-أطفال حرموا من الدراسة بسبب استهزاء التلاميذ بمقر إقامتهم في المقبرة -الأولياء: «نريد لأبنائنا سكنات ومساحات خضراء وليس طفولة ممزوجة بصوت النحيب وصور الجنائز» روبورتاج: بهاء الدين. م تكابد عائلات جزائرية في عنابة منذ أكثر من أربعين عاما ويلات أزمة سكن من نوع خاص، تلك الأسر التي زارتها «البلاد» بمكان إقامتها في قلب مقبرة سيدي حرب أضحت مخيّرة بين أمرين أحلاهما مرّ، الشارع أو مجاورة الموتى والاستئناس بوحشة القبور. ورغم الوعود «الموثقة» التي حصلت عليها من السلطات ذات جانفي 2009 بالترحيل من خلال البرامج السكنية المتتالية، إلا أن حلمها بمغادرة أسوار غرفة مظلمة ظلت بعيدة المنال، ما جعلها تستسلم لحياة تلوّنت بالسّواد وامتزجت بنكهة الموت. وتسكن تلك العائلات في «بيوت ضيقة» ومتلاصقة داخل سور مقبرة حي بوحديد وعلى بعد 100 متر من محطة الصرف الصحي ولا تتجاوز مساحة «منازلها» نحو200 متر مربع، وقد حُرمَ معظم أولادهها من الدراسة بسبب استهزاء التلاميذ الآخرين بحالتهم الفقيرة ومقر سكنهم. وفي رمضان فلا غرابة على الإطلاق أن تزاحم الجرذان وثعابين القبور هؤلاء «الأحياء» على موائد الإفطار في حضرة الأموات في مشهد يفرق في لحظة رعب بين الروح والجسد ويخطف أنفاس الصغار الذين «أجبروا» على التعايش مع مختلف أشكال القوارض على مر السنين. 4 أجيال تربّت وسط القبور عندما تدخل مقبرة «سيدي حرب»، التابعة لبلدية عنابة، لا يلفت انتباهك أي شيء مثير فجميع المقابر في كل بلدان العالم لا تحتوي إلا على القبور وهو حال هذه المقبرة، لكن عند مدخلها فقط، فبمجرد أن تتوغل بضع أمتار حتى تتراءى لك السكنات المقامة بين القبور ومعها يرتسم بوضوح تشابك عالمي الأحياء والأموات. نساء في أبهى حلة وقمة الأناقة يسرن بين القبور وأطفال يطبلون ويغنون، مشهد غريب لكنه لا يثير الاستغراب داخل هذه المقبرة التي تحدث بها أمور كثيرة. رحلتنا امتدت يوما كاملا داخل مقبرة «سيدي حرب»، حيث استأنس الأحياء بالأموات لدرجة ما عادوا يحرجون ليقيموا أفراحهم بمكان كان الصمت الرهيب سمته منذ الأزل. ها هي «وهيبة» تصرّ على خروجها من المقبرة عروسا على متن سيارة مزينة بالورود ضمن موكب زفاف يطلق الأبواق من داخل المقبرة ويسير بين القبور إلى أن يغادرها. فهل يشارك الأموات «وهيبة» فرحتها، أم أن الفرحة والأبواق تنغص عليهم رقدتهم الأبدية؟ وأشار لنا كل من يسكن بذلك الموقع إلى أن أربعة أجيال تعاقبت على المكان منذ أن وطأتها أقدام أجدادهم عند الاستقلال، لكن دون أن تتحسن ظروف إقامة أحد منهم أو أن تعرف معاناتهم فرجا في الأفق. ولا زالت تلك العائلات المعنية تعيش بتلك المقبرة منذ قرابة خمسين سنة وسط الموتى، حيث لم يخطر ببال الأبناء منذ ولادتهم أنهم سيبدأون حياتهم في رحاب الأموات ورفقة الجنائز والقبور، ويخشون من مغادرة الحياة على هذا النحو. وقد تحدثنا واستمعنا إلى انشغالات العائلات، كما اطلعنا على أحلامها التي لا تعدو أن تتجاوز أربعة جدران وجيران من الأحياء في شوارع تعج بالحياة الكريمة والحركة. عائلات تعيش في أحضان الأموات مقبرة سيدي حرب تعد إلى جانب مقابر أخرى بالولاية من أكبر المقابر اتساعا في بلدية عنابة، إلا أن الوضعية التي توجد عليها تثير الكثير من التساؤلات حول دور مصالح البلدية التي ترجع إليها مهمة تنظيفها من الأحراش والأعشاب اليابسة التي تعرقل حركة الزوار الذين يؤمونها، خاصة أيام الجمعة، حيث تكاد المرافق والشهود تختفي عن الأنظار. في وسط هذا الجو المهيب تعيش خمس عائلات تتكون كل واحدة منها من أزيد من خمسة أفراد، منهم من تزوج ويقطن مع زوجته وأولاده ببيت أهله. وتبرز ملامح وجوه العائلات عن احتكاكها بتجربة طويلة مع الفقر والمعيشة الضنكة. ولم تكن العائلات تحبذ الكلام، ربما لأنها لازمت جيران يصمتون إلى الأبد، إلا أنها كانت تؤكد على طلبها الشرعي والمشروع في منحها مسكنا يقي أبنائها الوضع الذي أصبح غير مقبول وغير مطاق، حيث رائحة الأموات تغزو حتى أجواء شهر رمضان، ورطوبة البيت القصديري والحرارة التي تفوق كل التوقعات، خاصة مع نشوب بعض الحرائق التي تأتي على بعض الأحراش الغابية في المنطقة. كلها أمور تزيد من مشهد الغبن الذي تعيشه هذه الأسر التي تتنقل بين القبور وتبيت إلى جوار الأموات. فيضان «ماء الموتى» يقول أحد السكان: «لقد ولدنا هنا في هذه المقبرة، شتاءً يفيض ماء الموتى علينا». استفسرنا عما يقصد بماء الموتى فرد: «حينما تنهمر الأمطار بكثرة يتسرب من التراب ماء ودم الموتى المدفونين حديثا ويجري مع مياه الأمطار التي تتسرب إلى بيوتنا، خاصّة وأن هناك بيوتا لا يفصلها سوى نصف متر عن القبور». وحسب المتحدث «فيضان ماء الموتى» تسبب في أمراض خطيرة «هناك نساء أصبن بالجرب بسبب شحوم الموتى حسب تفسيرات طبية». ويقاطعه مواطن آخر انضم لتوه الى الجمع الذي كان يتحدث إلينا «توفي والدنا عام 1982 هنا بسبب رائحة الموتى»، ويعود المتحدث لسنوات خلت فيقول: «لما أتينا للإقامة هنا كان المكان خالٍ من البشر الأحياء، ومرّت السنين وولدت أنا ومن بعدي إخوتي، ونحن نكبر نمت معنا المنازل على محيط المقبرة الذي تحول إلى حي سكني، كل الناس حصلوا على سكنات إلا نحن ظللنا محاصرين بالقبور، ومن خارج المقبرة حاصرتنا السكنات دون أن تتذكرنا السلطات». وفي مشهد تقشعر له الأبدان يروي متضرر آخر مأساته مع بداية دخوله عش الزوجية قائلا «زوجتي وهي موظفة في سلك التعليم لحد الآن لم تتقبل الوضع، تتحين وقت المغادرة على أحر من الجمر، لكن ما باليد حيلة». ويضيف قائلا: «ولّى وقت طفولتي وأحلامي، وكل آمالي اليوم معلقة على طفلي الصغير، لا أريده أن يعيش طفولة مستنسخة عن طفولتي الممزوجة بصوت النحيب وصور الجنازات، أريد لابني بيتا في عمارة ككل الأطفال، أو حتى سكنا ريفيا، أريد له مساحة خضراء للعب، لأنه يحز في نفسي أن أراه يلعب وسط القبور». وهنا يتوقف محدثنا وقد امتزجت نبرة صوته بالبكاء ليواصل محاولا التغلب على دمعة خانته «حتى الحيوانات ما خلقت لتحيا وسط القبور فكيف للبشر أن يعيشوا بينها؟ صدّقوني صعب جدا رؤية فلذة كبدي يلهو ويجري وسط القبور ويتهجأ ويقرأ أسماء الموتى». أعراس وأفراح بالمقبرة بعد مضي ساعات من التغلغل وسط القبور أو بالأحرى بيوت العائلات المقيمة في عالم الموت، تبادر إلى ذهني سؤال: «كيف يحيي هؤلاء الناس أفراحهم في عالم الصمت الرهيب؟». وقال رب عائلة تحسس من ذكر هويته في موضوع كهذا على حد قوله «خلال إقامة الولائم نحترم الأموات، فقبل شهر رمضان أقمنا حفل زفاف أخي في قاعة حفلات، وحتى لو رغب أحدهم في وضع الموسيقى، فمسموح له ذلك على أن يخفض صوت الموسيقى لدرجة لا يمكن سماعها إلا من قبل المتواجدين داخل البيت». أما إحدى الفتيات التي بدت سيدة بيت ممتازة، فقد دخلنا بيتها عندما كانت غارقة في تحضير وجبة الإفطار كانت تحضر «الكسرة» في بيت عائلتها الذي يعدّ زنزانة بتلك النافذة الوحيدة التي لا تكفي لإطلالة وجه. حدثتنا الشابة عن ابن عمها من تبسة الذي خطبها حيث ستزف إليه، سألناها ماذا عن العرس؟ فردت بلا تردد وبصراحة أذهلتنا «سأقيم فرحي هنا» سألناها: وسط هذه القبور؟ فردت: «نعم، فأنا مضطرة لأنني من عائلة فقيرة ولا أقدر على دفع تكاليف قاعة الأفراح، حلمت طوال عمري بليلة زفافي وموكبي، فلا يمكن أن أغادر بيت أبي دون إطلاق البوق والزغاريد، أريد عرسا ككل البنات في سني، فأنا بنت الثانية والعشرين عاما قضيتها كاملة وسط الأموات، لا يمكنني أن أغتال أيضا أسعد وأهم لحظة في حياتي، الله غفور رحيم وهو أعلم بالمتسبب في هذا الوضع، فالسلطات أصرت على إبقائنا هنا، وأنا مصرة على عيش حياتي ككل البنات». سلطات حاضرة وقت الانتخابات فقط يقول ممثل سكان المقبرة سليمان بن زين، الذي تمكن من الظفر بسكن اجتماعي في حي بوخضرة بعد «سنوات من الاحتجاجات»، إنه ترعرع وسط عالم صامت خال من الأحياء شأنه شأن إخوته وجيرانه، مشيرا إلى أن المعاناة التي عاشوها أضحت تنغص عليهم حياتهم اليومية. ورغم استفادة 12 عائلة مؤخرا من برنامج الترحيل يقول المتحدث، إلا أن خمس عائلات لا تزال تكابد ويلات الجحيم، فمصالح البلدية والسلطات المحلية والولائية وعدت تلك العائلات في العديد من المرات ولكن دون جدوى مشيرا الى زيارة العمل التي قادت والي عنابة محمد الغازي إلى المقبرة يوم 19 جانفي 2009 حينما دعا هؤلاء المواطنين للتصويت بكثافة في الانتخابات الرئاسية والقيام بواجبهم الانتخابي وترك انشغالهم الى السلطات التي ستتخذ كافة الإجراءات المستعجلة لترحيلهم الى سكنات لائقة لكن لا شيء من هذا تحقق لهؤلاء السكان على حد قوله. وتابع سليمان قائلا إن العائلات التي تقطن بالأحياء الفوضوية التي تحمل التسمية نفسها (سيدي حرب1، 2، 3 و4) كانت تجاورهم عن بعد عشرات الأمتار وتعيش ظروفا مغايرة لظروفهم، غير أنه تم تخصيص برامج سكنية لهم وترحيل البعض منهم. من جهتهم أكد السكان أنهم يقيمون بسيدي حرب منذ الاستقلال، بمعني أنهم السكان الأصليون للمنطقة وبالتالي الأحقية في الاستفادة من السكنات الاجتماعية تعود لهم قبل غيرهم من السكان الذي نزحوا من مناطق وبلديات وولايات عدة وأقاموا بنايات فوضوية مكنتهم من الحصول على سكن اجتماعي. وأوضحوا أن كل الشكاوى التي قدموها إلى مختلف المصالح الإدارية كانت أجوبتها سلبية وأخرى مجرد وعود بالترحيل لا أكثر. وضع، فالسلطات أصرت على إبقائنا هنا، وأنا مصرة على عيش حياتي ككل البنات». سألنا أحد الشباب الذي تابع تفاصيل جولتنا الى المقبرة عمّا يذكره من مرحلة الطفولة في مقبرة كانت الحي الذي يقيم ويلعب به فرد يقول: «لم أر شيئا من هذه الدنيا، فتحت عيني على القبور التي لا أزال أراها يوميا لحد اليوم، فمسار حياتنا من الظلمة إلى الظلمة». وأضاف أحد السكان بالمقبرة: «تداول الولاة على رأس ولاية عنابة وكلهم أعطونا «ورقة الصبر» لكن لا أحد قدّم حلاّ فعليا لهذه المأساة التي توارثها عنا أطفالنا منذ جاؤوا إلى عالم الأموات بدل عالم الأحياء». بأسف وحسرة قال المتحدث: «يتحرج معارفنا ويخجلون من زيارتنا، لا أحد يتفقدنا أو يزورنا، ونحن نكتفي بزيارة بعضنا طالما لا أحد يحل هنا من خارج المقبرة»، ويستدرك المواطن متفهما موقف الأقارب والأصدقاء الذين يمتنعون عن زيارتهم: «معهم حق أن يستحوا من زيارتنا، فماذا عساهم أن يخبروا سائق السيارة أو أصحابهم أو أزواجهم أو زوجاتهم؟ هل يقولون لهم «سأزور أخي أو أختي أو ابن أخي في المقبرة؟». طفولة في عالم القبور حينما أخبرنا السكان أنه لا يمكنهم التحكم في حركة أطفالهم الصغار، أوحراستهم للحد الذي يجعلهم يتفطنون لهم حين تسقط من أحدهم قطعة خبز فيلتقطها من جديد لتناولها، تساءلنا كيف لهم أن يحرسوهم ويمنعوهم من العبث بالقبور والمساس بقداستها ولو عن غير قصد. يقول سليمان متحدثا عن معاناة الأولياء في تربية أبنائهم وسط هذه الأجواء: «نحن نستحي بمجرد المرور بين القبور واضعين العطر وأنيقين للتوجه للعمل أو لحضور مناسبة ما، رغم أننا مضطرون لأن ذلك طريقنا الوحيد للخروج من البيت إلى العالم الخارجي، أما الأطفال فصعب ضبط تحركاتهم». ويقول آخر: «لا يمكنني ملازمة ابني لأضمن عدم إلحاقه الأذى بأي من القبور التي تم تكسير الكثير منها، أكيد أطفالنا وخلال لعبهم يخربون بعضها عن غير قصد، رغم تنبيهنا إياهم بشدة بعدم العبث بها، لكنّها البراءة، ومن يمكنه التحكم في اندفاعها الفطري؟». يقول الأطفال الذين تحدثنا إليهم: «نحن نلعب هنا لأننا هنا نسكن»، وقاطعني آخر يحمل قطعة خبز ويقف عند رأس أحد القبور: «بأفلام الكارتون يوجد الغابات والملاعب والحدائق، ولا نملك نحن إلا القبور». تقول طفلة أخرى كانت تجري ضاحكة بين القبور تدوس على بعضها: «أنا أطعم دميتي وأمشط لها شعرها ثم أضعها لتنام على سريرها هنا» مشيرة إلى أحد القبور. حينما تمتزج الحياة بالموت هكذا تمتزج مصطلحات الموت والحياة في قاموس بعض الجزائريين خاصة الصغار مواطني المستقبل، والمواطن الصغير في دول العالم هو المشروع الأول والأهم الذي تركز عليه كل السلطات جهودها وخططها لأنه القادر على إنجاح أو إفشال أي خطط أخرى تستهدف التطوير والبناء أو التشييد في البلاد، لكن هذا المواطن في بلادنا تهدر حياته وأعز لحظاته بين القبور. قال جبران ذات يوم: «الوردة آخر عطية من حي لميت»، وفي مقبرة سيدي حرب تسقط حكمة جبران في الماء، فهنا الميت في قبره يلقى التنغيص والفوضى ويداس بالأقدام من قبل الحي الذي فرضت عليه الحياة في حضن الأموات. وقال سليمان «أخي الأكبر تعود على الحياة وسط القبور، في الحقيقة جميعنا اعتدنا على هذه الحياة وإن كانت مقرفة وغير طبيعية، إلا أنها علمتنا أشياء كثيرة، فلولاها ما تعلمنا التعامل بصبر مع هؤلاء الأحياء العصبيين والعدائيين، لكن الله غالب لا يمكننا الاستمرار هنا، لأن الحياة لا تصلح داخل مقبرة». اختتمت جولة «البلاد» في عالم «الأحياء الأموات» لكن حياتة هؤلاء تتواصل وسط القبور إلى حد كتابة هذه الأسطر.. في انتظار دخول السلطات «مجال التغطية» والكف عن الاتكال على الله بطريقة سلبية في تدبير كل شؤون العباد، حتى في المهام التي عينوا أو ترشحوا وانتخبوا من قبل المواطن لأدائها.