( تابع..) كان الرجل المغرور يحكي ويزين الوصف.. ويرمي ببعض من كلماته المغرية في مسمعي ظانا أنها تقع في قلبي موضع الاستحسان والقبول ..ولكن قلبي تكلم في داخلي قائلا: -لست أنت يا"سيغورني"من تغتر بالقصور..أولسنا نصير بعدها إلى القبور ..ولست من تهيم بالنوادي الماجنة والفضيلة في نفسك كامنة ..ولست أنت من تستهويه الحدائق والجنان حين يفقد أهلها الرأفة و الحنان .. هنا تدافعت الكلمات على شفتي المطليتين بريق ظل لساني يدخره خيفة التشقق وقد كنت أمقت أحمر الشفاه.ونظرت إلى أبي الذي راح ينتظر ردي على هذا الرحالة المغرور وقد علت الكآبة تقاسيم وجهي ..وخيبني المتكلم ..فأشار أبي إليه بالجلوس ...ونهض الثاني وقد حمحم كحصان عربي أصيل..واستأذن واسترسل في الكلام:ّطوال عشرين عاما من الحلّ والترحال..لم تكن لتخطف أبصاري القصور والجنان في كل الأصقاع التي نزلت بها حينا وغادرتها في رحلة البحث عن راحة النفس والبال إلى أن فتحت السماء لي أبواب غايتي ..وأدركت ما كنت أصبو إليه وأيقنت أن تحقيق الأماني ليس بالأمر المحال..دخلتها فجرا وخيوط الشمس تحرسني ..ونسمات الصبح كانت لي دليلا..كانت بلدة طيبة .وقومها في نقاء سرائرهم أصفى من الماء الزلال .وحاكمهم عادل بينهم و الرعية من عدله صارت حاكمة.. والحاكم صار من العمال ..حاكم لا يظلم عنده احد للرجل فيهم قيمة عالية ولكن للمرأة شأن عظيم قد يفوق شأن الرجل . وخير دليل على ذلك "يوم الفصل" .. قاطعته حينها وقد اندهشت :" وما يوم الفصل" . -ابتسم وقال وقد ظن أنه أحاطني بهالة من أقوال ستوقعني في شباكه" : يوم الفصل يا أميرتي هو يوم كانت فيه عبر لكل الرجال إذ حكم الملك على رجل من رعيته بأشد العذاب لأنه رفض الزواج من حاشيته واقترن بصبية حقيرة من عامة الناس فقط لأنه كما زعم أنها ذات خلق ودين -وبم حكم عليه يا رجل ؟ -حكم عليه بأن يظل يدفع صخرة عظيمة من الصخور الثقال..من سفح الجبل الشامخ إلى قمته..وليس بمدرك الهدف ..ولو بعد ألف عام..وأنا لا أرى لك مدينة تكرمين فيها ..ويعلو لك بها شأن أعظم من شان كل الرجال إلا ما وصفت لك..لاسيما إن كنت زوجة لرجل مغوار مثلي لا يشق له غبار واسمه دوما يأتي في صدارة قائمة الأبطال..توقفت عن الكلام و الوصف..وبكيت في داخلي على المسكين الذي لن يدرك قمة الجبل ..ولكن عزائي انه يدفع ثمن رجولته الحقة ووفائه لحبه الذي عز في زماننا هذا أن يسكن قلوب الكثير من الرجال . و أشار أبي إلى الثالث بالقيام ..فقام وقدم التحية ثم استدار نحوي و قال : - "بلغني أيتها الأميرة الحزينة يوما ..أن هناك مدينة أبعد من الصين ..وأقرب في جمالها وعظمها من "إرم ذات العماد"..كان بها قوم أقوى من كل العباد ..ينحتون من الجبال بيوتا لهم .. وقامت هذه المدينة على أنقاض مدينة أخرى كان يسكنها شعب شعاره الفسق و الفجور ..إلى أن حلت بهم اللعنة ..وهزمهم الطوفان..وأحاطهم الموج من كل جانب ..فاستغاثوا ولم يغاثوا وأمست ديارهم كالقبور .. ولم ينج منهم إلا رجلا صالحا و بعض من عشيرته الذين اجتنبوا المناكر و الشرور فأقاموا لأنفسهم مساكن من هدي ونور و جاء من بعدهم قوم أضاعوا الدرب واتبعوا الشهوات وصاروا ضعافا .. ولست أرى لهم من ملك عليهم إلا امرأة حسناء مثلك يذيبهم جمالك..فيخضعون بقولك..وتسودين ويتعزز سلطانك بحكيم محنك مثلي ونتعاون معا على ظروف الحياة ونعيش سعداء معززين مكرمين والرأي ما تراه الأميرة.. وأدركه الغرور القبيح فسكت عن الكلام الذي كان يظن بأنه فصيح..وانكسرت للمرة الثانية و ارتويت خيبة وكاد اليأس يتسلل إلى قلبي لولا أن أشار أبي إلى المتسابق الرابع ..فقدم التحية واستدار نحوي وتحدث مع نفسه قليلا ثم قال "كان يا ما كان في قديم الزمان ..وسالف العصر والأوان..ناسك طلّق الدنيا بالثلاث..واعتكف في غار موحش كان في جبل بعيد عن المناطق المأهولة بالسكان ..وقضى عقودا من الزمن يرتل ما كان مدونا في كتاب لا يفارقه إلا عندما يذهب إلى نهر قريب ليغتسل مرة في الأسبوع..كان يا أميرتي المعظمة شديد بياض الشعر شديد بياض الثياب صامتا معظم الأوقات ناظرا إلى الشفق قارئا في احمراره ما لم تكتبه أقلام الرهبان والعارفين فر بسره من مدينة ترعرع فيها.. وله بها أهل وأحباب ذات ليلة عندما قضى يومه كله بإحدى منازلها..وأدرك السر الذي..حمله على الرحيل عنها .. والاعتكاف والعزلة بهذا المكان الموحش المهجور.. وذات صباح مشرق يا أميرتي وبينما كان يستعد للخروج من الغار والاستقرار قرب الصخرة التي ألفته..ذعر لهول ما رأى من جنود كثيرين يحيطون به من كل جانب.. وسيوف لماعة مشهورة في وجهه ..فقرأ بقلبه بعض الأذكار ..وكتابه في يده ..حين تكلم قائد الجنود المدجج بالسلاح البتار بزي مهيب فقال : أيها الناسك ..أيها الرجل اللعين..ما أتيناك حبا فيك وتعظيما لإدعاءاتك ورهبانيتك..فلست منها في شيء ..إنما جئناك بأمر من الملك المفدى . كي تطلعنا على السر العجيب الذي لا يعرفه أحد غيرك .. يتبع