بقلم: محمد علي شمس الدين/ لبنان فاجأني سائق التاكسي، وهو يجول بي في القاهرة ليلا، حين نظر إلي وجهي في المرآة الصغيرة لسيارته، وقال: تعرف يابيه ؟ أنا عايز إيه من هذه الدنيا؟ وبين سؤاله وإجابته العجيبة التي ما كنت أنتظرها، مرت لحظات سريعة، جرت خلالها في رأسي احتمالات ما يمكن أن يطلب سائق كادح مثل ‘جاد عبدالمولي' في زحام المدينة: السيرة.. لقمة العيش.. راحة البال.. تحسين الأحوال.. ‘رفع الغمة عن هذه الأمة'، كما يقول خطباء المساجد... الخ.. لكن السائق لم يترك لي اختيار مايمكن أن يتمناه من هذه الدنيا، فقال : أنا عايز قبر لي ولعيالي. أنا عايز مقبرة للعائلة. قلت له: هل الأرض ضيقة لهذا الحد؟ يبقي فيها علي الأقلٌ فسحة للأموات. قال : هناك زحمة . البعض من الميسورين، يشترون قبرا بعشرة آلاف جنيه. بعض الفقراء ممن لايملكون تأمين مدفن لهم، تساعدهم عائلات بإعطاء فسحة لهم في مقابرها. ماكان لي أن أمر بمفاجأة ‘جاد عبدالمولي' لي مرورا عابرا. وهو ، بدوره ، رغب في مزيد من الإيضاح، حين لاحظ عليٌ الاهتمام. قال: آخر شيء قاله لي المرحوم والدي قبل ما مات: الحمد لله.. كرمني الله بقبر. وأضاف: كانت تظهر علي والدي علامات السعادة. ووجهه كان يطفح بالبشر والرضي. سألته: هل هذا الأمر يحصل في القاهرة ، باعتبارها تغص بسكانها الكثر، الذين يحتشدون فيها، ويفيضون عن مساحتها؟ وقلت في نفسي إن الأحياء من الفقراء، هنا، لايجدون لهم مسكنا إلا بشق النفس، فكيف بالموتى؟ قال: ‘لا ، يابيه، دي عادة في الصعيد كمان'. قفز إلي ذهني مباشرة ماكنت قد شاهدته بأم العين من مشاهد عائلات فقيرة تسكن علي القبور أو داخل غرف مشيدة فوق الأضرحة، في مقبرة كائنة تحت ‘الأهرامات'. شاهدت الغسيل منشورا هناك، وبعض الصغار يلعبون، والناس يقيمون ويتحركون دونما حرج.. ثمة تلفزيونات علي بلاطات بعض الأضرحة. والناس يعيشون حياتهم الاعتيادية هناك كما يعيشها، علي الأرجح، سكان الفيلات أو القصور أو الأحياء الشعبية، ولا يضغط عليهم ‘معني ما' من جراء تلك المساكنة العجيبة. والحال هو أن ثمة ما يدعو للتأمل وربما للتفلسف. وفي فترات الصمت التي كانت تقطع حديثي مع ‘جاد عبدالمولي'، أخترطت رأسي جملة أفكار. سألته: هل هذا، اعتقاد ديني؟ قال: آه... دي عادة قديمة.. قديمة قوي..' وليس جديدا أن نقول أن أهرامات الفراعنة، المعروفة، والتي لا تزال رابضة علي صدر أرض مصر، في القاهرة وأسوان وشعارة، هي قبور مخروطية عملاقة، للفراعنة، تنطوي في داخلها علي مدافن وعظام وأدوات زينة وحلي وذهب وأواني طعام.. وهي محصنة بالدهاليز، والقطب المعمارية المخفية، التي شيدها المهندسون لتضليل وربما اصطياد (وقتل) من يرغب في اللصوص أو الفضوليين بسرقة الموتى أو إزعاج صمتهم الأبدي. وهي مزودة بكل أدوات ومظاهر الحياة (في الآخرة أو في العالم الآخر) بمعانيها الحسية، باعتبار أن الموتى لا يموتون. حين أتي الإسلام، جاء بفكرة استمرار حياة الروح بعد الموت، إنما بلا صورة معينة، أو تفصيل محدد أو حيز موصوف لموئل الروح. بل جاء في الذكر الحيكم ما يفيد قفل الباب حول هذه المسألة، باعتبارها أمرا في أمر الرب ‘يسألونك عن الروح، قل الروح من أمر ربي'... أما مصير الجسد، فقد كان الإسلام الأول فيه أقرب للبداوة العميقة حيث جاء في الحديث ‘خير القبور الدوارس'. لكن الإسلام التاريخي علي امتداد العصور، حتى اليوم، لم يكن كذلك... فقد سيدت الأضرحة الضخمة للأولياء وللأثرياء وللسلاطين والحكام. جالت في ذهني هذه الأفكار، وأنا أقلب كلمات السائق في رأسي. ولم يكن هو، بدوره، مكتفيا بما قاله، بل شاء أيضا، عط طريقته، أن يتفلسف. قل: ‘بص يا فندم... ما حدش واخد منها حاجة... الغني زي الفقير. الحاكم زي المحكوم. الظالم زي المظلوم. الله قسم الأرزاق بين العباد. والسعادة، صدقني يابيه، موش بالمال. السعادة بالرضي والتدبير...'. صدقت علي ما قال، وأضفت في رأسي: ‘دنيا لايملكها من يملكها