في إحدى المقابر الجزائرية يهمس مهند لنور "حبيبتي" ويعانق يحيى لميس ويطلبها للزواج.في مكان شعاره "هنا تنتهي الحياة" يعتقده الجميع مكانا خصص للأموات، تتواصل الحياة، ومن إحدى المقابر تنطلق الزغاريد وتقام الأفراح ويلعب الأطفال ويجرون بين القبور، ويتشاجر الناس ويتصالحون، يتابعون برامج التلفزيون ويستمعون للأغاني ويرقصون... ليس هذا سيناريو فيلم وإنما واقع مقبرة "سيدي حرب" بعنابة التي يتجاور فيها الأحياء والأموات. عندما تدخل مقبرة "سيدي حرب"، التابعة لبلدية عنابة، لا يلفت انتباهك أي شيء مثير فجميع المقابر في كل بلدان العالم لا تحتوي إلا على القبور وهو حال هذه المقبرة، لكن عند مدخلها فقط، فبمجرد أن تتوغل بضع أمتار حتى تتراءى لك السكنات المقامة بين القبور ومعها يرتسم بوضوح تشابك عالمي الأحياء والأموات. نساء في أبهى حلة وقمة الأناقة يسرن بين القبور وأطفال يطبلون ويغنون، مشهد غريب لكنه لا يثير الاستغراب داخل هذه المقبرة التي تحدث بها أمور كثيرة. رحلتنا امتدت يوما كاملا داخل مقبرة "سيدي حرب" حيث استأنس الأحياء بالأموات لدرجة ما عادوا يحرجون ليقيموا أفراحهم بمكان كان الصمت الرهيب سمته منذ الأزل. ها هي "وهيبة" تصرّ على خروجها من المقبرة عروسا على متن سيارة مزينة بالورود ضمن موكب زفاف يطلق الأبواق من داخل المقبرة ويسير بين القبور إلى أن يغادرها. فهل يشارك الأموات "وهيبة" فرحتها، أم أن الفرحة والأبواق تنغص عليهم رقدتهم الأبدية؟ ماء الموتى يقول لزهر بن زين، 34 عاما: "لقد ولدنا هنا في هذه المقبرة، شتاءً يفيض ماء الموتى علينا". استفسرنا عما يقصد بماء الموتى فرد: "حينما تنهمر الأمطار بكثرة يتسرب من التراب ماء ودم الموتى المدفونين حديثا ويجري مع مياه الأمطار التي تتسرب إلى بيوتنا، خاصّة وأن هناك بيوتا لا يفصلها سوى نصف متر عن القبور". وحسبلزهر.ف "فيضان ماء الموتى" تسبب في أمراض خطيرة "هناك نساء أصبن بالجرب بسبب شحوم الموتى حسب تفسيرات طبية". يقول الأخ الأكبر للزهر بن زين، ويبلغ من العمر 38 عاما: "توفي والدنا عام 1982 هنا بسبب رائحة الموتى"، ويعود محدثنا لسنوات خلت فيقول: "لما أتينا للإقامة هنا كان المكان خالٍ من البشر الأحياء، ومرّت السنين وولدت أنا ومن بعدي إخوتي، ونحن نكبر نمت معنا المنازل على محيط المقبرة الذي تحول إلى حي سكني، كل الناس حصلوا على سكنات إلا نحن ظللنا محاصرين بالقبور، ومن خارج المقبرة حاصرتنا السكنات دون أن تتذكرنا السلطات". يطل بيت "عمار بوخالفة" من الجهة الأمامية على القبور ومن الجهة الخلفية على واد يفيض بالقاذورات التي يتطاير حولها الناموس والحشرات، ولتفاديها يضطر "عمار" لغلق النافذة الوحيدة بالبيت، ولكن المشكل كيف له أن يتفادى درجة الحرارة المرتفعة في بيت غير مكيف، وهو الذي بالكاد استطاع الحصول على بعض الحجرات الإسمنتية مع الرمل لبناء مربع يلمّ فيه شمل أسرته. تحدث أخو لزهر المتزوج من معلمة قائلا: "زوجتي –وهي أستادة- لحد الآن لم تتقبل الوضع، تتحين وقت المغادرة على أحر من الجمر، لكن ما باليد حيلة". ويضيف قائلا: "ولّى وقت طفولتي وأحلامي، وكل آمالي اليوم معلقة على طفلي الصغير، لا أريده أن يعيش طفولة مستنسخة عن طفولتي الممزوجة بصوت النحيب وصور الجنازات، أريد لابني بيتا في عمارة ككل الأطفال، أو حتى سكنا ريفيا، أريد له مساحة خضراء للعب، لأنه يحز في نفسي أن أراه يلعب وسط القبور". وهنا يتوقف محدثنا وقد امتزجت نبرة صوته بالبكاء ليواصل محاولا التغلب على دمعة خانته "حتى الحيوانات ما خلقت لتحيا وسط القبور فكيف للبشر أن يعيشوا بينها؟ صدّقوني صعب جدا رؤية فلذة كبدي يلهو ويجري وسط القبور ويتهجأ ويقرأ أسماء الموتى". عرس بالمقبرة بعد مضي ساعات من التغلغل وسط القبور أو بالأحرى بيوت العائلات المقيمة في عالم الموت، تبادر إلى ذهني سؤال: "كيف يحيي هؤلاء الناس أفراحهم في عالم الصمت الرهيب؟". قال بن زين، 38 عاما: "خلال إقامة الولائم نحترم الأموات، فمنذ شهر أقمنا حفل زفاف أخي في قاعة حفلات، وحتى لو رغب أحدهم في وضع الموسيقى، فمسموح له ذلك على أن يخفض صوت الموسيقى لدرجة لا يمكن سماعها إلا من قبل المتواجدين داخل البيت". أما "وهيبة" التي بدت سيدة بيت ممتازة، فقد دخلنا بيتها عندما كانت تطهو العشاء في لحظة الغروب، كانت تحضر "الكسرة" في بيت يعدّ زنزانة بتلك النافذة الوحيدة التي لا تكفي لإطلالة وجه. حدثتنا "وهيبة" عن ابن عمها من تبسة الذي خطبها حيث ستزف إليه، سألناها ماذا عن العرس فردت بلا تردد وبصراحة أذهلتنا "سأقيم فرحي هنا" سألناها: وسط هذه القبور؟ فردت: "نعم، فأنا مضطرة لأنني من عائلة فقيرة ولا أقدر على دفع تكاليف قاعة الأفراح، حلمت طوال عمري بليلة زفافي وموكبي، فلا يمكن أن أغادر بيت أبي دون إطلاق البوق والزغاريد، أريد عرسا ككل البنات في سني، فأنا بنت الثانية والعشرين عاما قضيتها كاملة وسط الأموات، لا يمكنني أن أغتال أيضا أسعد وأهم لحظة في حياتي، الله غفور رحيم وهو أعلم بالمتسبب في هذا الوضع، فالسلطات أصرت على إبقائنا هنا، وأنا مصرة على عيش حياتي ككل البنات". السلطات خارج مجال التغطية "القبور مكسرة والدنيا هاملة" هي العبارة التي لخّص بها لزهر الوضع داخل المقبرة وموقف السلطات منه، وأردف يقول: "السلطات غير مهتمة لأمرنا، يتحدث المسؤولون عنا في الإذاعة والصحف لكنهم لم ينفذوا يوما وعودهم التي أطلقوها أمام وسائل الإعلام". اقتحمت عائلة بن زين عالم الموت والصمت منذ أزيد من ستين عاما، دون أن تتذكر يوما السلطات هذه الحزمة من المواطنين المرمية وسط الأموات لتمنحهم سكنا يحفظ كرامتهم ويعيد تسجيلهم بعالم الأحياء، تقول العجوز مريم: "نحن هنا منذ استقلت الجزائر، ابني البكر دخلت به المقبرة وهو،رضيع صغير، هو،اليوم في سن الأجداد". سألنا لزهر بن زين، 34 عاما، عمّا يذكره من مرحلة الطفولة في مقبرة كانت الحي الذي يقيم ويلعب به فرد يقول: "لم أر شيئا من هذه الدنيا، فتحت عيني على القبور التي لا أزال أراها يوميا لحد اليوم، فمسار حياتنا من الظلمة إلى الظلمة". وأضاف أحد السكان الآخرين بالمقبرة: "تداول الولاة على رأس عنابة وكلهم أعطونا "ورقة الصبر" لكن لا أحد قدّم حلاّ فعليا نهائيا لهذه المأساة التي توارثها عنا أطفالنا مذ جاءوا لعالم الأموات بدل عالم الأحياء". بأسف وحسرة قال لزهر: "يحرج معارفنا ويخجلوا من زيارتنا، لا أحد يتفقدنا أو يزورنا، ونحن نكتفي بزيارة بعضنا طالما لا أحد يحل هنا من خارج المقبرة"، ويستدرك لزهر متفهما موقف الأقارب والأصدقاء الذين يمتنعون عن زيارتهم: "معهم حق أن يستحوا من زيارتنا، فماذا عساهم يخبروا سائق السيارة وأصحابهم وأزواجهم أو زوجاتهم؟ هل يقولون لهم "سأزور أخي أو أختي أو ابن أخي بالمقبرة؟". البراءة.. وقداسة الموتى حينما أخبرنا السكان أنه لا يمكنهم التحكم في حركة أطفالهم الصغار، أو حراستهم للحد الذي يجعلهم يتفطنون لهم حين تسقط من أحدهم قطعة خبز فيلتقطها من جديد لتناولها، تساءلنا كيف لهم أن يحرسوهم ويمنعوهم من العبث بالقبور والمساس بقداستها ولو عن غير قصد. يقول لزهر: "نحن نستحي بمجرد المرور بين القبور واضعين العطر وأنيقين للتوجه للعمل أو لحضور مناسبة ما، رغم أننا مضطرون لأن ذلك طريقنا الوحيد للخروج من البيت إلى العالم الخارجي، أما الأطفال فصعب ضبط حركتهم". ويقول عمار بوخالفة: "لا يمكنني ملازمة ابني لأضمن عدم إلحاقه الأذى بأي من القبور التي تم تكسير الكثير منها، أكيد أطفالنا وخلال لعبهم يخربون بعضها عن غير قصد، رغم تنبيهنا لهم بشدة لعدم العبث بها، لكنّها البراءة، ومن يمكنه التحكم في اندفاعها الفطري؟". يقول الأطفال الذين تحدثنا إليهم: "نحن نلعب هنا لأننا هنا نسكن"، وقاطعني آخر يحمل قطعة خبز ويقف عند رأس أحد القبور: "بأفلام الكارتون يوجد الغابات والملاعب والحدائق، ولا نملك نحن إلا القبور". تقول طفلة أخرى كانت تجري ضاحكة بين القبور تدوس على بعضها: "أنا أطعم دميتي وأمشط لها شعرها ثم أضعها لتنام على سريرها هنا" وتشير لأحد القبور. المقبرة للأموات لا للأحياء هكذا تمتزج مصطلحات الموت والحياة في قاموس بعض الجزائريين خاصة الصغار، مواطنو المستقبل، والمواطن الصغير في دول العالم هو المشروع الأول والأهم الذي تركز عليه كل السلطات جهودها وخططها لأنه القادر على إنجاح أو إفشال أي خطط أخرى تستهدف التطوير والبناء أو التشييد في البلاد، لكن هذا المواطن في بلادنا تهدر حياته وأعز لحظاته بين القبور. قال جبران ذات يوم: "الوردة آخر عطية من حي لميت"، وفي مقبرة سيدي حرب تسقط حكمة جبران في الماء، فهنا الميت في قبره يلقى التنغيص والفوضى ويداس بالأقدام من قبل الحي الذي فرضت عليه الحياة في حضن الأموات ة. وقال لزهر بن زين: "أخي الأكبر تعود على الحياة وسط القبور، في الحقيقة جميعنا اعتدنا على هذه الحياة وإن كانت مقرفة وغير طبيعية، إلا أنها علمتنا أشياء كثيرة، فلولاها ما تعلمنا التعامل بصبر مع هؤلاء الأحياء العصبيين والعدائيين، لكن الله غالب لا يمكننا الاستمرار هنا، لأن الحياة لا تصلح داخل مقبرة". انتهت كلمة لزهر لجريدة "الأمة العربية" لكن حياته تتواصل وسط القبور إلى حد كتابة هذه الأسطر.. في انتظار دخول السلطات "مجال التغطية" والكف عن الاتكال على الله –بطريقة سلبية- في تدبير كل شؤون العباد، حتى في المهام التي عينوا أو ترشحوا وانتخبوا من قبل المواطن لأدائها.