منذ سقوط نظام زين العابدين بن علي في تونس ووسائل الإعلام العربية والغربية وحتى بعض وسائل الإعلام المحلية تتسابق على التنبؤ بانتقال العدوى إلى الدول المجاورة، وقد تحولت أخبار الاحتجاج عن طريق الانتحار حرقا إلى إشارة واضحة إلى إمكانية تكرار التجربة التونسية في بلدان عربية أخرى . الصحافة الفرنسية اتجهت مباشرة إلى طرح السؤال الذي تفرضه المرحلة حسب تصورها وهو على من سيأتي الدور بعد بن علي؟ وكان هذا عنوان الصفحة الأولى في جريدة ليبراسيون الفرنسية، طرحت لوموند نفس السؤال بصيغة مختلفة عندما تحدثت عن احتمالات انتقال العدوى، وذهبت وسائل إعلام عربية كثيرة إلى التبشير بعصر الجماهير الذي سيجرف الأنظمة قريبا، غير أن كل هذه الوسائل الإعلامية تناولت الأمر من وجهة نظر الجهات التي تقف وراءها ولم يختلف الأمر بين الإعلام الفرنسي والجزيرة وبعض القنوات الخاصة في البلاد العربية. النقطة التي يشترك فيها كل أولئك الذين يبشرون بتعميم "الثورة الشعبية" التي انطلقت من تونس هي أن لا أحد منهم كان يركز على مفاسد النظام التونسي التي كثرت بعد رحيل بن علي ولم تكن تذكر أبدا، فوسائل الإعلام الفرنسية التي انتقلت إلى تونس لتصور أملاك بن علي ولتنشر نماذج عن ممارساته القمعية كانت تعتبر تونس نموذجا للنجاح الاقتصادي في المنطقة وهي التي وصفها جاك شيراك لما كان رئيسا لفرنسا بأنها تكاد تكون معجزة اقتصادية، ووسائل الإعلام العربية التي اعتبرت دوما تونس بلد الاستقرار والحريات اكتشفت فجأة معاناة الشعب التونسي وبدت مذهولة أمام ما كانت تخفيه واجهة تونس الجميلة والمستقرة. حتى في الجزائر كانت تونس تمثل نموذجا للنجاح الاقتصادي في نظر وسائل الإعلام الخاصة، وكانت المقارنات شبه يومية بين الوضع القائم هناك وما هو موجود عندنا، وكانت الصحف الخاصة تنتقد الحكومة لأنها فشلت حتى في بلوغ مستوى الجيران الذين لا يملكون مواردنا وإمكاناتنا، والجيران هما تونس أولا والمغرب ثانيا، غير أن وسائل الإعلام هذه اكتشفت فجأة حجم الفساد الموجود في تونس، والدمار الذي خلفته عائلة بن علي وعائلة أصهاره من آل الطرابلسي في اقتصاد البلد وحجم ديونه الخارجية التي بلغت 18 مليار دولار. المعطيات الجديدة التي كشفتها انتفاضة الشعب التونسي التي أسقطت بن علي جعلت المقارنات السابقة تبدو وكأنها مغالطات قامت على تشويه الحقائق الاقتصادية، وقد أصبح مؤكدا الآن أن الوضع بين البلدين مختلف تماما، وأن سحب تداعيات الوضع في تونس على الجزائر يعتبر جزء من المناورات السياسية التي تقوم بها بعض الأحزاب من أجل تجنيد الشارع الذي لم يعد يبدي اهتماما كبيرا بالسياسة بعد أن فقد الثقة في الأحزاب، ويمكن قراءة موقف الأرسيدي القائم على استغلال الاحتجاجات الأخيرة سياسيا وعلى توظيف ما يجري في تونس دليلا على الإصرار على اقتناص هذه الفرصة التي يعتقد أكثر من طرف أنها قد لا تعود أبدا. انفجرت الاحتجاجات في الجزائر لأسباب اجتماعية واضحة، وقد توقفت تلك الاحتجاجات بعد اتخاذ ما لزم من إجراءات لتصحيح الأسعار، لكن الأهم في الأمر هو أن تلك الاحتجاجات لم تشهد أي تجاوزات من جانب قوات الأمن التي تحملت بكل شجاعة غضب الشارع ودفعت الثمن غاليا، وكان هذا التصرف المرن من جانب السلطات العمومية هو الذي منع تحول الاحتجاج الاجتماعي إلى ثورة ضد النظام، في حين أن ما جرى في تونس كان العكس من ذلك تماما، لقد أشارت الروايات التي نشرتها وسائل الإعلام التونسية والعالمية إلى أن محمد البوعزيزي الذي أضرم الناس في جسده في سيدي بوزيد لم يفعل ذلك احتجاجا على البطالة بل تعبيرا عن غضبه من الإهانة التي تعرض لها على يد شرطية تونسية صفعته بعد أن تمت مصادرة عربة الخضار التي يقتات منها، وأكثر من هذا كان رد فعل الأمن التونسي على الأحداث هو استعمال القمع على أوسع نطاق واللجوء إلى الرصاص الحي لإخماد الانتفاضة وكان ذلك من أسباب إصرار التونسيين فيما بعد على إسقاط النظام الذي ظهر وجهه الاستبدادي بعد سقوطه وليس قبل ذلك. الاهتمام بأخبار اللجوء إلى الانتحار حرقا في الجزائر ومصر وموريتانيا المقصود منه هو التحريض على استنساخ التجربة التونسية وهو أمر يبدو في غاية السطحية، فتونس لم تشهد أي تغيير سياسي حقيقي منذ استقلالها قبل خمسة وخمسين عاما، والانفتاح الاقتصادي الذي كان سياسة الرئيس الراحل لحبيب بورقيبة لم يصاحبه في أي مرحلة انفتاح سياسي، وقد كان بن علي استمرارا للبروقيبية بطريقة أو بأخرى وسار على نهج سلفه في غلق المجال السياسي والبقاء في السلطة مدى الحياة مع بعض الإبداع في القمع والفساد والعلاقات المشبوهة مع الخارج، ومن هنا كانت الثورة في تونس نتيجة حتمية لحالة من الركود استمرت عقودا طويلة، في حين أن الجزائر عرفت تغيرات جذرية خلال عقود الاستقلال وتم الانتقال من نظام سياسي بحزب واحد إلى نظام تعددي، وكانت هناك تجربة مريرة في عقد التسعينيات كادت تأتي على أركان الدولة وتركت آثارا عميقة في وعي الجزائريين، ومن هنا تختلف النظرة إلى التغيير بين المجتمعين، وتختلف الأولويات أيضا.