شهد المجتمع الجزائري مؤخرا تناميا خطيرا للجريمة بمختلف أنوعها بشكل مبالغ فيه، خاصة في أوساط الشباب الذين أحيل الكثير منهم على البطالة الإجبارية، وبدل البحث عن ما يوفر لقمة العيش الكريم بالاستثمار في مختلف البرامج، التي تحاول من خلالها السلطات المعنية امتصاص البطالة، التي أضحت إشكالا عالميا تتخبط فيه كل دول المعمورة تقريبا، خاصة وأن الكثير من الأزمات الاقتصادية عصفت بالعالم في العديد من المرات، آخرها لا تزال تلقى بظلالها على العالم حتى يومنا هذا، أصبح الكثير من الشباب يفضلون التورط في جرائم مختلفة وهو ما تؤكده أرقام مصالح الأمن وأروقة المحاكم وحتى السجون، التي تبقى عقابا لكل من خالف القانون، لكن ما تقف له مشدوها خلال السنوات الأخيرة، أن السجن لم يعد العقاب الذي يخافه الجميع ويرتعدون لمجرد سماع اسمه، ويزجر الكثير من المجرمين عن أفعالهم الإجرامية التي تسول لهم أنفسهم ارتكابها، بل أصبح الوجهة المفضلة للكثيرين وأصبح عدد لا يستهان به من المجرمين، يتعمدون خرق القانون وارتكاب المخالفات من جنح وحتى جنايات، للعودة مجددا إلى الزنزانات، ولم يعر الكثير منهم أي اهتمام لصحيفة سوابقه العدلية، التي أصبحت لا تتسع لسرد جرائمهم ونوعية الأحكام والعقوبات الصادرة في حقهم، لكن السؤال الذي يطرح نفسه وبإلحاح، لماذا تغيرت المفاهيم و«أصبح السجن محببا لا يدعوا للنفور عند البعض»..؟ إذا عُرف السبب بطُل العجب لا أحد كان يتصور قبل اليوم أن يصبح هذا هو حال شبابنا الذين أصبح الكثير منهم منعدم الضمير وراح يبحث عن أسهل للحلول للعيش، حتى وإن أصبح وصمة عار على المجتمع ولوث سمعته وسمعة أسرته وألحق حتى الأذى بغيره..شباب استهواهم الجرم وأصبحوا لا يكترثون له بل أصبحوا يتعمدون ارتكاب الجرائم، ليزج بهم في السجن، فهذا الأخير كما تؤكد الكثير من الوقائع، التي سنأتي على سردها نقلا عن أعوان شرطة، كانوا شهود عيان على وقائع متعددة لم يعد مركزا لإعادة التربية والتأهيل، والعمل على إدماجهم مجددا في المجتمع، خاصة وأن البشر يخطئ والعقوبة من شأنها أن تردعه وتقوّم سلوكه، إذا ما توفرت النية الحسنة في التوبة والإقلاع عن ما يتعارض مع القانون أو الأخلاق، لكن ما يحدث على العكس من ذلك تماما، فالكثير ممن كان يخاف دخول السجن، أصبح يفعل ما باستطاعته حتى يعود إليه من جديد، فبدل أن يردعه السجن حوله إلى هاوي إجرام، ليصبح السجن فجأة من أهم دواعي الإجرام، لسبب بسيط جدا يتعلق بظروف الحياة، التي يوفرها السجن للمساحين..ظروف أصبح يتعذر على الكثيرين عيشها خارجه، فهو على الأقل يوفر أربعة جدران تقيهم حر الصيف وقر الشتاء، لاسيما وأن الكثيرين دون مأوى، يفترشون الأرض ويلتحفون السماء، لقمة عيشهم يكسبونها بالنصب والاحتيال والسرقة وامتهان كل أشكال الجريمة، على عكس السجن تماما، فاللقمة تأتي وحدها والأكثر أن كل الوجبات كاملة ومتنوعة، يواصلون الدراسة ويجتازون حتى الامتحانات المصيرية، والكثير منهم نال شهادة التعليم المتوسط والبكالوريا، مسموح لهم بممارسة مختلف هواياتهم من رياضة ومطالعة، إضافة إلى حفظ كتاب الله والإلمام بمختلف أحكام تجويده، زيادة على المشاركة في مختلف المسابقات الدينية، حتى مسابقة «فرسان القران الكريم» التي تقام كل شهر رمضان الكريم والأكثر يتعلمون حرفة يدوية تسهل عليهم الاندماج في المجتمع وهو ما قد يتعذر على الكثيرين، خاصة إن تجاوزوا السن القانونية المسموح بها للتسجيل في مراكز التكوين والتعليم المهنيين..مساجين بمجرد انقضاء مدة العقوبة المحكوم عليهم بها وخروجهم من السجن، الذي يكونون قد قضوا فيه سنوات عديدة، لا يلبثون طويلا للعودة إلى جدرانه مجددا، حتى وإن كانت باردة وتفتقر للحنان، خالية من الأهل والأصحاب والخلان، في مدة قد لا تتجاوز الأسبوع، بسبب جرم جديد ارتكبوه فعلا وتمكن رجال الأمن من إلقاء القبض عليهم أو حتى بسبب جرم تعمدوا ارتكابه حتى يسجنوا. شعار بعضهم..«الحبس للرجال» العديد من الأشخاص اعتادوا الإجرام والاعتداء على الغير، فكان جزاؤهم من جنس العمل، السجن من أجل حماية المجتمع من شرورهم، التي لم يعد يسلم منها أحد، لكن المؤسف أن السجن ومن كثرة ما سرى الإجرام بدمائهم، أصبح كالبيت يعيشون به، أكثر مما يعيشون خارجه، خاصة المحكوم عليهم في قضايا القتل والمخدرات والسلاح، والأكثر أنه لا تفصل مدة زمنية طويلة بين حكم وآخر وغالبا ما تكون هذه الأيام الفاصلة بين الخروج من السجن ومعاودة الرجوع إليه، أيام يقضيها في التحضير لجريمته الجديدة والتخطيط لها، لضمان النجاح وعدم الخيبة، فالاعتداءات بمختلف أشكالها، من سرقة وضرب واعتداء على الأصول والمحارم، أصبحت تستهويهم، والاختلاس والاتجار في الممنوع وحتى القتل أصبح يسكن دمائهم ويسيطر على عقولهم المجنونة، التي فقدت نور البصيرة واستفردت بسبل تنفيذ جرائمهم، التي يتوقد ذهنهم بشرورها، والأكثر أن بعضهم يتمادى في اللامبالاة، ليتجاوز كل الحدود، فتجده لا يطيق صبرا على إيذاء غيره، فقبل حتى أن يخرج من السجن ينطلق في التفكير، لفعل ما تمليه عليه نفسه الأمّارة بالسوء وهواه المجنون، لا يضيق ذرعا بحبسه بين جدران السجن وداخل زنازينه، فحتى حريته المسلوبة لم تعد تعني له شيئا إطلاقا، بينما نجد آخرين بالكاد وصلوا لبيوتهم وقرعوا أبوابها حتى وجدوا أبواب السجن تفتح لهم مجددا هذا هو حال «ك.ك»، الذي خرج من سجن «سركاجي» بالعاصمة، ليعود إليه مجددا قبل أن يدخل حتى باب منزله، حيث استقبله أسفل العمارة التي يسكنها بعض أصدقاء السوء بسيجارة من «الكيف» وطلبوا منه تدخينها، قبل أن يدخل المنزل كعربون محبة وتعبير منهم عن سعادتهم الغامرة باسترداد حريته، ليعاودوا نشاط المتاجرة بالمخدرات التي عرفت في غيابه ركودا وهو كبيرهم الذي ما فتئ يعلمهم المخدرات، لكن لسوء حظه، أن دورية للشرطة كانت بالجوار وعثرت على السيجارة بحوزته، لتعيده إلى الزنزانة نفسها، حتى قبل أن يصعد إلى المنزل ويطمئن على والديه. وأخطر ما في الأمر أن بعضهم لا يتوانى في الاعتداء حتى على القضاة ورؤساء الجلسات أو وكلاء الجمهورية، فبعضهم أصبح لا يطيق البقاء حرا ويسعى إلى المبيت بين جدران السجن، هذا ما أكده لنا «كمال» والذي قضى فترة ستة أشهر في السجن، حيث يؤكد «لقد اندهشت أثناء قضائي لفترة السجن بأن هناك شباب يقولون لي عند خروجهم احتفظوا لنا بأماكننا فسوف نعود غدا»"، وأضاف «وحقيقة يصدقون في أقوالهم وينفذوا وعودهم ويعودون بعد أيام قليلة فقط مع سبق الإصرار والترصد». فهؤلاء شباب لا يستطيعون العيش بين الناس العاديين ولو عاشوا بين الناس لاقترفوا أبشع الجرائم وأنكرها، فالسجن أصبح منزلهم المفضل ومأواهم الاختياري برغم ما قد يسببه لهم من الآلام ولأسرهم وأمهاتهم ومحبيهم، الذين لا يتوانون في دفع «القفة» لهم وجلبها بما لا يقل عن 5 آلاف دينار من ألبسة ومأكولات وضروريات، مهما كان وضعهم الاجتماعي فللمسجون الأولوية، وفي حين أصبح البعض ممن أضحت لا تستهويهم سوى عادات الإجرام وطقوسه ويرون في فترات العفو الرئاسي فرصة ثمينة للخروج من السجن، وبلغ الأمر بالبعض درجة أن يخططوا لجرائمهم قبل فترات العفو طمعا في الحصول عليه. وشعار آخرين..«السجن فندق خمس نجوم» إن كان هؤلاء يسري الإجرام في دمائهم يدخلون السجن لجرم اقترفوه وعقوبة على ما ألحقوه من ضرر بالمجتمع وأكثرهم من أصحاب السوابق فإن الكثير منهم اليوم، خاصة مع ما يعانونه من ظروف اقتصادية صعبة أصبحوا يفضلون السجن على معاناة الشارع أو حتى هروبا من المشاكل الأسرية التي تنجم غالبا عن غياب الأم وتملك واستبداد زوجة الأب، التي لا تتحمل وجود الأبناء غير المرغوب فيهم، الذين يقاسمونها البيت على مضض..حكايات عجيبة يسردها بعض أعوان الأمن عن شباب يرتكب الجريمة ويأتون حاملين ما يدينهم حتى يسجنوا، وكما يؤكد «ع.ل» عون أمن، فإنه فوجئ هو وزملاؤه في إحدى المرات، بأحد الشباب المتهور وهو يحمل قطعة من الكيف ويقول «اسجنوني فأنا أتعاطى وأتاجر بالمخدرات»، لم نصدق في البداية وظنناها مزحة ثقيلة من هذا الشاب الذي تجرأ وأزعج عناصر الأمن، لكن اتضح أن المزحة حقيقة، وأثناء التحقيق أكد أنه سئم من عيشة الفقر التي يعيشها مع والديه وأنه لم يتناول الطعام منذ يومين، حتى السرقة لم يفلح فيها مع العلم أن هذا الشاب مسبوق قضائيا، في عدة مرات بتهمة السرقة، فبعد أن ذاق من «خيرات» السجن وراحته لم يعد يطيق صبرا، فهو بالنسبة له فندق مرصع بخمسة نجوم، حكاية أخرى تشبه إلى حد ما حكاية هذا الشاب، لكن يختلف فقط الجرم، الذي أراد الدخول به إلى السجن، إذ اختار سرقة سيدة مسنة، وأحضر محفظة نقودها إلى قسم الشرطة وهو في حالة سكر متقدمة جدا ويصرخ «لقد سرقت أسجنوني، اسجنوني، اسجنوني...»، إذ يعاني هذا الأخير من مشاكل عائلية، خاصة وأن زوجة أبيه أصبحت تكيل له التهم، لطرده من البيت ووصلت بها الوقاحة، حسب ما أدلى به في التحقيق إلى حد اتهامه بالتحرش بها ومحاولة الاعتداء عليها، خاصة وأنها لا تكبره في السن كثيرا ورغم أن الكثير من أهله طلبوا منه العيش معهم، إلا أنه رفض، فكما يقول «لماذا اتعب الناس معي والسجن موجود». ثقافة جديدة اكتسبها الشباب الذي تحول السجن عند الكثير منهم إلى فندق يؤمونه بين اللحظة والأخرى، خاصة وأنه يوفر لهم خدمات بالجملة فباستثناء الوحدة التي يحس بها البعض، خاصة من ليس لهم باع طويل بالمكان فكل شيء ممتاز، أكل وشرب، سكن، فراش، غطاء، وحتى الكماليات موجودة، فالتلفزيون يؤنس وحدة الكثيرين..ثقافة خطيرة قد تشجع على الإجرام وعلى تزايد عدد المجرمين، خاصة وأن الظروف الاقتصادية للشباب متدهورة وبإمكان المجرمين المحترفين استغلالها للزج بشباب ذنبه الوحيد في هذه الحياة أنه فقير أو يعاني من مشاكل أسرية.