا حتى وإن كانت ضرورية، أناس لا بل مجانين ما همهم شيء في هذه الحياة، فوحده الدينار حبيبهم ووحدها رفقته تؤنسهم وتصنع بهجتهم وتكديسه بجيوبهم وخزائنهم وحدها منيتهم ومطلبهم، لتغدوا الأسواق الشعبية التي يسترزق الفقراء من خيراتها الوفيرة وينعم البسطاء بأسعارها الرخيصة أكثر الأماكن استقطابا لهم، حتى وإن لم تكن سلعها بالجودة المطلوبة، فأمام بريق الأسعار يصبح كل شيء مباحاً حتى وإن كانوا يملكون من المال ما يكفيهم للعيش عيشة الملوك لسنوات طويلة، وبالقدر الذي يمكنهم حتى من اقتناء الألذ والأطيب على الدوام، هم زبائن من طراز خاص جدا لا يتسوقون بتاتا بأسواق الخضر والفواكه كما يتسوق الناس عادة في بداية اليوم لاقتناء ما يلزم من حاجيات لإعداد وجبتي الغذاء والعشاء، فدائما عقارب ساعاتهم مضبوطة على نهاية اليوم وحتى مع الساعات الأولى لليل، أين ينهي غالبة المتسوقين تبضعهم ويستعد التجار لرفع سلعهم وبضائعهم تحضيرا للرحيل، يخزنون ما بقي منها سليما، لإعادة تسويقه في اليوم الموالي، بينما يرمون ما وصل منها إلى درجة كبيرة من التعفن بعدما صارت غير صالحة للاستهلاك، قبل أن يظهر لهذه البضاعة زبائن جدد من نوع خاص جدا، لا يهمهم لا عدم صلاحيتها ولا مدى تعفنها، فالأهم ألا يدفعون شيئا وإن دفعوا فإنهم لا يدفعون إلا ثمنا زهيدا حتى يحتكروا السلعة، ما دام عدد هؤلاء في تزايد مستمر.
رغم الثراء الفاحش إلا أن طمع النفس وجشعها لا يقاوم هم إذن زبائن على قدر كبير من الثقافة وعلى قدر أكبر من الغنى، لكنهم شحيحون وبخلاء، مولعون بتكديس المال ويتسببون في الكثير من الحرمان والمعاناة لعائلاتهم، فهم ينامون على الملايين غير آبهين لا بحاجاتهم ولا باحتياجاتهم الضرورية فما بالك بالكمالية، ليساهموا من دون أن يدروا في تنشئة جيل بعضه يعاني من العقد النفسية وبعضه الآخر ورث الشح والبخل بعد أن غرست فيهم مساوئ الطباع، فحب المال يسموا عندهم فوق أي اعتبار، فحتى وإن ملكوا مال قارون طلبوا المزيد، مادامت عيونهم لا يملاها إلا التراب، الأغنياء الفقراء..المثقفون البخلاء..، تتعدد النعوت لأناس استهواهم تكديس المال وحرمهم الشح من التمتع بما يجنونه من مال، وكم هي كثيرة هذه النماذج التي يعج بها مجتمعنا، لكن يبقى المقاول "سليم" والمهندس "فاتح" نموذجان صارخان عن هؤلاء الذين عشقوا الدينار وهاموا في حب جمعه. "سليم" مقاول ثري.. طعامه وأسرته الصغيرة دائما من مقالب القمامة أخبار "سليم" يتحاكى بها الكبير والصغير، بعد أن افقده البخل عقله وراح يجد في تخزين المال دون أن تعرف حتى زوجته مقدار ما يملك من مال، ترك التدريس وفضل أن يكون مقاولا، مداخليه كثيرة جدا ورغم ذلك فهو دائم الشكوى والتذمر من ضعف الدخل ووصل به الأمر إلى طرد ابنه من البيت، لأنه كبر وعجز عن إيجاد عمل، الوالدة هي من تتكفل بمصاريف الأبناء، بما تجود به عليها والدتها، فرغم أنها كانت أستاذة في مادة الفرنسية إلا أن كل راتبها يأخذه،لا يأكلون أبدا كما يأكل الناس ولا يلبسون ملبسهم، حتى ما تتوفر عليه ثلاجتهم من خضر وفواكه لا يختلف أبدا عما تحويه مقالب القمامة وما يرمى على جوانب السوق، حتى في الشهر الفضيل لا تتغير الأمور كثيرا، فقط قدر الشربة وحده يصنع الفارق أو الخبز الجديد، جشعه أعماه ودفعه حتى للتخلي عن شريكة حياته وأم أطفاله بعد سنوات طويلة من العشرة، لا لشيء إلا لأنها تجرأت على أخذ مبلغ 2000 دج ومنحته لابنها لحاجة ملحة، فبعد أن تعذر عليها الاقتراض من معارفها تحلت بقليل من الشجاعة وأخذت المبلغ من جيب زوجها البخيل، علم بمجرد عودته مساء، استشاط غضبا وجن جنونه ليوسعها ضربا ويرمي عليها يمين الطلاق بالثلاث ويطردها من بيتها مع أطفالها، ولم يسمح لها بأخذ أي شيء من البيت. أعاد الزواج بأخرى فلم تجد غير مرارة العيش بانتظارها لم يمض عام واحد على تطليقها حتى أعاد الزواج من أخرى تصغره ب30 عاما، كانت تبحث عن الهروب من بطش زوجة أبيها بأي طريقة، فلم تسأل و لم تفكر حتى في الموضوع، فمادام كبيرا في السن وهي صغيرة كانت تعتقد أنه أكيد سيدللها حتى إن كانت به أمور لا تحبذها، فأكيد ستغيره لكنها كانت مجرد أحلام وفقط، بعد أن غيب الكثير من حقوقها حتى في إقامة عرس بدعوى وفاة أحد أقر باءه، بدأت تكتشف الحقيقة المذهلة، فكل الأحلام تبخرت وهي ترى زوجها لا يغادر إلا مساءً للتسوق ليدخل عليها والليل بدأ يرخي سدوله حاملا أكياس الخضر، تحسبها كما تقول أكياس قمامة وصلت إلى درجة كبيرة من التعفن، يجبرها على تنظيفها وطبخها، في البداية كانت ترفض تقبل الوضع، فكيف لها أن تأكل من فضلات الأسواق وهي العروس، أضربت عن الأكل عسى الزوج يأبه لأمرها ويعدل عن عاداته السيئة لكنه لم يفعل وأصبح يجبرها على طبخها حتى بالضرب، وحتى وإن رفضت الأكل فهو لا يبالي ولا يتوانى حتى في اتهامها بالتكبر على نعمة الله، وفيما كانت تفكر في الطلاق حتى وإن خرجت إلى شارع لا يرحم بدأت ثمرة زواجها تتحرك بأحشائها، والأدهى أن زواجها لم يوثق بعد، لتستسلم لقدر اختار لها رجلا يقتر في أكل المال ويحرمها حتى من وجبة شهية وهي العروس التي تبحث على الدلال، فعلى الأقل يحق لها كما تقول أن تتفنن في إعداد أشهى الأطباق، لتستعرض قدراتها بما تعلمته ببيت أهلها. "فاتح" الجوع نصيب زوجته وأولاده بدعوى أنه يخشى التبذير "فاتح" وهو إطار سامي بإحدى الشركات الوطنية، راتبه كبير وما يتمتع به من امتيازات أكبر قي عقده الرابع، أب لثلاثة أطفال لم ينتهلوا يوما من حنانه ولم يغترفوا الشيء الكثير من حبه، حرمهم من أبسط الأشياء، فعندما تراهم تكاد تجزم أنهم دون أب يتكفل بمطالبهم، فهم في حياتهم لم يلبسوا جديدا، فقط مما يجود به عليهم بعض الأقرباء، حتى الأكل ينامون جياع في الكثير من الأحيان، فهو دائم الدعاء عليهم بكل مصائب الدنيا، لأنهم يكادون يمتصون دمه، اللحم لا يدخل بيوتهم إلا في المناسبات والأمر سيان بالنسبة للفواكه والحلويات، لأنه مشغول ولا متسع من الوقت له لأجل التسوق، فقد أوكل المهمة لبكره بعد أن اتفق مع تاجر بسوق "باش جراح" على منحه السلعة دون سواه مقابل مبلغ زهيد، زوجته هي الأخرى رفضت معيشة الذل هذه وترجته أكثر من مرة أن يعود إلى صوابه، لأن تصرفاته أثرت سلبا على نفسية الأولاد بعدما أصبحوا أضحوكة الأطفال، كما أن صحتهم في تدهور خاصة وأن ما يتناولونه وجبات غير كافية، فابنها البكر يعاني من سوء التغذية ووالده لا يبالي، حدثوه فيما شئتم إلا في النقود، لتحتار أكثر المسكينة مع قدوم الضيوف، فهي لا تجد ما تطبخه خاصة وأن السلعة التي يحضرها من السوق تكون في أسوء حالاتها، والغريب كما تقول أنه يقيم الفرائض ولا يتحدث إلا بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية، وله وكلما احتجت وطالبت بحقوقها وحقوق أطفالها اتهامات بالتبذير والمغالاة في طلباتها،ّ فهو كما يردد دائما لا يريد أن يكون من إخوان الشياطين. كل حلولها أمام شحه لم تثمر إطلاقا هي اليوم لا تجد أمامها غير أن تندب حظها مليون مرة وتموت في اليوم ملايين المرات كلما وجدت أطفالها يعانون الأمرين من تصرفات أب أعماه الطمع ولا يفكر إلا في جمع المال الذي لا تدري لمن؟ استنفذت كل الطرق ليعود زوجها إلى رشده، فهجرت البيت الزوجي وأرسلت له أناس من أهله وأهلها للتوسط، لكن دون جدوى لأنه مقتنع أن ما يقوم به هو عين الصواب، وأن ما يوفره من مال سيجدانه يوما في ظروف أسوأ، رافضا رفضا مطلقا أن ينفق أمواله التي تعب في جمعها على توافه الأمور، واقع ما وجدت معه من حل إلا التضرع لله أن يهديه ويمنحها وأطفالها الصبر لتتحمل ضنك العيش. مثقفون وأغنياء و متفقهون حتى في الدين، لا يترددون في التدليل على أفكارهم باقتباسات من الكتاب والسنة تكون في الكثير من الأحيان بعيدة عن سياقها الحقيقي، فعلى عكس باقي الآباء الذين يكدون ويجدون ليوفروا أهنأ عيشة لأسرهم، يصر هؤلاء على حرمان عائلاتهم من أبسط الحقوق وإطعامهم حتى من فضلات الأسواق، رغم أن الله أوصى بهم خيرا، فحب المال جعلهم لا يفكرون إلا في تجميعه دون أن يدري أحد لمن يكتنزونه ؟ لماذا؟ وكأنهم سيخلدون في الدّنيا أو ستدفن معهم أموالهم لترافقهم إلى دار الحق.