(تابع).. في هذه اللحظة أدرك أسعيد ببداهته أن صاحب السيارة إنما هو إطار بسلك التربية .. ولكن الذي هاله هو قوله: لكن ما آلت إليه أحوال مدينة سطيف قد أجل كل شيء ؟!! فراحت الشكوك تستيقظ في قلبه والخوف يدب في أوصاله فبدا الارتباك واضحا عليه .. وقد غلبه الفضول فراح يسائل السائق قائلا : -عفوا سيدي.. ما الجديد بمدينة سطيف وما الذي آلت إليه ؟ أجابه السائق وقد رآه ملحا على سؤاله قاطب الوجه مرتبكا .. -أولم تصلك أنباؤها من قبل ؟ -تجهم وجه أسعيد وقال : -عن أية أنباء تتحدث.. ما الذي حصل ؟ -تنهد السائق وقال : مدينة سطيف يا أخي ومنذ مدة ............،.............،......................!......... ..............،.؟؟(( .. ..نزل الخبر على مسامع أسعيد كالصاعقة .. وهو لا يصدق ما حدث ولكنه يصدق كلام السائق الذي كانت الزفرات تلف كلامه .. والحزن يملأ عينيه .. وعادت إلى ذاكرته المدينة بأوجاعها وآلامها .. وذكرياتها فاغرورقت عيناه بالأدمع الخرساء .. فبكى وأبكى .. فاحتار السائق من هذا الرجل وراح"أسعيد" في لحظات هيستيرية يخرج مكنوناته لرفيقه في هذه الرحلة القصيرة من مدينة بني ورثيلان إلى القرية الصغيرة..........،.............!!........؟؟ وأنا بعيد عن مدينتي .. كان السائق أقوى من أن ينهار أمام مشهد مأساوي كهذا وأيقن أخيرا أن هذا الغريب عن المنطقة إنما هو المصور المشهور الذي أخذ له في آخر زيارة لعين الفوارة ..صورة تذكارية رفقة ابنته - ياسمين - ..تذكر جيدا انه هو .. ذلك البشوش الهادئ المحب لمهنته من لقاء واحد لم يدم إلا لحظات كانت فيها -ياسمين -في يديه عندما اخذ لهما صورة رائعة أمام عين الفوارة .. الصورة التي لا زالت في الألبوم ... -ياسمين- أصبحت أجمل وألطف .. لكن المدينة تغيرت .. والمصور أصابته نوائب الدهر؟..!!! وهو اليوم أمامه .. رق كثيرا لحاله .. تملكه شعور غريب لا يفهمه ضغط على الفرامل .. نزلا معا قرب جسر كان أول ما يصادفك وآنت متجه إلى القرية... والوادي من الأسفل يواصل رحلته السرمدية.. تحدثا كثيرا..صمتا كثيرا وكان حديث السائق بلسما شافيا لجراحات "أسعيد" كان ينزل صدره كالماء البارد الزلال زمن الحر والقيظ وعّرف السائق بنفسه لجليسه المكروب .. بكل تواضع وبساطة.. إنه ابن المنطقة .. ولد بها .. وترعرع في أحضان طبيعتها .. واشتغل بالتدريس في مدارسها ومديرا بعد ذلك واليوم هو مفتش للمقاطعة وانه بداية من اليوم عليه ان يعتبر "عبد الكريم "أخا و.. كان اسعيد ينصت لكلام جليسه ويحس أن قلبا رؤوفا رقيقا يسكن صدره .. وثباتا ورزانة تعليان مقام الهيبة في شخصه ووقارا يلف كيانه .. ومسؤولية عظمى تعتلي أكتافه وتواضعا كبيرا يشكل أفكاره وتصرفاته ... ويحس أيضا ان هذه الصدفة التي جمعته بهذا الانسان إنما كان لها الأثر الإيجابي على نفسه المتعبة المتناثرة كشظايا البلور المكسور .. وواصلا حديثهما وقد ركبا السيارة من جديد واوصله صاحب السيارة -أخوه عبد الكريم -..كما طلب منه أن يعتبره –إلى بيته وافترقا على أمل لقاءات أخرى تجمعهما قريبا ..فكانت الصدفة صدقة من يد الأقدار إلى قلوب حيرانة مرتعشة .. ونعم الصدف .............................................. عندما يبسط الليل جناحيه على جسد الكون يسري الدفء بأوردة الأنام جميعهم.. ولكن المنام لا يتاح للجميع..كثيرة هي الأعين السهرانة التي تقاسم النجوم تأهبها .. وتتحسس مواقعها .. أعين تنتظر من لا تعرف موعدا لرجوعه ..أعين أبكت وبكت..أعين تجود بالدّمع النفيس في ليال شحت بلقاء أحبة ليس ذنبهم أنهم سكنوا القلوب .. إنما ذنبهم أنهم أخطئوا الدرب إلى هاته القلوب.. مثلما أخطأت الدروب قلب أسعيد الساهر في هذه الليلة المقمرة بين أشجار التين والزيتون ناظرا كعادته إلى السماء .. صامت العينين مغمض الكلمات .. محدثا نفسه : -إيه يا مدينة عين الفوارة..إيه يا عروسا نابت عن رائحة البارود في صباحيتها رصاصات غدر سكنت لياليها ..فاغتيل الصباح .. يتم الضحى .. وثكل المساء ... وذبل فيها الجمال وأزهرت المأساة !! إيه يا سيغورني ..أيتها الأميرة المهربة الشريدة .. كيف هي أحوالك من بعدي ؟!!تراك مازلت على العهد أم أن البعد والنأي قد زاداك كمدا وأسى ؟!!إيه يا أمي .. يا ملاكي ... يا نور عيني ... عشت معك الحلو والمر.. وما كنت أطيق البعد عنك ولو للحظة واحدة .. وها آنت ترحلين في غيابي .. وتموتين في حياة فجائعي .. وتدفنين ولا أمشي في جنازتك .. ولا أصلي عليك .. ولا أقبل الثرى الذي ردمت به !! حتى فرصة الوقوف على قبرك صارت مستحيلة !! وهل سيشفع لي وقوفي المتأخر على قبرك يوما .. إيه يا حبيبة القلب ..إيه يا زوجة ..لم يكن من زواجنا غير فستان الفرح المخرق برصاصات الغدر .. وبذلة صارت سوداء بعد رحيلك يا "زوينة" رحيل القمر في ليلة ظلماء ..آه..رحل الذين نحبهم.. رحلوا !! إيه يا أصدقاء المحنة !! يا وداعة عبد السلام وحنيته ... يا شهامة رشيد وأنفته .. ويا وقار توفيق وتحديه ... ويا رقة قيس وشاعريته !!إيه يا خفة عبد القادر ولباقته..إيه.. يا دموع ذي الشيب الصّغير ومزاجه الغريب.. لا أدري إن كنت أنا من ترككم مفجوعين أم أنكم أنتم من تركني هائما ضائعا ..شريدا إيه أيها القلب عشقت يوما وتركتني أكتوي بجمرات عشقك دهورا؟!! ولكن.. ولكن ...سأواصل رحلة البحث عن السر .. سر بعيد إلى مدينة نضارتها وإلى سيغورني حلمها بمعرفة المكان الذي سيق إليه حبيبها وإلى قلبي المعذب بلسمه!! حتى وإن كانت الرحلة شاقة والسفر مضنيا !! عزائي أن السبل إلى ما نحلم به دوما شاقة وعسيرة ولا حلاوة ولا قيمة ولا نكهة في التنعم بالورود إذا لم تكن قد جرحت راحاتنا أشواكها .. وفي لحظة تراكمت صور كثيرة في ذاكرة عبد الكريم صور المدينة الخراب .. صور أسعيد المفجوع ..وإنعكست جميعها على شاشة حسه المرهف .. فتراه يجلس في الشرفة متاملا في صمت كل ما يقع عليه بصره من طبيعة خلابة : جبالها الشامخة .. مرتفعاتها منخفضاتها ..وديانها ....أشجارها .. سماؤها... ثم يعود ليتمدد فوق سريره وعيناه في السقف قد سكنتا ويقوم ليقف ويقعد ليقوم .. يحمل صغيرة ياسمين بيمناه .. ولعبتها بيسراه ويعود ثانية إلى الشرفة .. ويجرب مداعبتها ويداعب تجربة الحنية في ذاته في جسده المتعب بعد عمل شاق طوال يوم كامل من الملفات والتنقلات بين المدارس .. كانت ياسمين البنت الوحيد بعد ثلاثة من البنين .. كانت نقطة تحول كبيرة في حياته .. كانت ربيعه المؤجل .. وبسمته الصادقة كانت وردة تنقص روضة عائلته الصغيرة ..لكل هذا سماه "ياسمين" تذكر فرحته العظمى يوم ميلادها .." وكيف ظل وجهه مبيضا وهو وسيم " كيف كان يناغيها ..يتكلم على لسانها تذكر تفقده لها مرات عديدة في كل ليلة .. وهي كالملاك في مهدها تذكر زيارته رفقتها لمدينة سطيف ..أين أخذ صورة تذكارية معها بآلة تصوير حملتها يدا مصور دارت الأيام ووجده أمامه هنا ببني ورثيلان ..هنا بقريته بينه وبين هذا المصور رباط لا يجب أن يقطع ...