(تابع).. ..حي قوطالي كصبي في مهده تحت أجنحة الليل ..الشارع أطول من عذابات أسعيد وسيغورني ..المسكن في زاوية الشارع ..كل المصابيح نائمة ..عدا غرفة واحدة ينبعث منها ضوء خافت .. البساط الطائر صار ملتصقا بالنافذة ..ينظران معا من خلف الزجاج ..رشيد منكب على مكتبه يلتهم مضامين مجلد أزرق.. طرقٌ على النافذة ..ذعر لا تصديق من رشيد ..تفتح النافذة .. البساط ومن عليه داخل الغرفة المؤثثة بأفخر بأجمل التحف .. عفوا مؤثثة بأمهات الكتب المرصوفة في رفوف مكتبه تمتد من الجدار إلى الجدار..أسطورة ..حلم ام حقيقة هذه التي يعيشها رشيد ؟!!!" * * * ينوب الكلام عن صاحب البيت وهو لا يصدق ما رأى -ص..ص..صد..صديقي أسعيد تفضل بالجلوس ..إن.أأأأ أنت تفضلي اجلسي .. اجلسا أهلا بكما .. -اجلس أنت يا رشيد ولا تخف ستعرف كل شيء .. -جلس الجميع, هدأ روع المضيف ..ا ستراح الضيفان ..وجه أسعيد ليس غريبا عنه .وجه ..هذه المرأة ..أيضا ليس غريبا ..../--؟!!..أو ..ربما ..لكن ..آه..ولكن..كيف ... * * * * قال أسعيد : -الآن وقد عرفت كل شيء ..واطمأن قلبك ..ماذا ترانا فاعلين يا أخي رشيد؟ -علينا أن نذهب الآن التأخر ليس في صالحنا .. ثم نظر إلى ساعته التي تطوق معصمه فابتسمت سيغورني ..وفهمه أسعيد ..فقال رشيد يا إلهي عقارب ساعتي متوقفة أظن البطارية قد نفذت ؟!!..وابتسم الجميع ..وصاروا على ظهر البساط الطائر ..ودّعتهم دفتا النافذة وقالت جنبات الغرفة "صحبتكم الغرفة يا رفاق " حط البساط قرب مبنى" المسرح البلدي " الذي يعود إلى الفترة الاستعمارية ..لفه أسعيد وتأبطه ..نظرت سيغورني إلى المبنى .. المسرح ..وتنهدت ..وأحس أسعيد بتلك التنهيدات تنزل صدره قبل أن تنزل صدرها ..وسار الجميع في صمت رهيب كان قد سكن كل شوارع المدينة وإحياؤها ..وفجأة في تلك الظلمة الداكنة تراءى لهم شبح وخيال فذعرت سيغورني وأسعيد .. وتوقفا عن السير وابتسم رشيد ..فحيرهما أمره..فقال "ما بكما ..إنه رجل الظلام .. الذي يزرع النور في المدينة وفي نفوس أبنائها إنه صديقي توفيق " الذي له حاسة سادسة عندما يتعلق الأمر بي ..إنه توأم روحي ..رفيق دربي .. وحينها تذكرت سيغورني كلام أسعيد عندما حدثها عن صديقه رشيد الذي كان تكلم من قبل عنها .. وتذكرت صديقه توفيق الذي كان جالسا مع أسعيد ورشيد وهما يمزحان في حديثهما عنها وعن حبيبها" العَلمي " الوسيم الأنيق الذي يشبه توفيق ..../...... ...أربعة أشخاص واقفون مع بعض .. المدينة في سبات عميق ..عيون سيغورني تتفحص قدّ توفيق ..قالت في نفسها وهي تنوي إخفاء الأمر عن قلبها . " عجيب ..عيون حبيبي "فيدال" !جبينه!أنفه ! شفتاه! بسمته ! طوله ! مشيته! أأنا في حلم أم في حقيقة "؟!! طأطا توفيق رأسه ولم يفعل ذلك من قبل أمام أية امرأة أبدا ..عرف سر هذه النظرات من -سيغورني -..لم يكن فضوليا ليسأل صديقيه " رشيد وأسعيد " عن هذه المرأة الغريبة ولا عن سبب وجودهما هنا ..لأنه يعلم أن صديقيه لأعف من العفة واطهر من ثوب مغسول بالثلج و البرد ثم قال :هيا بنا فالتأخر ليس في صالحنا .... ونظر إلى ساعة اليد فابتسم الجميع وابتسم معهم ..وتكلم الزمن حينها قائلا :"يا رفاق اذهبوا في طلب مرادكم فأنا أريد أخذ قسط من الراحة " سار الجميع نحو " الدوك" الذي يعرف كل سكان مدينة العلمة أنه كان سجنا إبان الثورة ...وقف الأربعة أمامه صامتين ..قال رشيد في نفسه :"إيه أيها السجن المرير ..الخداع ..مكث بك جدي سنين عددا ..تجرع خلالها كؤوس العذاب مكرها ..وكفن بظلام زنازينه وزف إلي الردى مقيد اليدين والرجلين ..قُتل جدي ومات .. ولكن الوطن ..يحيا بعد ذلك بسنوات "قال توفيق :"إيه ..الدوك المليء بالقمح و الشعير ..يا من صرت مخزنا للخيرات ..كنت بالأمس مخرنا لأجساد رجال-تسوى وتغلى -.." قال أسعيد " ؟" عفوا لم يقل شيئا .. لم تقل سيغورني شيئا ..كانت تريد أن تقول شيئا لكن خافت على أسعيد من الصدمة .. ومن السؤال مرة أخرى عن .. لا تدري سيغورني عن ماذا ؟ ! ..تقد الجميع من باب –الدوك- رويدا رويدا ..كان الحارس واقفا يقظا ..كعادته ضبابة على عينيه جعلته لا يراهم وهم داخلون ..كانوا صامتين..بين ضنى ولوعة السر وبين رغبة في فك رموز العبارة المنقوشة على القلادتين الفضية والذهبية ..انتهى بهم السير وسط تلك الزنازين إلى الوقوف أما حجر زاوية الزنزانة ما قبل الأخيرة .....وقفوا تأملوا الحجر جيدا ..نظروا إلى بعضهم وقال رشيد وقد استدار مقابلا "سيغورني: -هذه الكتابة المنحوتة على هذا الحجر كان القديس "سانتارنو" قد قضى شهورا في تدوينها ثمة ..وترك الحجر في الدير الذي كان يقيم فيه متعبدا طوال سنوات وكان كثيرا ما يقف باكيا أمام هذا الحجر الصغير ويتمتم بكلمات ليست مفهومة ..ولم يعرف أحد قصده إلا الخادم الذي سمعه يوما يقول و هو على فراش الموت :"ستأتيك يوما ما امرأة مهربة مستحيلة"..وتكون لها هذه الكلمات مفتاحا ..ودليلا إن استطاعت فهمها ..فليس ذنبي ان أكتبها بلغة ليست لغتها "..حفظ الخادم هذه الكلمات على ظهر قلبه ..تقدم به السن فخطها على جلد الغزال ..سارت مواكب الأزمان مات القديس "سانتارنو" ورحل وأخذ سره معه وسر هذه الكلمات ..ورحل الخادم إلى مدن الموت ...رحل المستعمر من أرض ليست أرضه ولا يمكن أن تكون أرضه.. الكلمات المدونة على جلد الغزال أصبحت وثيقة تاريخية في" متحف المجاهد " بمدينة سطيف ..اضطرتني الحاجة إلى قراءة تاريخ وطني ومدينتي بالخصوص .. وقعت الوثيقة بين يدي ..فككت كل رموزها إلا رمزا واحد لم أعرف لفكه سبيلا .. وها هي المرأة التي تحدث عنها "سانتارنو " أمامنا الآن ولأخي وصديقي توفيق معرفة بذلك .. ..حينها دوح توفيق رأسه كقفة ضاقت بما حملت وقال : - "سيغورني" يا ضيفة- العلمة-..ويا من تراءيت لها شيبها بحبيبها-فيدال- الذي صلبوه وهجروه في عربة إلى الشمال ..إلى مدينة سنعرفها لو استطعنا فهم الكلمة الأخيرة من مخطوطة الخادم الذي دّون فيها قول القديس "سانتارنو" ..لن أحزنك لو قلت لك أن الأمر صعب في اكتشاف السر الذي أرقك سنين عدة ..ولكن سأفرحك لو قلت لك بان الأمل لا زال قائما ..لان هذه الكلمة الغامضة مكتوبة بلغة لا يفقهها إلا شخص واحد إنه الصديق والأستاذ -عبد السلام -ابن مدينة- عين الحجر - الواقعة جنوب مدينة العلمة بحوالي ثلاثين كيلومتر ا .. وعلينا أن نتجه إليها الآن مادام الزمن في راحة ..فقرب هذه المدينة التي ولد بها عبد السلام كانت مدينة رومانية ابتلعتها الأرض في زمن مجاعة حل بها .. وأظن أن السر سيكشف هناك ..السر الذي سيعرفك بالمدينة التي أخذ إليها تمثال حبيبك "فيدال" وهو السر أيضا الذي سيعرف اسعيد بمن قتل حبيبته وزوجته يوم الزفاف ".. بكى الجميع ..وما أدراك ما دموع المظلومين.. البؤساء .. وفي لحظة كان الجميع على ظهر البساط الطائر صوب مدينة عين الحجر.. المدينة الأمل .