يبرز «السماوي» في بعض خواطره قدرته على تعمية القارئ عما تفضي إليه الخاطرة، فهو يفاجئنا دون توقع بنتيجة يرتاح لها فؤاده: أكلُّ هذه السنين العجاف.. الهجير.. الحرائق.. معسكرات اللجوء... المنافي.. وقلبي لم يزلْ أعمقَ خضرة من كلّ بساتين الدنيا؟!! هكذا.. يجهد «السماوي» أن يطيل المقدمات في نصوصه ليشوّقنا، فيمضي بعيدا في الوصف والتخييل لنمضي معه في رحلة الفكر والتأمل، ثم يكون الختام على غير ما نتوقع: كلٌّ يذهب في حال سبيله: النهرُ نحو البحر.. السنابل نحو التنّور.. العصفور نحو العشّ.. الآفك نحو اللعنة.. القلم نحو الورقة.. الصلوات نحو الله.. الوطن نحو الصيارفة.. وقلبي نحوك! ولا يخفى ما تتضمنه كثير من نصوصه النثرية هذه من سخرية مبطنة، كما في قوله عن ذهاب "الوطن نحو الصيارفة"، فالعبارة تثير في النفس الحقد على المحتل واللصوص الذين نجحوا في إقامة إمبراطورياتهم المالية على حساب جياع الشعب العراقي ومرضاه ومعوزيه ومشرديه. يفصح «السماوي» عن التفكير الحدسي الذي يمارسه الشاعر، فهو أكثر أنسنة من فكر العالم وأبعد أثرا في حياة البشر من الكشوف العلمية التي لم تنجح في تخفيف معاناة الإنسان: أعرف تماما أين يرقد "نيوتن" وأين كان الحقلُ لكن: في أي تنور انتهت الشجرة؟ وفي أية معدة استقرت التفاحة؟ العلماء يعنون بوصف الظاهرة وتقنينها، أما الشعراء فينصرف تفكيرهم إلى الإنسان وما يهمه ويحرره من جلاديه ومُستغِليه.. «السماوي» منشغل بهموم الإنسان في عصر لا إنساني.. عصر لا مكان فيه للضعيف في غابة الأقوياء.. إنه منحاز للجماهير.. الجماهير هي الأجدر بالحياة من لصوص السلطات والقادة النرجسيين.. وهذا ما يقوله نص «السماوي» عن العبيد والكادحين الذين شيّدوا الأهرامات وسور الصين وجنائن بابل، فإذا بالقادة النرجسيين يسرقون إنجازاتهم: أعرفُ أنَّ العبيد هم الذين شيّدوا: الأهرام.. سور الصين.. جنائن بابل.. ولكن: أين ذَهَب عرقُ جباههم؟ وصراخهم تحت لسع السياط أين استقر؟ هكذا يرفع «السماوي» من شأن التفكير الإنساني الشعري مقابل تسفيه الفكر الذي لم يلتفت إلى عذابات البشرية.. بل ويسفه العلم الذي سخّر كشوفه للحروب والمنازعات المدمرة، ف«السماوي» يكره الحرب ويرفضها، كما يكره ما يسمى في عصرنا إرهابا.. يكره الإرهاب حتى لو كان سيؤدي إلى جرح سعفة من سعف نخلة فراتية أو يصيب بالذعر عصفورا من عصافير حدائق دجلة لكنه يقرُّ به إذا كان سبيلا لنيل الحرية من ديكتاتور أو محتل، ويؤدي إلى نيل الشعوب حقوقها المغتصبة: إن كان يستأصل محتلا وما يتركُ في مستنقع السلطة من أذناب.. إنْ كان يستأصل من بستاننا الضباع والجراد.. والذئاب وسارقي قوت الجماهير وتجّار الشعارات التي شوّهت المحراب.. إنْ كان يجتث ُّ الدراويش المفخخين بالحقد.. وساسة الدهاليز الذين يعرضون بيتنا للبيع خلف البابْ فإنني: أبارك الإرهابْ أو: إرتباك عاشقين أفزعهما انفجارُ قنبلة أو صفارة إنذار.. سقوط عصفور بشظية.. أو جرح سعفة نخلة: أسباب وجيهة لرفضي الحروب ما لم تكنْ ذودا عن وطن وكنسا لوحل احتلال! تشكل ثنائية الوطن والمنفى الخلفية الفكرية لمجموعة "مسبحة من خرز الكلمات"، فالوطن يتجلى في صورة معشوقة يمنحها الشاعر حبا يصل حدّ الذوبان فيها والإتحاد بها: الوطن جسد الحب روح بعقد قِرانهما يتشكّل قوس قزح المواطنة ويُقام الفردوس الأرضي .............. ................. الحب والوطن توأمان سياميان.. متشابهان باستثناء: أنّ للوطن حدودا ولا حدود للحب! الحب جوهر حياتنا الإنسانية، يكبر في كل لحظة.. وبالحب يفتح الإنسان قفل باب المستحيل: كلُّ ضغائن العالم أضعفُ من أنْ تهزم قلبين متحابّين ......... ................. نحن كالأسماك يا حبيبتي: نموتُ إذا لم نغرقْ بحب الوطن.. وكالحب: تصدأ مرايانا إنْ لم نُزِل عنها ضبابَ الكراهية لنلاحظ دعاءه المدهش: ذات دعاء تضرّعتْ روحي: اللهمَّ أعطِني قلبا لا يعرف الحب.. واغفرْ لي جنوحي لأن القلب الذي لا يعرف الحب لن يعرف العبادة! لكن وطنه ممتحنٌ بالبلاء.. ممتحن بالطواغيت حينا وبالمحتلين واللصوص حينا.. يُسرق نفطه وتُهدر ثرواته، وليس للشعب منه نصيب.. وليس للشاعر سوى فانوس خبا زيته: أملك من الوطن: إسمه في جواز سفري المزوّر.. لستُ حُرّا فأطلّ من الشرفات.. ولا عبداً فأحطم قيودي.. أنا العبد الحرّ والحرّ العبد.. محكوم بانتظار "غودو" جديد لم تلده أمّه بعد! ...... ........ كلّ ما أملك: قلبٌ في مقتبل العشق وفانوس نفطيّ أنتظر موعد بطاقة التموين لأسرجه! بماذا يُغويك عاشقٌ لا يملك من بحر نفط الوطن لترا واحدا لفانوسه في الوطن المعروض للإيجار؟ تماهي الشاعر بوطنه هو الذي جعله يقول: حين عذبني وطني قتلته ودفنته في قلبي! والشاعر معلق بين الأمل والألم في منفاه، تصبو عينه إلى وطن ينقذه من الارتهان لوجع الغربة: إثنان لا ينضبان: الألم.. والأمل الأول بحرٌ أحمق والثاني طوق نجاة.. لن أخشى حماقاتي مادمت ِ طوق النجاة يا حبيبة من ماء وتراب وكثيرا ما يعمد «السماوي» إلى التشخيص في إطار جدلية الأضداد، متأثرا بأسلوب الشاعر أبي تمام في ترسيخ هذه الجدلية من خلال التقابل المعنوي الذي يجلو عبر تضاد حقائق خفية يتكلم فيها الجماد: أيها الحزن لا تحزن.. أدرك أنك ستشعر باليُتم بعدي.. لن أتخلى عنك أنت وحدك مَنْ أخلص لي فكنت مُلاصقي كثيابي حين تخلى عني الفرح في وطن يأخذ شكل التابوت! الخاطرة / القصيدة عند الشاعر «يحيى السماوي» تعكس عزف أوتار قلبه وآلامه وآماله التي تلتقي في مواجعها آلام أبناء شعبه، ونجد في كثير من مضامين هذه النصوص النثرية في شعره وقد أخذت شكلا جديدا.. فالنخلة في مجموعته هذه ترمز إلى أرض وطنه، والشاعر يحنو عليها حتى من جرح عابر. وتتسع الخاطرة لتغدو قصيدة لفكر الشاعر، كالحبّة تنتشي وتمرع فتنفلق لتغدو شجرة وارفة الأغصان بموهبة التخيّل والتصوير. يريد منا الشاعر «السماوي» أن نفكر بقلوبنا ونقرأ حقائق الوجود من كتاب الحياة وأن نستمد قناعاتنا من آهات المنكوبين ومن عرق جباه الكادحين والمظلومين، فيظل للشعر أو النثر الفني موقع الريادة في بناء مستقبل البشرية.