ترددت كثيرا قبل اتصالي بالمجاهد والشاعر والملحن مصطفى كمال التومي، رغم رغبتي الجامحة في ملاقاته، ولم يكن ترددي إلا لمعرفتي بأنه متعب، وأن حالته الصحية ليست على ما يرام، ولكني ومع مرور الوقت لم أستطع كبح تلك الرغبة الدفينة التي كانت تتزايد شيئا فشيئا، لملاقاته، ونفض الغبار ولو شيئا ما، عن تلك الشخصية التي أغدقت بعطاءاتها على الأجيال المتعاقبة، وسقتها من سيل لغتها الراقية والمهذبة، إلا أن النسيان طالها. اتصلت ببيت عمي مصطفى بغية أخذ موعد معه، فردت علي زوجته وأبلغتني بأنه متعب ونائم، وطلبت مني معاودة الاتصال به لاحقا، وهو ما كان، ولكنني لم أستطع سماع نبرات ذلك الرجل الذي جاد على أبناء جلدته بروائعه، فتركت رقم هاتفي أملا في اتصاله بي عندما يكون أفضل حالا. بمقهى ''طونطونفيل''.. كان طلب الرائعة الشهيرة غمرتني سعادة عارمة، لما اتصل بي مصطفى كمال التومي، وطلب مني أن أحدد موعدا للقاء، فلم أتردد في أن يكون تلك الأمسية، فوافق على الأمر. كانت الساعة تشير إلى تمام الثالثة زوالا، عندما وصلنا بيته، المتواد بديدوش مراد، بالجزائر العاصمة، طرقنا الباب، فكانت زوجته الطبيبة بانتظارنا.. استقبلتنا بثغرها الباسم، وخصتنا بحفاوة الترحاب.. قادتنا إلى غرفة الضيوف، فاخترنا مكانا مريحا على تلك الأريكة الجلدية بنية اللون، وجلنا ببصرنا في أرجاء المكان، فشدتنا تلك اللمسات الفنية المتناثرة هنا وهناك.. وإذا بعمي مصطفى يطل علينا. أطل علينا الرجل الذي قطعنا عليه قيلولته، بمنامته حمراء اللون، شاحب الوجه، وعلامات الإرهاق والتعب بادية على وجهه، رغم أنه حاول مداراتها بتلك الابتسامات الرقيقة، أحسست حينها بالذنب بعض الشيء، وقلت في قرارة نفسي ما كان علي إزعاجه، وأوشكت على الاعتذار منه ونسيان أمر الزيارة، ولكن فضولي في الحديث إليه كان يغالبني، ورغبتي في عيش لحظات مع صاحب رائعة ''سبحان الله يا لطيف'' كانت أقوى مني. سألنا عن أحواله، فرد بأنه يحمد الله على كل شيء، وأنه متعب شيئا ما، فأراد أن يكون لقاؤنا في ذلك اليوم تمهيديا، على أن نلتقي في اليوم الموالي. عدنا في اليوم الموالي، وفي نفس التوقيت عند عمي مصطفى، فوجدناه أحسن حالا من اليوم السابق، بل ووجدناه متحمسا للرد على ما نحمله بجعبتنا من أسئلة. آثرنا أن نستهل حديثنا مع مضيفنا من رائعته الشهيرة ''سبحان الله يا لطيف''، والسفر وإياه في عوالمها، وهي التي ظلت خالدة على مر السنين، فرغم رحيل مؤديها عميد أغنية الشعبي الحاج امحمد العنقى، إلا أنها بقيت تردد على ألسنة الكبار والصغار.. بل وتضرب من كلماتها الأمثلة في الأحاديث. مذ وقعت كلماتها لأول مرة بين يدي، أدركت أن كاتبها شاعر له نظرة حادة وثاقبة لعمق الحياة، وأنه غاص في أغوارها، وكتب ما عايشه، بل وعاش ليكتبها، واليوم وأنا ألتقي بمنزله، زاد يقيني بأنه إنسان عاشق للفن والجمال، ومتيم بجودة الأشياء، لكن الجمال عنده شيء متأجج وحزين في نفس الوقت، ورغم ذلك فقد صنع التفرد في كتابته لرائعته. استجمع عمي مصطفى كمال كلماته، وراح يقلب صفحات الماضي، باحثا عبر ممرات ذاكرته المتقاطعة، عن تلك اللحظات التي شاء القدر أن تولد فيها رائعته، فاسترسل ساردا الحكاية ''في أحد الأيام، وبينما كنت أجلس رفقة الحاج العنقى بمقهى ''طونطونفيل'' بالسكوار في العاصمة، قرب المسرح الوطني الجزائري محي الدين بشطارزي، طلب مني هذا الأخير أن أكتب له شيئا يستطيع غناءه، يتلاءم وخامته الصوتية، ويليق بمقام البلد، فكان ردي عليه بقولي إن شاء الله. ومرة من المرات، أتى عندي عبد الرحمن عزيز رحمه الله، واقترح علي أن نكتب سويا جملة من الأغاني، يعكف هو على تلحينها، ونقدمها للشباب، فوافقته. وذات مرة بينما كان يلحن إحدى الأغاني، مرت بذهني جملة ''سبحان الله يا لطيف أنت اللي تعلم''، فتخمرت الفكرة بذهني..''. ''سبحان الله يا لطيف'' صنعت شهرة العنقى سكت عمي مصطفي، وأخذ لنفسه وقتا مستقطعا من الزمن، وكأني به يحاول عيش تلك اللحظات من جديد.. ورغم آثار التعب التي كانت بادية على ما تبقى من وجهه، بعد أن احتلت لحيته البيضاء أكبر جزء منه، إلا أنه جاهد نفسه، وانبعثت ابتسامة رقيقة من بين شفتيه، اعتقدت لوهلة أنه رأى ذلك المشهد الذي عاشه منذ أكثر من 40 سنة، شاخصا أمامه من جديد. يقول التومي ''تخمرت فكرة الأغنية في ذهني، وأضحت هاجسا قويا يود الخروج من ذهني ليعلن الوجود، لكن الكلمات ظلت تحوم دون أن تخرج بصفة معلنة''.. نظر إلي عمي مصطفى بضع ثواني، وكأنه كان يريدني أن أغوص داخل مخيلته، للسفر عبر الزمن والعودة لتلك اللحظات، ثم أردف ''أحسست وقتذاك بأنني في غيبوبة.. انطلقت روحي مودعة جسدي، وهامت بعيدا مع كلمات ''سبحان الله يا لطيف أنت اللي تعلم × كاين شي ناس من استحاهم يقولوا خاف× حاسبين كل شي خطيف × غير أجي وازدم × واللي يبقى مع التوالَ يقولوا زحاف''، التي تحمل انتقادا دقيقا وليس لاذعا، حول ما كان سائدا في المجتمع الجزائري حينها، ووصفا لما كنت أعيشه رفقة الشعب. أراد مصطفى كمال أن يشرح لنا رائعته، وينقل لنا الأسباب والدوافع التي جعلته يكتب كل بيت منها، فكان التوقف عند قوله ''كاين اللي يجيك ضيف × بالقش مرزم × في يوم البرد والشتاء والريح الزفزاف× فاتت الأمطار والخريف × ما زال مرسم × يرجع هو مول دارك وأنت جحراف''. وعن هذه الأبيات يقول ''هي قصة صديق لي كنا مع بعضنا في الجيش، بعد الاستقلال كان يملك بيتا بالمرادية، وفي أحد الأيام وعندما كان مسافرا إلى الأردن في مهمة، طلب منه صديقه الذي كان على أبواب الزفاف، أن يسلفه بيته، فوافق الرجل، وعندما عاد من مهمته تلك، وجد نفسه في العراء، ما اضطره للإقامة في الفندق، بعد أن أضحى البيت ملكا لصديقه الذي خانه، وحول ملكيته باسمه''. رغم حب مضيفنا الكبير للحاج الراحل امحمد العنقى، إلا أن حادثة وقعت، مازالت تحز في نفسه كثيرا، ومن جانبين اثنين، أولهما أن الحاج حاول تحريف إحدى الكلمات التي جاءت في الأبيات التي قدمها له، ما أدى إلى تغيير المعنى، والثاني كان ماديا. فعمي مصطفى يقول في أبياته ''خبزي مصنوع من سميد × ماهوش مسلف × داري ماهيش تالفة'' والحاج العنقى أداها بقوله ''خبزي صافي من سميد''، فتغيير الكلمة - حسب مضيفنا- أخل بالمعنى المقصود، والذي استقاه هذا الأخير من مقوله سيدي عبد الرحمن المجدوب، والتي يقول فيها ''أعطاتها الكف والدف، ردتها مثل الرغيفة، ما دريت دقيقها مسلف، ولاّ المجدوب تسالو حسيفة''، وهو ما أزعج عمي مصطفى كثيرا. ووصف محدثنا الحاج العنقى بالعبقري، ''لا أحد يمكنه تجاوزه من حيث خاماته الصوتية التي يمتلكها، ولا حتى في الغناء، فنبراته متميزة، وبفضل ''سبحان الله يا لطيف''، سطع نجمه عاليا وأضاء من جديد، لأن المستمعين كانوا قد ملوا من إعادة الأغاني وتكرارها، وكانوا يريدون الجديد.. شيئا مغايرا تماما عما سبق تقديمه. بصراحة، وبكل تواضع، تلك الثقافة الواسعة التي أتمتع بها، هي ما مكنني من كتابة ''سبحان الله يا لطيف''، فأنا متعدد اللغات العربية، الفرنسية ، الإنجليزية، الأمازيغية، الإسبانية، وإلى غير ذلك من اللغات، وكنت متشبعا بشعر شعراء الغرب، ومن بينهم شارل بودلير، فأسلوبهم الشعري متميز، ومختلف تمام الاختلاف عن شعرنا الملحون، فآثرت استعمال أسلوب مغاير، وهو تلخيص عدة أشياء بكلمة واحدة، وهو ما اغترفته من جمال الفن باللغات الإفرنجية. فضلت طرح المشاكل على المستمع، بدل جعل روحه تهيم حالمة بعيدة عن واقعه، وجعله يفكر. كما أن ''سبحان الله يا لطيف'' ليست ملكا لي وحدي، بل هي ملك لجميع الشعب، تحمل بين ثناياها علامة الخلد، ولما ألفتها أدركت أنني دخلت التاريخ من أوسع أبوابه، وأني حققت مجدا كبيرا، ووجب اليوم على الشباب إدراك من كتب كلماتها ومن أداها''. وقد كسب العنقى شهرة كبيرة من وراء هذه الرائعة، التي حرّف إحدى كلماتها، كما تقاضى عنها مبلغا مقدرا ب15 مليون سنتيم في ذلك الوقت، بعد تسجيله الأغنية عند بوفرة صاحب أستوديو عالم الموسيقى''، ولم أقبض أنا شيئا! ورغم ذلك سامحته، ولكنني لم أقدم له شيئا بعدها، رغم أنني كنت قد حضرت له ''سبحان الله يا لطيف''2، و''سبحان الله يا لطيف''3 اللتين لم تريا النور قط، إلى يومنا هذا. وقص لنا مضيفنا ما حدث له في إحدى المرات مع الراحل الحاج الهاشمي فروابي، وفي حديثه عن ذلك، أدركنا أن الرجل حازم جدا، ومنظم إلى أبعد الحدود في حياته، قال عمي مصطفى ''أتذكر أن فروابي، لما استمع لمقطع من ''سبحان الله يا لطيف''2، طلب مني أن أكتب له شيئا يليق بنبراته، فاتفقنا على موعد هو من حدده، وكان يوم ثلاثاء على الساعة السابعة مساء، وانتظرته إلى غاية السابعة والنصف ولكنه لم يأت، ولم يعتذر إطلاقا على ذلك، وأنا الذي لا أنتظر عادة أيا كان أكثر من 10 دقائق، حينها قررت عدم التعامل معه. نحن المتصوفون لدينا سلّم للقيم نتعامل به، فمن تماثل له مرحبا به، ومن حاد عنه فلا مكان له بيننا، فهو لم يشعر حتى بالذنب''. بن جديد كان أول من مكن الجزائر من التقدم ولو بصفة همجية رغم تعبه، إلا أن التومي متابع لكل ما يحدث في العالم العربي، ويجد أن ما يحدث في تونس ومصر اليوم من ثورة على النظام، هو نفس مصير كل الدول العربية دون استثناء، يقول ''كل الدول العربية لها نفس المصير، لتواجد شبه دكتاتوريات في كل منها.. موطن الداء يكمن في تواجد أشخاص جاهدوا من أجل الحصول على السلطة لا غير، واستعمالها لفائدتهم الشخصية، وليس لفائدة الشعب المحكوم، فانقسمت السلطة ما بين الجنرالات والشخصيات، وتقاسموا حتى الأدوار. أتعلمين، مما لا يختلف عليه اثنان، هو عدم وجود علَم ولا وطن ولا رائحة للنقود، ولكن حب الحكام الذي استولوا على السلطة للنقود، جعلهم دون أوطان ودون علَم، فأضحت الأوطان تبدو من غير علَم، وهو شأن كل الدول العربية، بما فيها الجزائر شيئا ما''. لطالما عرف الرجل بأنه اشتراكي حد النخاع، وأنه معارض للنظام، وهو ما جلب إليه الكثير من المتاعب، بدءا من اعتقاله عام 1962 بعد الاستقلال، بأمر من الرئيس الأسبق أحمد بن بلة، وتعرضه للتعذيب، ليعاد اعتقاله في 1968 بأمر من الرئيس الأسبق هواري بومدين، ويزج به في السجن، ويعذب مرة أخرى. انقلبت مواجع الزمان في ذاكرة التومي، التي تغلف قلبه بالأسى، وطفت على السطح جراحه التي ظل دهرا يحاول نسيانها، وعندما حاولنا الاستفسار عن حادثتي اعتقاله، سكت مطولا.. أدركنا حينها أن كل واحدة من تلك الشعيرات البيضاء الناصعة التي وخطت رأسه ولحيته، تحمل حكاية قاسية عايشها.. وبنظرة المعاتب لنا على فتح تلك الصفحة التي طواها دهرا من الزمن، ونبرة يلفها حزن عميق، تكلم ''أفضل نسيان أيام التعذيب والأوقات الأليمة.. صحيح اعتقلت مرتين، أولها كان بأمر من بن بلة، والثانية بأمر من بومدين، ولكن الأمر كان منطقيا للغاية، لم أكن أنتظر أن يصفق عليّ، فأنا كنت مقاوما، وأنتمي للمعارضة، ولكن المعارضة الفعالة، وكنت مديرا وطنيا للثقافة، أي شبه وزير ثقافة، وطلب مني بن بلة، بعد خروجي من السجن، أن أكون مسؤولا إعلاميا برئاسة الجمهورية، لكنني رفضت.. رفضت لأنني كنت معارضا له، فكيف لي القبول بهذا الشيء''. غالب مضيفنا سكونه، وكسر جدران صمته، فأحسسنا بحرارة متأججة حان وقتها لتتدفق خارجا، وبحماس يسبق كلماته المسترسلة تباعا، أضاف ''بسبب مواقفي السياسية زج بي في السجن، بتهمة التآمر على أمن الدولة، فاعترتني بعد خروجي خيبة أمل، قادتني للالتحاق بالجبل ضد نظام بن بلة من جهة، ولأنني كنت أحس بشبه خيانة من جهة أخرى، فهناك من استغل الثورة واستولى على مقاليد الحكم، فظل الشعب الجزائري مهانا حتى بعد الاستقلال، لذا لم أتحمل تلك الوضعية، وفي الجبل تعرفت على حسين آيت أحمد وظللنا مع بعض لمدة أسبوع كامل، في كهف ضيق بإحدى الجبال المتواجدة بمنطقة ''مقلة''. كما اعتقلت في عهد هواري بومدين، أيام مسيرة الطاهر الزبيري التي قادها ضد النظام، وكنت حينها متواجدا في الحي بسيارة مع يوسف الخطيب، على الساعة الثانية فجرا، فقبض علي بتهمة حياكة مؤامرة ضد بومدين، فحاولت مرارا وتكرارا تفنيد الأمر، إلا أن السجن كان مصيري المحتوم. صحيح أني كنت معارضا للنظام، ولكنني لم أشارك في تلك المؤامرة، ورغم أن عقيدتي اشتراكية، وهو ما كان يدعو إليه بومدين، إلا أن الأمر كان مختلفا، فأنا كنت ضد الاشتراكية الطفيلية.. ثم إن الرئيس الشاذلي بن جديد كان أول من مكن الجزائر من التقدم، ولو بصفة همجية.. هي حكايات طويلة، أفضل طي صفحتها، وعدم الخوض في تفاصيلها أكثر''. لا يوجد في الساحة اليوم إلا الزاهي ودوماز سألنا عمي مصطفى عن سبب طول غيابه على الساحتين السياسية والثقافية في وقت واحد، وأكدت له حاجة محبيه إليه، فحمل رده الكثير من الحزن والأسى ''توقفت عن ممارساتي السياسية والثقافية، عندما لاحظت أن كل الأبواب بدأت تنغلق شيئا فشيئا، الواحدة تلو الأخرى، وأضحى ليس من حقي التعبير عن مشاعري، عندها قررت أن اختار واحدة من الاثنين، العودة إلى الجبل، أو تجاوز كل شيء وتخليفه وراء ظهري، فاخترت الحل الثاني. لم أجد اليوم، صوتا أكتب له ليؤدي كلماتي، فلا يوجد في الساحة إلا عمر الزاهي الذي هو شبيه بي لحد بعيد جدا، لنا نفس الأخلاق ونفس الشخصية، ورضا دوماز الذي هو في حالة صعود تدريجي. أنا بانتظار تغير الأحوال، ولكن لا أدري قط إلى أي ناحية ستتغير، أخذوا البلاد.. المهم لمن أكتب؟ وماذا أكتب؟ وهل يوجد من يسمح لي بأن أكتب لتعرية الحقيقة؟ ودّعنا مصطفى كمال التومي، وكلنا أمل في غد أفضل، يعود من خلاله إلى كتابة روائعه.