(تابع).. وبعد ذلك تعود الفكرة مرة أخرى إلى أغوار النفس، التي انطلقت منها، وبحلّتها الأولى، في غفلةٍ من الزمن وفي غياب للوعي. - وإذا رُفع الصنم هوت الفكرة. - وقد جاء في الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنه في تفسير قوله تعالى:﴿ وقالُوا لا تَذَرُنّ ءَالِهَتكُم ولا تَذَرُنَّ وُدّاً ولا سُواعَا ولا يغُوثَ ويَعُوقَ ونَسْراً﴾ قال ابن عباس: هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابا وسموها بأسمائهم ففعلوا، ولم تُعبد حتى إذا هلك أولئك ، ونُسي العلم عُبدت. - ولذلك جاء في موطأ مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: "اللهم لا تجعل قبري وثنا يُعبد، واشتد غضبُ الله على قومٍ اتخذوا قبورهم أنبيائهم مساجد" - إذن تأمّل يا بنيّ، ولا يغرنّك تعوّد الناس على المعاصي، فالحق أحق أن يتبع، وزن نفسك قبل أن توزن عليك. بعد أنهى الإمام العالم كلامه، شكرته على نصيحته، فقد رغبت في وضع حد لهذا النقاش الأحادي الجانب، ليس هربا أو عنادا، ولكن كنت في حاجة للمزيد من التفكير. استأذن الإمام بلباقة وانصرف، بعد أن ضرب موعدا آخر لمزيد من التعمق في حيثيات الموضوع من الناحية الفقهية والنفسية.. * * * لن أنكر بأنني وجدت بعض الأثر في عقلي وفؤادي من هذا النقاش، لأنني أؤمن بما قال الإمام، فبقدر ما فيها من محاكاة لصفة الربوبية، كما أوضح الإمام فيها أيضا، وفي أحوال عديدة، تجنٍ صارخ على مقام الألوهية، بعد أن تنزلق النفوس في حمأة العقائد المشبوهة. فضلا عن أنّها قد تصبح أداة لصرف الأذهان عن الحقائق الاجتماعية والسياسية الكبرى، أو وسيلة لزحزحتها عن قضاياها الثقافية والفكرية والمعاشية الحقيقية. ولكن.. - يجب أن أؤكد أيضا بأنني أؤمن بأنّ الفن بوصفه إبداعا وخلقا يعتبر من الممارسات والأعمال التي يقوم بها أصحاب النفوس الكبيرة. * * * - رغم أهمية هذه القضايا.. فالأمر ينطوي على بعض الطرافة..!! - فمن الصعب عليّ تصور سيناريو التحوّل الذي قد يجري عليّ، فأصبح من عبدة الأوثان.!!؟ وفق منطق الشيخ الإمام..!! - وربما يجعل أحفادي يتقرّبون إلى هذه الآلهة التي صنعتها يداي.!!؟ - فرغم تسليمي بما وقع في الماضي، فمن السذاجة أن يتكرر التاريخ في عالمنا العربي على الأقل، بهذه الصورة الفجة. - فحتى النقاش الدائر حول الفن والدين في الوقت الراهن، له إشكالاته المختلفة. - حيث يُثار الموضوع بسبب تجريد الفن من البُعد الأخلاقي، حيث صار هدفا في حدِّ ذاته. إذن.. بعد تفكير جاد في هذا الموضوع، وطرح عميق لبعض مسائله، وتردّد وموازنة بين الآراء، بدأت مع مرور الأيام، وتعاقب المشاغل وتتالي الأحداث أجد نفسي أنأى بعيدا يعيدا عن هذا الموضوع. فقد تبدّدت هذه الأفكار، وانمحت تفاصيلها داخل عقلي، وخبا وهجها المنطقي، وخمدت شعلة مواعظ الإمام في نفسي تماما. أصبح الأمر خارج دائرة الاهتمام!.. (يتبع)