يعلن فصل الصيف عن قدومه بالجزائر من خلال مظاهر كثيرة، أبرزها ارتفاع درجات الحرارة التي تدفع بالناس أفواجا نحو الشواطئ، إلى جانب ظهور مختلف أنواع الفواكه الموسمية التي احتجبت طوال العام لتظهر في هذا الفصل، ومن بين هذه الفواكه فاكهة ''التين الهندي'' أو ما يطلق عليها عندنا ''الهندي أو كرموس النصارى ''، التي ينظر إليها في الجزائر على أنها فاكهة الفقراء رغم ''شعبيتها'' الواسعة وشهرتها، فهي لا ترقى في أعينهم إلى قيمة الفواكه الأخرى مثل الموز والتفاح والخوخ وغيرها. ما إن يحل فصل الصيف إلا وتبدأ الفواكه الموسمية في الظهور تدريجيا ومن بينها التين الشوكي، ليزين موائد العائلات الجزائرية خلال شهر أوت مزاحما الكثير من أصناف الفواكه التي تميز الفصل على غرار التفاح، البطيخ، أو العنب. وحسب ما يلاحظ هذه الأيام في الشوارع والطرقات العاصمية بروز باعة ''الهندي'' ومعظمهم من الأطفال والشباب، لا يتجاوزون الثلاثين من عمرهم، إذ لم تعد تجارة الخضر والفواكه مقتصر بيعها فقط داخل الأسواق التجارية أو الموازية، بل حملت نفسها وحطت رحالها على أرصفة الطرقات والشوارع والأحياء لتتحول إلى أماكن تنصب فوقها طاولات خشبية لبيع التين الهندي، وتتحول بذلك إلى سوق مفتوح على الهواء الطلق تحظي بزبائن من مختلف الأعمار، يتردون على شراء تلك السلع التي تعرض في هذا السوق. يكتسحون كل زاوية من زوايا الشوارع والطرقات فهذه الفاكهة دخلت كتجارة موسمية يروج لها تجار من مختلف الأعمار، يتاجرون بها منذ الساعات الأولى من الصباح لتكتسح عشرات من تلك العربات الصغيرة المكونة من عجلتين يجرها الباعة المتنقلون من مكان إلى آخر، وسط العمارات والأحياء والشوارع، بل حتى في الأسواق وبجانب المحلات والمقاهي، وغالبا ما تكون مملوءة بكميات معتبرة من التين الهندي المرشوش بالماء ليحافظ على حيويته، من جهة ويساعد على تساقط الأشواك التي تكون ملتصقة به من جهة أخرى، فيجوبوا كل الطرقات مرددين عبارة ''الهندي والموس من عندي'' كناية عن جاهزية هؤلاء الباعة في تنظيف هذه الفاكهة وتجريدها من غلافها الشوكي بحرفية لا يستدعي تحضيرها سوى بضع دقائق وتقديمها بعد ذلك طازجة لكل من يريد أن يأكل هذه الفاكهة الغنية بالمياه والسكريات بالإضافة إلى الفيتامين (أ - ب) لينتعشوا بها في فصل الحر، إذ يقف هؤلاء وراء طاولتهم التي تحمل المئات من حبات التين الشوكي في انتظار زبائن قد يستهلكون بالمكان أو يأخذون معهم هذه الفاكهة التي تنمو في مناطق جبلية لا تتطلب العناية على غرار الأشجار المثمرة الأخرى، إذ تعد هذه الفاكهة نباتا من الفصيلة التوتية. و''الهندي'' من فواكه المناطق الحارة، التي تكوّن أزهارا صفراء يتحول لونها إلى اللون البرتقالي قبل سقوط التويجات وتتدرج ثمارها في الحجم بحيث يكون اللب أصفر اللون يحتوي على كمية من البذور القاسية التي تحتوي على فائدة كبيرة لهذا يعتبر من الفواكه الطبيعية المفيدة للصحة لاحتوائه الفيتامينات وبعض الأملاح فيعد من الفواكه التي تساعد على خفض ضغط الدم والسكر. فاكهة ''التين الهندي'' تعرف إقبال ورواجا كبيرين من قبل الزبائن الذين يشتهون هذه الفاكهة من خلال منظرها على الأرصفة على الرغم من توفر الأسواق على فواكه موسمية لا تقل لذة في المذاق عنها، لتعود كل سنة طاولات''بيع التين الهندي'' وتضرب موعدا لمحبيها بعدما طال بهم الانتظار طيلة السنة. وتجد هؤلاء الباعة يجوبون مختلف الطرقات ليستقر بهم المقام في زاوية معينة بعد رحلة التجول التي قضوها في الشوارع، ولا يتردد مستعملو الطريق الذي يقبع فيه أصحاب هذه الطاولات في التوقف للتلذذ ببعض الحبات المنعشة التي تسيل لعابهم خاصة مع ارتفاع درجات الحرارة. ولا يخلو ممر أو زقاق من بائع يعرض هذه الفاكهة على عربة خشبية، ممسكا سكينا صغيرا بيده، وبجانبه دلو صغير من الماء ينتظر قدوم الزبائن الذين يلتفون حوله لالتهام عدد من الحبات، وبما أن حبات التين الهندي تباع منفردة، فالبائع لا يحتاج إلى مكيال لكيلها إنما يقدر ثمن الكمية المباعة بعدد الحبات فعدته هي سكين صغير، وقفاز بلاستيكي أبيض اللون يحميه من الأشواك الدقيقة، وطبعا لا بد أن تكون للبائع براعة في تقشيرها بسرعة ودقة حتى يقدمها للزبائن سليمة من دون أن تتعرض ثمرة التين للتلف . تقطف من مزارع برج منايل خرجة (الحوار) الاستطلاعية التي قادتنا هذه المرة للتجول عبر شوارع وأزقة العاصمة للتقرب من هؤلاء الباعة الذين احترفوا هذه التجارة بحكم تأقلمهم بها واعتيادهم عليها إلى درجة أصبحت أشواكها لا تخيفهم، ولا يشكل لهم وخزها أي آلام يشعرون بها، وبغية الاطلاع على مصدرها والمناطق التي يقطف منها بعدما تعددت التآويل عن مصدرها، بل هناك من المواطنين الذين ساد عندهم الاعتقاد أنها تقطف من المقابر لتباع في الأسواق الجزائرية ليأكلها المواطنون، مرددين عبارة و''إن حدث ذلك من يكتشف أمرهم، وان حدث واكتشف يكون ذلك إلا بعد مرور مدة من الزمن قد تودي بحياة الناس''، ولتكذيب أو تصديق الأمر اقتربنا من عدد من هؤلاء الباعة الذين وجدناهم مبعثرين في شوارع العاصمة، مفضلين أماكن الظل يقفون خلف تلك الطاولات المعبأة بالسلعة تجدهم منهمكين في تقشير التين الهندي، إلا أن جلهم أكدوا لنا مصدر هذه الفاكهة التي تقطف من حقول مختصة في زرع التين الهندي أغلبها من ولاية بومرداس ومن برج منايل مكذبين بصفة قطعية الخبر الذين سمعناه من قبل من أفواه المواطنين الذين ادعوا صدقه. أحمد، محمد، عليلو، عمر، محرز، وآخرون ممن التقينا بهم لإثراء هذا الاستطلاع نفوا بصفة قطعية، بل أكدوا لنا أنهم يشترون في كل صباح صناديق من هذه الفاكهة حسب طلب الزبائن، وفي كل يوم يقطعون مسافة بومرداس أو برج منايل الجزائر ليصلوا إلى العاصمة في حدود الثامنة صباحا، وهو التوقيت الذي يبدأون فيه ممارسة تجارتهم، إلا أن ما يطبع كل هؤلاء التجار الذين التقينا بهم منهمكين في العمل ذلك الاختلاف في اللهجة التي تبتعد كثيرا عن اللهجة العاصمية، فمنهم من ينطق الكلمات العربية بشكل يتعسر عليه وهناك من يخلط بعض الكلمات القبائلية مع العربية، وهناك من يتكلم بلهجة عربية مغايرة وهذا ما يدل أنهم ليسوا من العاصمة وإنما قدموا من إحدى الولايات التي يشترون منها سلعتهم وهذا ما يثبت صدق كلامهم، وحتى لا نطيل عليهم الكلام ونثقل كاهلهم بالأسئلة اكتفينا بهذا القدر من الأجوبة واتجهنا بعدها إلى سوق ''ميسوني'' بغية إيجاد تجار آخرين يعرضون هذه الفاكهة ذات الأصول الاستوائية الرائعة وذلك على الرغم من توفر جملة من الفواكه المعروفة في هذا الفصل كالبطيخ والشمام (الفقوس) والإجاص والتفاح لنواصل طرح عليهم أسئلتنا ونوفي موضوعنا حقه، إلا أننا وجدنا ضالتنا عند ''السعيد'' الذي كان ناصبا طاولته الخشبية في شارع ''خليفة بوخالفة'' وهو يمارس هذه التجارة في كل موسم صيف ما أكسبه خبرة في الميدان وهو لم يتجاوز بعد 22 سنة من عمره ليوافينا بكل الأمور دون تحفظ وإنما بسلاسة لسان وفي حديث الأخذ والرد الذي دار بيننا وبين ''سعيد'' راح يطلعنا عن المنبع الذي يستقي منه أغلب التجار هذه الفاكهة وعلى العموم هي مزارع برج منايل بحكم تلك المسافة التي تفصلها عن العاصمة والتي لا تقدر إلا ببضعة كيلومترات وتحافظ فاكهة الصبار عن شكلها وطعمها، ليواصل ''سعيد'' حديثه بقول: '' نذهب إلى هذه المزارع ونشتري عددا من الصناديق التي تحتوي مقدارا معينا من التين الهندي وفي العموم يحتوي الصندوق الواحد على 18 أو 16 كيلوغرام حسب حجم حبة التين ونشتريه بثمن يقدر ب 500دج لنغادر تلك المزارع في الصباح الباكر في حدود الساعة السادسة إلا الربع أو الخامسة والنصف صباحا ونصل إلى العاصمة عند الساعة الثامنة والنصف صباحا بعدها نهيئ الطاولة التي هي عبارة عن عربة متنقلة نضع تحتها الصناديق ثم نبدأ بعرض سلعتنا بتفريغ الصناديق واحدا تلو الآخر كما نضع أمامنا دلوا من الماء لرشه بين الحين والآخر ونبيع الحبة الواحدة من التين الهندي بثمن 5دج مقشرة أو غير منزوعة الغلاف الشوكي حسب طلب الزبون، إلا أن هناك العديد من الزبائن الذين يشتهون هذه الفاكهة نظرا لعدم مكوثها مدة طويلة في السوق الجزائرية يقصدون الطاولة ويأكلون ما انفتحت عليه شهيتهم من الفاكهة وعند الإتمام من ذلك يدفعون الثمن ويغادرون، وما يميزني طريقة تعاملي مع الزبائن التي جعلتني أكسب شهرة في هذا الشارع، إذ أصبح لي زبائن أوفياء يقصدونني وعلى العموم متوسط بيعي يقدر ببيع خمسة صناديق في اليوم وفي أسوإ حالتي أبيع ثلاثة صناديق وما يمكن القول عن تجارتي هي تجارة مربحة وأكسبها بعرق الجبين ومال الحلال بدل التحايل على الناس لكسب مال الحرام''. وأثناء حديثنا مع ''سعيد'' كان عدد من المواطنين يتلذذون مذاق هذه الفاكهة غير مبالين بحضورنا ليعبروا فيما بعد، أي بعدما امتلأت بطونهم أن طعم فاكهة التين الهندي لذيذ جدا خاصة عندما توضع في الثلاجة، أما سعيد فهو تاجر ممتاز يلبي طلب زبائنه، ويحرص على صحتهم بحيث يقوم بتنظيف هذه الفاكهة بشكل جيد قبل أن يضعها في يد زبائنه الذين يكون قد سال لعابهم لالتهامها، الأمر الذين جعلهم يحبذون فكرة هؤلاء التجار في اتخاذهم من الشوارع مكانا للبيع ليكون بذلك قد وفروا على سكان العمارات والأحياء عناء التنقل إلى الأسواق، غادرنا المكان وتركنا ''سعيد'' يعمل ويكسب قوة يومه في جو تطبعه جدية العمل لإرضاء الزبائن. وما استخلصناه أن تجارة ''الهندي'' أصبحت تمثل مصدر رزق للعديد من الشباب البطال.