بقلم: علي بختاوي/ الجزائر تقلص حجم الورقة التي كانت منتشرة مثل يد زارعها . أخذت تنعس وتنكمش . فالحر شديد . والشمس طاردت الناس إلى بيوتهم . كان ذلك بعد منتصف النهار بقليل . لم يبق من الأحياء في هذه القرية الظالم أهلها سوى عصافير هاربة من حمّارة القيظ ولفح الأشعة التي تشوي الوجوه وتتركها تعرق وتقلق وتأرق ..القطط ربما هي الجنس الوحيد الذي يستهويه هذا الوقت . هذه المدة الزمنية المخلصة له . كأنها والشمس على ميعاد . فجأة سمعت زقزقة تشبه النحيب . أو هي قريبة من النجدة . اقتربت. أمعنت النظر بين الأوراق الغليظة الناعسة المنكمشة ..لم أ سمع حركة .لم أر شيئا . هل انأ في خيال.. ؟ خائبا قفلت راجعا إلى سريري . تمددت ..كان في يدي كتاب “ظل الأفعى ” رواية جميلة ليوسف زيدان . بقي منها ثلاث صفحات كي أنفض يدي منها وسوف أختار كتابا آخر أجمل منه.. أثناء مروري إلى الصفحة الثانية من الصفحات الثلاث المتبقية هز أذني نحيب آخر .. في نفس المكان .على الدالية التي غطت جزءا كبيرا من فناء البيت خرجت - هذه المرة لابد أن ارصد ما الذي يحدث قلت في قلبي وتركت عيني تمسح المكان لا يوجد شيء . أين العصفور الذي كان ينوح قبل قليل.. هه.. ربما هناك.. خلف هذا العرف الغليظ.. لقد سمعت خشخشة . والله سمعته جناحاه تضربان الأوراق.. تقدمت نحو الشجرة التي يلفها صمت القبور .. ولا ورقة تتحرك ..لا نسمة خفيفة أو ثقيلة.. فالوقت بعد منتصف النهار يكاد يهيئ المساحة والجو فقط للأشعة.. منذ أزيد من شهر والحال كما هو.. حتى أنا مللت هذا الجحيم الذي شيّ أعضائي.. في سرعة لم انتبه لها رفعت راسي ونكسته.. هه.. هذا ريش لعصفور ما ..تنحيت جانبا.. أسندت ظهري ..للحائط المحتضن جزءا من الدالية .. تركت عيني لا تتحركان إلا في المكان الذي يجري فيه الحدث.. الحرب.. الصراع.. القط يترصد طعامه في صمت.. في حذر.. أية حركة منه تنفلت إلا وتطير جميع العصافير.. كان العصفور الذي يتقدم السرب منهمكا في نقر حبات العنب الفجة الحامضة.. أمي قبل أسبوع قالت لي عليك بحفظ ثريات العنب في أكياس بلاستيكية حتى لا ينقرها أي عصفور.. هززت راسي بان سوف اصنع ذلك غدا أو بعد غد..أمي الآن نائمة في غرفتها لا تدري ما يحدث فوق الدالية.. لو رأت ما يحدث لتراجعت عن قرارها لتقول لي دع القطط تحرس الدالية.. لكني الآن مستمتع بما يجري بين الأعراف الغليظة.. نسيت ظل الأفعى الكتاب الوحيد الذي فتحته الآن هو كتاب الدالية وما يجري عليها وفيها من عراك وترصد وانفلات ونواح ومواء ..سقطت ورقة سميكة خضراء على أذني القط الأبيض المزدان ببعض النقاط والدوائر الحمراء والرمادي.. ارتعش جزعا ..نفض رأسه من حبات الغبار التي كانت عالقة بالورقة.. انهماكه في نفض الغبار جعل العصفور الذي يقود السرب يتقدم قليلا. بعيدا عن مخالبه.. وربما حتى عن عينيه ..لو ينظر هذا العصفور الذي يقود السرب قليلا إلى الوراء لبقي القط أسابيع بدون لحم.. لكن حبات العنب أسكرته. ألهته عما يجري وراءه.. انه الآن يدخل منقاره حتى النصف في عمق الحبة ليمتص الماء البارد.. بل راح يقشر الحبة تلو الأخرى. مطمئنا . هادئا . هه. كم حبة تلزم العصفور حتى يشبع وإذا شبع هل يبقى هنا.. محال.. هيهات.. ذلك في الخيال..؟ تساءل القط في خلده.. إذن عليه أن يرتمي على الثاني فإذا طار السرب يكون قد ملأ معدته باثنين.. وهو الذي لا عمل من ورائه ينتظره.. يستطيع أن يبقى النهار بكامله هذا إذا لم تمر قطة بجانبه فتصرعه رائحتها فيقفز فوقها ليمارس معها غريزته الصيفية دنا فتدلى من العرف.. نشب مخالبه في احد جذوع الشجرة دون أن يفقد تركيزه.. نظرته الخضراء.. قليلا انتظر ما سوف يقوم به هذا الطائر المزركش بالأصفر.. وعلى صدره سكن لون يشبه لون حنّاء البدويات.. جميل. . صوته شجي ..يأسر الأذن العاشقة الهيمانة .. يترك الواحد يسافر إلى البعيد.. دائما وأبدا الأصوات الساحرة المبدعة تمسح الأحزان.. تنفض عن القلب غبار السنين والأيام.. لابد لي أن اغتال هذا القط.. في الجهة المقابلة يناديني صوت آخر ” دع أمور الطبيعة للطبيعة ثم من قال لذلك العصفور الذي ربما كان دليلا بالنسبة للعصافير السبعة ان يغض الطرف ويتلهى بعيدا عن سربه ” لم أشأ أن ارفع يدي وأحك راسي حتى لا ينتبه من على الشجرة بشأني.. واقفا بقيت.. ارقب المشهد المضحك المبكي .. على مقربة مني مكنسة . عود خشب كنت أتيت به للأم حتى تنفض به الغزل لتحيك منه أفرشة للشتاء ..فردتي حذاء استطيع بهذه الأسلحة البسيطة أن أهجم على القط وأرديه قتيلا لكني قلت “لا يغير الله بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم” في لحظة ما من تقلبات الطبيعة فزّت ريح ليست بالقوية.. لكنها أحدثت ضجيجا وفوضى بين الأوراق والأغصان الملتفة ببعضها البعض. جعلت القط يقفز على العصفور الثالث ثم الرابع.. لم يكن يلتهم شيئا فلقد كان يحبس أنفاس العصفور بين فكيه ثم يرمي به إلى الأرض.. هل شبع..؟ أمتخوم هو..؟ الآن لماذا لا يهضم مقصده.. ؟ الريح تعبث بالأوراق وما التف من أغصان الدالية.. صار الجو مناسبا للقط كي يقفز ويصيد طريدته في هدوء او في فوضى بادية من تحركاته وبصبصاته.. هل الطبيعة تساعد أحيانا على ارتكاب الجرائم والوضيع من الأفعال..؟ إذا كان كذلك فمعنى هذا أننا لابد أن نلتمس للمغدور بهم ألف عذر.. لكن لماذا ذلك العصفور غير منتبه لما يجري ويحدث وراءه.. ؟ هل هناك عصفور آخر يملك حق السيادة والحكم على هذا العصفور الدليل.. ربما.. ربما .. على بعد متر واحد كان وصل الى سادسهم وحين فرغ من مضغه اقتعد يفتش عن طريقة للنزول إلى الأرض. حيث العصافير التي لقيت مصيرها قبل قليل.. في تلك اللحظة كان العصفور الدليل قد حمل حبة عنب في منقاره وطار مرفرفا إلى جهة ما.. والريح تلعب وتطوح بالريش المنتف عن جثث العصافير في كل مكان من فناء البيت.. لحظة نزول القط من على الدالية لقي وجهي.. احتبست أنفاسه لكني كنت تذكرت ما قلته سلفا دع أمور الطبيعة للطبيعة ورجعت أكمل قراءة ما تبقى من الرواية