في مساء حزين، كئيب.. ناءت شمسُه وراء غمام كثيف، ، تجمع لفيف من الأفراد، بينهم: الطبيب والمحقّّق وأعوانه، ومصوّر، ورجال الإسعاف.. تجمع الكل في هذا المساء الذي زحف ليله بجيشه الداجي على أقطار السماء وعلى مسكن بسيطٍ زهيدٍ، تاهت ملامحه بين زحمة منازل مهترئة. تقع بأحد الأحياء الشعبية التي عتّقت بعصارة الزمن.. ومثل هذه الأحياء قد تقع بوسط المدينة وقد تجدها بعد حين في طرف منسي من ضواحي المدن المترهلة، التي كثيرا ما تضيق بأحيائها وأحيائها، بعد أن ينتهي العمران السمج من العبث بمزاجها وعناصرها وكل خطوطها وتفاصيلها.. تجمع هؤلاء الأفراد حول جثة هامدة، تبدو كأنها هوت في معين العدم في لحظةٍ "ما"، نجحت بامتياز في مباغتة أحلام صاحبها. وفصلته على حين غرة عمّا صمّمه شبابه الوثّاب، وعمّا رسمه العزم والحلم. كان المشهد مأساوي بكل المقاييس.. حيث تراكمت الحجارة بشكل فوضوي على الجثة، فبدا الموقف -حسب التأويل الذي يمكن يمليه الانطباع السريع- ينمُّ عن نيّةٍ مبيّتةٍ لوضع حدٍ لحياة آدمية.. كان المشهد في غاية الأسى.. فالحجارة التي كانت في الأساس مادة إبداع وخلق أضحت وسيلة وأدٍ وإرداءٍ لهذا المبدع!!؟ أو قل أداة تنكيل وإثخان لجراح ذاك الجسد اليافع، وتلك الروح الخلاقة..!!؟ ارتوت الحجارةُ بآلام المعاناة التي خلت، هذه المرة، من مقصد الإبداع، وفقدت معاني المكابدة والتشبث بالحياة والتعلق بنسماتها. فيا له من رحيل غريب.! * * * راح الجمع المشدوه يتأمل هذا المشهد الواجم.. ويُحاول فهم أسراره، وسبر أغواره.. كان يبدو على ملامحِ الطريحِ إبتسامٌ لطيف معبّر..مُزج بشرود ظاهر، وتخضّب بحياءٍ خفيف أراد بقصد أن يتدثّر بأسرار الموت. فلم تنجح آلة الموت هذه أن تطمس ما بقي من بريق مهيب. وكانت النتيجة: انتصار بسمة وديعة.. رغم كلِّ شيء..!! كان الانطباع السريع الذي يبعث به هذا المشهد المؤسف.. وكما يبدو من ملامح الطريح هو: ترقُّبٌ طارئ ،رغم الألم، لأمر بعيدٍ.. وإصرار عجيب للتطلع إلى أفق قصي.. أفق.. عزيز المنال على بعض العقول الصغيرة. وعصي على القلوب اللاهية أو البليدة. أفق.. لا يمكن أن تبلغ مداه إلا تلك الأرواح الشفافة الطليقة. * * * من جملة التساؤلات التي فرضت نفسها بعد أن اكتسحت المشهد هي: - من يقف وراء هذه النهاية ؟ - وما كنه هذا التطلع ؟ لعل أحد الحاضرين أدرك بعض الحقيقة التي تكتنف هذا اللغز الغريب حينما قال: - "كأننا برغبة جامحة إلى ما وراء الظواهر المُشاهدَة سحبت روحَ النحات إلى عالم تنكشف فيه الرؤى والأحلام.. وتفترش بلاطه الآمال والأماني..!!" - "لسنا ندري على أية حال..؟؟" أو قل: - لسنا ندري إلى حد الآن.. !!؟ * * * ولكن، تعال لنرجع إلى الوراء، لنتبيّن أحداث الفاجعة، ونتابع أحداث القصة منذ تشكّل خيوطها الأولى. - هيا.. لنستوحي قصة هذا الرحيل المهول كما ينطق بها هذا الصمت الحائر الذي خيّم على ورشة النحات في المسكن البسيط، بعد أن لفظ زائريه..! - بل تعال نستقرىء القصة كما تعرضها التماثيل الثكلى. فقد تنطق بالأسرار كما نطقت بالخيال والإبداع.. وقد تعبر عن سرِّ المعاناة و"البكاء"..!! - وكما تعرضها أيضا خربشات أو يوميات النحات، بعد أن صُبّ جسده المصنوع بيد المبدع الجليل في قالب الرمس القشيب.