( تابع..) أيها الناسك ..أيها الرجل اللعين..ما أتيناك حبا فيك وتعظيما لإدعاءاتك ورهبانيتك..فلست منها في شيء ..إنما جئناك بأمر من الملك المفدى . كي تطلعنا على السر العجيب الذي لا يعرفه أحد غيرك ..09 السر الذي يعيد إلى مدينتنا نضارتها ويرد إليها هيبتها وقيمتها. فأسوارها قد تلاشت وأمست أطلالا مقفرة والشوارع خلت من كل غاد ورائح .. والرعية صارت مخمورة بالهذيان والضياع.. والملك مطروح ممدد على فراشه .. ولا شيء يعيد الأمور إلى مجاريها إلاك ..أقصد السر الذي هو مكنون في نفسك -عن أي سرّ تتحدث يا رجل ؟ - لا تراوغ رسول الملك بتنكرك وتجاهلك..إما السر وإما الروح النتنة القابعة بين ضلوعك .. -أو تشهر سيفك في وجه شيخ هرم أعزل ؟ -بل وأسكنه أحشاءك لو تماديت في الضحك علينا -أنا لا أضحك على احد ..ولا أسخر ..من أحد..إنه لا يسخر قوم من قوم ..عسى أن يكونوا خيرا منهم . -كفاك موعظة ..واحفظ هراءك لنفسك أما نحن فنريد أن تطلعنا على السر ..فالكل في المملكة في انتظاره .. ..ولما يئس القائد وجنوده من نيل مرادهم ..تشاوروا في أمره..بين داع إلى سفك دمه ..ومعرض عنه حتى يأمره بذلك الملك فعادوا من حيث أتوا ..وقد عزموا على العودة إليه صباح الغد واختفى الناسك عن الأنظار...هنا قاطعه أبي الملك وقد شك أنه خرج عن الموضوع الذي جاء من أجله..ولكنني أدركت بفطرتي خاتمة قصة الناسك قبل ان يكمل سردها هذا الرجل ..الذي تابع بقول : مَرّ علي أكثر من يومين وانا أتتتبع كل صغيرة وكبيرة من أمر الناسك وقد اتخذت لي مكانا أراه منه ولا يراني ..ولما قفل الجند عائدين .. وقد سمعت كل ما دار بينهما من حوار..انتظرت حتى أسدل الليل ستاره على المعمورة ولم يعد الغار يبدو لي جيدا ..كان كحبة زيتون لا شرقية ولا غربية,, ودنوت وفي نفسي شيء من الخوف لكن الرغبة قادتني لمعرفة هذا السر الذي يعيد للمدينة حياتها وحياة ملكها ورعيته هنا نطق "أسعيد" وقال لمحبوبته: بل قاده الطمع ..الذي يفسد الطبع ..ضحكت " سيغورني " لأول مرة وخاطبت "اسعيد" بلهجة تجمع بين المزاح و الجد : -صدقت يا أسعيد هذا مثل سطايفي..تتداوله ألسنة العمريات كثيرا ..انا أعتبره حكمة تستحق أن تنقش في الذاكرة كما نقشت حكمة الإغريق ..وكثير من الشعراء العرب كزهير ..و المتنبي ..وذي الشيب الصغير . -من.؟.ذو الشيب الصغير؟ ومن يكون هذا الشاعر الذي تعرفينه منّا ولم يجر اسمه على مسمعي يوما.؟ ابتسمت ثم تنهدت وقالت : -ابن مدينتك يا "أسعيد" ألا تعرفه.. إنه جذوة من مشاعر ملتهبة.. وهالة من حس مرهف..يبني نفسه المتعبة بروح من آمال بين طيات القوافي ..ذاق الأمرين..و كان عام الحزن ضيفا ثقيل الروح على قلبه الطيب ..يحضر أمسياتكم الأدبية كل خمسين بدار الثقافة ..يفضل المقعد الأيمن في الصف الأخير ..أنكرته دروب الإبداع زمنا..وعز عليه أن يبقى دون حراك أمام سيول الرداءة السائرة صوب أدب ساقط منحط .. ولكنه أبى ان يساير هذا التيار ..فعانى الكثير ..وما زال ينحت في صمت اسما له ..قد يلمع يوما في الساحة التي احتكرها نخبة من الكتاب رأوا أنفسهم أنبياء ..ولا أنبياء بعدهم .. -صدقيني يا أيتها الأميرة ..إنك تعلمين كل صغيرة وكبيرة ..أخالك مثقفة لا يشق لها غبار ..او..أدبية استلهمت أعمالك الأولين والآخرين ..وناقدة تجرح وتعدل ..ولكن ..أين أجد هذا الشاعر" ذا الشيب الصغير "لممثله تشرح الصدور.. -لا تشغل بالك..ستلتقيه يوما ما.. وفي الوقت المناسب . فإنه لكل أجل كتاب .. لك ذلك يا أنيستي..هلا عدت بنا إلى أجواء روما..فإن كلامك جعلني أعيش فيها ولم أزرها بعد ؟ -تغيرت ملامح وجهها لما سمعت مني هذا الكلام عن_ روما_..وظنته الحنين قد استبد بها ..وربما ذكرتها_ في عز نسيانها_ بقاعا عاشت بها صباها ..ولقيت في ساحتها حتفها بطريقة بشعة نكراء..ووحشية لاتوصف ..لكنها استجمعت بعضا من أنفاسها وواصلت الحكي : أين وصلنا يا حبيبي "أسعيد" لقد أنستني أجواء مدينة الهضاب تفاصيل قصة الناسك ؟ -نعم..لما دنا الرجل الذي كان يحدثك إلى الغار الذي يقيم به الناسك . -آه..تذكرت..قال المتسابق الرابع مظهرا شجاعته وحنكته : وقفت عند مدخل الغار وقد عم السكون أرجاءه ..كان الخوف من ورائي والسر من امامي وليس لي ..وعزتك أيتها الأميرة.. إلا الصبر والإقدام ..فراحت خطاي تتثاقل ..ونبضات قلبي تتسارع.. وأول ما وقعت عليه العين ..ذلك القنديل الذي ينبعث منه نور خافت ..وإلى جواره كان الشيخ ممدا على فراش من حلفاء ترك آثاره على جسده الناعم ..ظننته نائما فاستحييت من نفسي أن ادخل منزلا غير منزلي دون أن أستأذن..فألقيت التحية..فما ردها ولا بأحط منها ..أدركت انه في جفن الردى..فدنوت منه أكثر.. فتحرك ذراعه الأيمن فارتعدت فرائسي..وأردت أن أتحسس فيه نبض الحياة فلامست جسده الهامد ..آه أيتها الأميرة..بهذه الطريقة فضل الناسك أن يرحل..وما أطلع أحدا على سره..وفجأة لمحت وريقة صفراء كانت تضمها يمناه..وتشد عليها أصابعه..تهجأت حروفها..وعرفت أخيرا السر الذي حير الجميع.عندها اندهش الجميع .وتحرك أبي الملك من مكانه وراح الحاضرون يتوقون لمعرفة هذا السر ..ولكن الراوي سكت طويلا حتى ألهب فضول السامعين وراح يتفحص بعينيه المتوقدتين أعينهم ثم نظر إليّ وظن إني مثلهم أذوب شوقا لمعرفة السر..وقال : .. يتبع