ماذا يمثل الطعام في حياتنا؟؟ حاجة بيولوجية متكررة من أجل كسب الطاقة التي تحترق كي نواصل الحياة؟؟ متعة متواطئة مع الفيلسوف الإغريقي أبيقور التي يرى فيها الخير الملائم لطبيعة الجسد··؟؟ أوربما هو عادة اجتماعية نمارسها من دون التفات؟؟ في الحقيقة لا يمكن لهذه الحاجة البيولوجية أن تمارس من دون التفات، فهي اشتراك كل الحواس نحن ''نأكل بعيننا'' ونهتدي إلى مكان الروائح الزكية ب ''الماكلة المليحة من ريحتها''·· كما نغمس أيدينا فيها ف''البنّة من اليدين''·· ولعل تضافر الحواس يجعل من الطعام طقساً لا يشبه بقية الطقوس الأخرى·· متى جاء الطعام إلى هذا الكون؟ ''وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلاّ منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين''. صدق الله العظيم· أول الطعام كان طعام الجنة، والجنة في مخيلتنا هي تلك الوديان الجارية من العسل والخمور وكل أنواع الفواكه، لدرجة أنك ترى الطير في السماء فتومىء إليه يأتيك في طبق فضي ويصير مشوياً جاهزاً كي تلتهمه·· ولكن هل أكل الجنة يختلف عن أكل الأرض؟؟ بمعنى أن أكل الجنة نظيف وروحاني ومن دون فضلات··· فالسوءة لم تكن قد ظهرت· '' فأكلا منها فبدت لهما سوءتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وعصى آدم ربه فغوى''. صدق الله العظيم· وبهذا تغير مفهوم الأكل وكانت الأرض عقاباً وأكلها من بعض العقاب، غير أن منشأ الأكل الأول سماوي وعال المقام· رحلة الطعام من الجنة إلى الأرض من المثير أن تبدأ رحلة الطعام من الجنة إلى الأرض عبر نقيض حقيقي وهو النار، فالطعام رفيق النار يقترن بها وليس يستساغ من دونها·· هو يذوي داخلها كما الاحتماء، ويذيب كل عصي ويجمر ويحمر ويشوي ويقلي فيصير لذة للناظرين ومسرة للآكلين· بعدها تأتي حروب الملح لتنتهي مرحلة ''المسوس''، وفي ذلك الوقت كان الملح يقايض بالذهب لقيمته الكبيرة ولاستحالة الأكل من دونه·· التوابل المختلفة من جهتها أضافت كثير النكهة للطعام وطورت مفاهيم استعمارية كان غرضها الأول الهيمنة على سوق التوابل الرائج، تماما كما هو عليه الآن سوق البترول·· وينفرد الطعام في عصرنا الحالي بغرفة خاصة ينام فيها قرير العين ليس يشكو أزمة سكن ولا تشرداً في الشوارع· البرطوز الجزائري يتفوق على الفكر الدافنشي المطبخ أو الخيامة، كما هي معروف في اللغة العاصمية القديمة، ظل صاحب سلطة يجمع تحت سقفه الخدم والحشم. وفي هذا المقام يذكر دافنشي وهو الذي قدم عددا من الرسوم التخطيطية لأدوات خاصة بالمطبخ، أن الطباخ يحتاج أولا إلى مصدر متواصل من النار والماء، وبعدها يحتاج إلى أرضية نظيفة دائما، وبعدها أدوات للتنظيف والطحن والتقطيع والتقشير والتشريح· وبعد ذلك وسيلة للتخلص من الروائح السيئة وإبقاء أجوائه حلوة وخالية من الدخان· ولكن الطباخ الجزائري القديم أضاف شيئاً آخر غفل عنه دافنشي، إنه البرطوز وهو عبارة عن غرفة صغيرة عالية البناء يحدد موقعها في البناء عن طريق حساب سقوط أشعة الشمس على المكان فلا تصل إليها الشمس مطلقا مما يجعلها رطبة على الدوام، وتستعمل لحفظ اللحم ومختلف المواد الغذائية على شاكلة غرف التبريد الحالية· ولائم الجاحظ الورقية: على غرار المطبخ يسكن الطعام أيضا كتب الأدب الثقيلة، والتي تعد أمهات الكتب العربية فها هو يقتطع جزءا كبيراً من كتابات الجاحظ ومن بخلائه، ذات الأمر بالنسبة لمقامات بديع الزمان الهمذاني التي لا تخلو من وصف الطعام ونوادره وأخبار محبي الطعام·· ومن هذا المنطلق تكونت في الأدب العربي رؤية كاملة عن كل هذا تضم شخوصاً كاملة المعالم وكذا قاموساً غنياً لمختلف أنواع الطعام العربي منه والأعجمي، وكذا عدد من الحيل المتناهية الدهاء.. حيث يقول ابن التوأم وهو أحد بخلاء الجاحظ :'' احذر من حيل لصوص النهار، وحيل سراق الليل، وحيل طراق البلدان، وحيل أصحاب الكيمياء، وحيل التجار في الأسواق والصناع في جميع الصناعات، وحيل أصحاب الحروب، غير أن هذه الحيل لا تبلغ مبلغ حيل المستأكلين والمتكسبين''· وانطلاقا من هذا التحذير والاعتراف بالدهاء ليس يكره الجاحظ بخلاءه، ولا يريد تصغير شأنهم من خلال عرضه لحساباتهم القذرة ووصفه لخستهم ودناءتهم، وإنما يذكر أيضاً أنهم قوم يتدبرون اللغة ويعرفون موضع الكلام، ويستعينون في تعبيراتهم بالمعاني الشداد وبالألفاظ الحسان وجودة الاختصار وبتقريب المعنى وبسهولة المخرج، حيث يقدم لنا الكاتب المغربي عبد الفتاح كيليطو نظرة نقدية في شأن بخلاء الجاحظ حيث يؤكد أن الكتاب: ''وليمة أو مأدبة كبرى تلتقي خلالها شخصيات من عدة طبقات ومشارب، مبذرون، بخلاء، أطباء، عمال، لغويون، طفيليون، متكلمون. وخلالها تقدم أنواع عديدة من الطعام، أغلب مشاهد الكتاب تمت بصلة إلى الطبخ والتغذية، إلى الأكل الذي قد يتم في إطار حميمي خاص أو في سياق من الأبهة والبذخ''· ولو أضفنا الكثير من المقامات التي تناقش ذات الموضوع الخاص بالمستأكلين والبخلاء ومحبي الطعام فيمكننا جمع ما يصطلح عليه ب ''علم العرب في الطعام'' لأن الأمر لا يضم نوادر ظريفة فقط، وإنما يضم أيضا سبل وتقنيات جد متطورة في الاقتصاد ويمكن أن تعالج لتصير نظريات حديثة تفيد كثيراً في كيفية الادخار والتوفير، ومما لا شك أنها ستنفع جداً في ظل الأزمة المالية العربية· أكل الفرد لوحده سبب غياب الكتابات الخاصة بالطعام: يذكر كليطو أن الجاحظ لا يحبذ أبداً أكل الفرد لوحده، وأن الأكل لديه يعني المشاركة، ويتعجب كثيراً من الذين يقومون بذلك بل ويعتبرهم بخلاء وقليلي الكرم، حيث يعلن تعجبه واندهاشه الكبير من شخصية الخرساني التي تأكل بمفردها ويستطرد في كتابه كثير المواقف عن هذا الأمر الذي لا يروقه· ماذا تراه يقول الجاحظ فينا لو قدم إلى عصرنا ووجدنا لا نشترك في طاولة الطعام وليس في صحن الطعام·· ربما غياب هذه المشاركة هو الذي جعلت الحديث عن الطعام يكاد يختفي أدبياً، فلا نكاد نلمح هذا في كتابات الأجيال الجديدة التي لا تسجل حتى أسماء أطباقها وتحتفي بها داخل كتاباتها·· أحلام مستغانمي ذكرت وصف سينية القهوة القسنطينية في كتاب ذاكر الجسد وكانت ومضة حميمية تسجل مشاركة ما قبل أن تختفي· وليس يقف الأمر عند تسجيل حميميات عرضية، إذ يمكن للطعام أن يتجسد في فلسفة مغايرة تماماً مثلما فعلت البلجيكية ايميلي نوثومب في كتابها ''بيوغرافيا الجوع'' الذي ترجمه بسّام حجّار، فكانت أسلوباً جديداً وفلسفة مختلفة للجوع·· حيث رصدت إيملي جوعها الكثيف لطفولتها في اليابان وجوعها لليابان وللسكريات وللحب وللماء·· ومختلف ذكرياتها وتنقلاتها في العالم بحكم عمل والدها في السلك الدبلوماسي سفيراً لبلجيكا· هو الطعام إذن··؟؟ الذي نكتبه كل يوم رفقة عدد المرات التي ندخل فيها المطبخ·· ولا نفقه جوعنا المتطاول لكل ما هو صالح للحياة·· [email protected]