"الفتنة نائمة فلعن الله من أيقظها".. هي مقولة مشهورة ومعروفة لدى كل المثقفين، وحتى وإن لم تكن موجودة بلفظها فهي موجودة لديهم بمعناها، ومن مثل معناها "السلطان ظل الله في أرضه"، وليست هذه الكلمة مجرد فسحة جمالية قالها الأولون، وإنما هي لبّ حكمة عظيمة تخفي وراءها قاعدة تقول إن أصل المساهمة الاجتماعية هي البناء والإصلاح وليس الهدم لإعادة تشكيل الأساس، تماما كما يرقّع المسلم صلاته بسجود السهو وليس بالخروج من الصلاة وإعادتها، وإذا كانت هذه الأخيرة قاعدة فقهية فإن القاعدة الأدبية لا تختلف عنها كثيرا، ولنتأمل قليلا بعض رصيدنا الشعري القديم، مما يعرف بشعر البلاط الذي لاقى ويلات قدح نقدية كثيرة، وحاول البعض وصفه بالكاذب لأنه يذكر في الملوك ما ليس فيهم من الخصال الحميدة، ولعل بعض صحة هذا لا يمنع من مراجعة الموقف لو أننا تأملنا بعض الشيء الهدف البعيد من قضية مدح السلاطين والملوك بما ليس فيهم. نعم، لقد مدح الأولون الملوك بخصال ليست فيهم، ربما طمعا عند البعض، لكن الأكيد أن شاعرا يعي الوجود مثل «المتنبي» أو «أبو تمام» لا يمكن أن يبلغ به الغُفْل درجة طأطأة الرأس والالتفات إلى ما ترمي به أيدي الملوك من النعماء. ليس عجبا أن نقول إن الشاعر الذي مدح الملك كان يوجهه وينتقده، آخذا بيده برفق يليق بمقامه، فيصور له أفضل السلوك وأروع المواقف، ويبني له صرح الشجاعة والعدالة التي تتحول إلى نموذج مِخيالي يظل الملك طامعا في الارتقاء إلى منزلته مادام الجميع قد تعارف على قدَر تلك الأوصاف الحميدة، ولا شك أن نصيحة بعض العلماء المسلمين لكثير من الحكام في فترات الفتن وحتى فترات الأمن والرخاء لم تكن جهارا نهارا أمام الملأ، وإذا كانت لأدوات علماء الدين مهابتها عند ولاة الأمور بما تمنحها من شرعية، فإن نصيحة غيرهم بوصفها وجها من أوجه الإصلاح ستكون مختلفة في أسلوبها وأدواتها، وليس الأدب ببعيد عن ذلك، وما أكثر مجالات وأدوات النصح لديه، لذلك لا مانع من أن يكون المدح والثناء أحد صورها، وما أعظمها من نصيحة لو أنها كانت تغنٍّ بأمجاد وطن تسبح على أمواج لغة تفتن المسامع، كما فعل «أبو تمام» في "فتح عمورية"، حين أجاد وصفا وأوجز بلاغة وفتن معنى، مشيدا بالإنجازات التي ولاشك هي صنيع قائدها، ولعاقل أن يتصور شاعرا هجاءً سليط اللسان؛ كيف يمكن أن يتلقاه ملك أو حاكم. طبيعي أنه سيعيش في المنافي والفيافي، ليضيّع عمره متشردا ويُظل بقوله أقواما وربما يكون تهوّره سببا في ذلّهم، ومثل هذا كل كلام خطابي يمتطي جواد المغامرة مروّعا بأرواح إخوانه، تلك هي مآخذ الكلمة البليغة حين تكون سلاحا يسيء الكاتب استعماله، ولعل «أفلاطون» لم يخطأ حين طالب بمحاكمة الشعراء بوصفهم "أمراء الكلام" حين "يصورون الحق في صورة الباطل والباطل في صورة الحق"، ليكون خير داع من "أمراء الكلام" إلى ترشيد الكلمة الجميلة لإفراغها في مصب البناء الحضاري.