ويتبدى الأمر أيضاً في موقف الصين من استقبال طالبي اللجوء من كوريا الشمالية إذ يتمثل موقف الحكومة الصينية في هذا الصدد في رفض دخول طالبي اللجوء الكوريين الشماليين، إذ عمدّت الصين إلى تشديد الإجراءات على الحدود رغبة منها في الحفاظ على العلاقات مع جارتها كوريا الشمالية، مستندة في ذلك إلى معاهدة تُعلن أنها وقعتها سراً مع «بيونج يانج» في هذا الصدد، بحيث ترفض الصين توفير الحماية لطالبي اللجوء من كوريا الشمالية ومن يقبض عليه وهو يعبر الحدود يُعاد مرة أخرى إلى بلاده، ووفقاً للقانون الكوري الشمالي يخضع هؤلاء العائدون للعقوبة، فوفقاً للقانون الكوري الشمالي، فإن هذا يُعد جريمة كبرى ويخضع طالبو اللجوء العائدون لعقوبة تتمثل في التعذيب أو العمل الجبري وقد تصل إلى الإعدام، بالإضافة إلى ما سبق تلجأ الدول لاستراتيجيات أخرى منها المساهمة في تقديم منح أو مساعدات مالية للاجئين وطالبي اللجوء في مقابل عدم استقبالهم على أراضيها، ويُعد موقف اليابان من الأمثلة التي يمكن الإشارة إليها في هذا الصدد إذ يقتصر دورها في المساهمة في حل مشكلات اللاجئين من خلال تقديم المساعدات المالية، وفى حالات أخرى تتبنى بعض الدول مفهوم دولة ثالثة آمنة، إذ لا تقوم بطرد هؤلاء القادمين من طالبي اللجوء، لكنها تقبل استقبالهم مؤقتاً حتى يتسنى لهم تدبير أمورهم والانتقال إلى دولة ثالثة، وتسمح لهم خلال تواجدهم بالاتصال بدولة ثالثة تمهيدا للانتقال إليها، ومن هذا المنطلق فإن بروز مفهوم الأمن الإنساني في مجال الدراسات الأكاديمية في فترة ما بعد الحرب الباردة جاء لتجاوز التركيز على الأطر القانونية كأساس للتعامل مع مشكلات غياب أمن الأفراد للتركيز على الإصلاح المؤسسي، ففي ظل وجود مجموعة كبيرة من الأطر القانونية لتنظيم والتعامل مع كافة أبعاد قضايا حقوق الأفراد والتزامات الدول تجاه الأفراد، ومع وجود ميل من الدول للتركيز على الاعتبارات السياسية دون الإنسانية، فإن التعامل الأنسب مع حالات غياب الأمن الإنساني يكمن في الإصلاح المؤسسي من خلال إصلاح المؤسسات التقليدية المعنية بتحقيق الأمن لتصبح مهيأة للتعامل مع مشكلات ومصادر تهديد أمن الأفراد، وإنشاء مؤسسات جديدة كفيلة بهذا الأمر، وكذلك البحث في آليات تنفيذ ما هو منصوص عليه من التزامات قانونية متعلقة بحقوق الأفراد الأساسية، وهذا هو جوهر مفهوم الأمن الإنساني. وفى واقع الأمر إن بروز مفهوم لم يأت كنتيجة إلى ميل الدول إلى عدم الاكتراث بالأطر القانونية فحسب، بل إن بروز المفهوم جاء أيضا كنتيجة لبعض التحولات التي شهدها المجتمع الدولي في فترة ما بعد الحرب الباردة والتي كشفت عن عمق وخطورة مصادر تهديد أمن الأفراد، وكان من أبرز تلك التطورات التغير في طبيعة الصراعات، إذ صاحب نهاية الحرب الباردة تغير في طبيعة الصراعات التي يشهدها العالم، إذ أصبحت الصراعات تدور بين الأفراد داخل حدود الدولة القومية وليس بين الدول، فتشير الإحصاءات إلى أنه خلال الفترة من عام 1990 وحتى عام 2001 شهد العالم 57 صراعاً رئيساً داخل 45 دولة في مختلف أنحاء العالم، كانت حكومة الدولة أحد أطراف الصراع، دارت النسبة الأكبر من تلك الصراعات خلال الفترة من عام 1990 وحتى عام 1993 كان أكثرها في عام 1992 حيث بلغ عدد الصراعات الداخلية التي شهدها العالم 55 صراعاً، والنسبة الأقل منها كان ما بين عامي 1996-1998، ففي عام 1998 بلغ عدد الصراعات الداخلية التي شهدها العالم 36 صراعاً، وفى عام 2001 كان هناك 24 صراعاً داخلياً نصفهم مستمر بحد أدنى ثمان سنوات، ومن بين ال20 دولة الأقل في دليل التنمية البشرية لعام 2002 توجد 16 دولة منها تعانى من صراعات داخلية، فالسمة الأساسية للصراعات هي أنها أصبحت تدور داخل حدود الدولة القومية والنسبة الأكبر من ضحايا تلك الصراعات من المدنيين وليسوا عسكريين، خاصة أنه في بعض الأحيان تكون السيطرة على المدنيين أحد أهداف الجماعات المتصارعة، وتتسم تلك الأنماط من الصراعات بالانتهاك الشديد لحقوق الأفراد، إذ يُقدر أنه خلال عقد التسعينيات من القرن ال20 لقي 5 مليون شخص حتفهم من جراء الصراعات الداخلية كما يترتب عليها واحدة من أخطر مشاكل الأمن البشرى وهى مشاكل اللاجئين، إذ بلغ عدد لاجئ وطالبي اللجوء في العالم وفقاً لإحصاءات عام 2004 حوالي 11.5 مليون لاجئ وطالب لجوء من بينهم 7.77 مليون لاجئ وطالب لجوء منذ ما يزيد على 5 سنوات، وخلال عام 2004 وحده كان هناك 1.01 مليون لاجئ وطالب لجوء جديد، بالإضافة إلى ما يزيد على 21.3 مليون نازح داخلي، وفى عام 2004 كان هناك 3.16 مليون نازح داخلي جديد، وتُعد مشكلات اللاجئين واحدة من أخطر مشاكل الأمن الإنساني في القرن ال21 نظراً لما تفرضه من مخاطر شديدة على أطراف العلاقة كافة، وعلى هذا الأساس شكل التغير في طبيعة الصراعات في فترة ما بعد الحرب الباردة عاملاً رئيسياً في تأكيد فشل المنظور التقليدي للأمن في التعامل مع طبيعة مصادر تهديد أمن الأفراد في فترة ما بعد الحرب الباردة. فإذا كان مفهوم الأمن القومي يرتكز على أن أمن الدولة يّجب أمن الفرد ويحتويه، ومادامت الدولة آمنة فالأفراد بالضرورة آمنون، إلا أن هذا المنظور الأمني لم يعد ملائماً في الوقت الحالي، فقد تكون الدولة آمنة وفقاً للمفهوم التقليدي للأمن في وقت يتناقص فيه أمن مواطنيها، كما أن الدول أصبحت في أحيان عدة مصدراً لتهديد أمن مواطنيها، وهو ما دفع بعض الباحثين للدعوة لطرح مفهوم للأمن بديلاً لمفهوم الأمن الواقعي ممثلاً في مفهوم الأمن الإنساني ليرتكز بالأساس على تحقيق أمن الأفراد. يضاف لما سبق أن العولمة شكلت أحد العوامل المهمة والمؤثرة في هذا الصدد إذ دفعت ما وجهته العولمة من تحديات للأمن الإنساني عدداً من الباحثين إلى الربط بين تحديات العولمة من ناحية، وبروز مفهوم الأمن الإنساني الذي جاء كرد فعل ونتيجة لهذه التحديات وللبحث عن سبل مواجهتها وذلك من ناحية أخرى، وبوجه عام فرغم ما تقدمه العولمة من فرص للتقدم البشرى في مجالات عدة ممثلة في سرعة انتقال المعرفة، وفتح الحدود، إلا أنها في المقابل تفرض تحديات خطيرة على الأمن البشرى خاصة في الدول النامية، إذ اعتمدت العولمة كظاهرة على خدمة مصالح الدول المتقدمة على حساب الدول النامية بحيث أصبحت تستخدم كأداة للتفاوض بين الدول المتقدمة والدول النامية لفرض ضغوط على الأخيرة فيما يتعلق بفتح أسواقها وبما يحقق مصالح الأولى، بحيث أصبحت فوائد العولمة تسير في اتجاه واحد ولصالح الدول المتقدمة التي وضعت تلك القواعد. فعلى سبيل المثال، نجد أن التحرير التجاري وفقاً للاتفاقيات الدولية الخاصة بالزراعة، والتي هدفت بالأساس إلى تحقيق الأمن الغذائي، أسهم في خلق مشكلة أمن غذائي خاصة في الدول النامية وهو ما يتبدى بالأساس في السماح للدول المتقدمة ولسياستها الحمائية على سلع بعينها بتوجيه أضرار بالغة لصغار المنتجين في الدول النامية. من ناحية ثانية نجد أن هناك غياباً لنقاط الالتقاء بين القواعد التجارية وقوانين الاستثمار محلياً ودولياً من ناحية، وبين القانون الدولي لحقوق الإنسان من ناحية أخرى. إذ نجد أن القوانين التجارية أو قوانين الاستثمار لا تنص على ضرورة الربط بين الجوانب الاقتصادية من ناحية والجوانب الإنسانية أو مراعاة الأبعاد الإنسانية للقرارات الاقتصادية من ناحية أخرى، فعلى سبيل المثال فإن الاتفاقيات الدولية الخاصة بالاستثمارات المشتركة سواء كانت اتفاقيات ثنائية أو متعددة الأطراف تسهم، في غالبيتها في وضع أنظمة حماية قوية للمستثمر الأجنبي في الدولة المضيفة، وهو الأمر الذي من شأنه وضع قيود على الدولة المضيفة فيما يتعلق بالمواءمة بين الالتزامات المنصوص عليها من ناحية، وبين حماية حقوق مواطنيها والتأكد من أن تلك الالتزامات لا تسبب أضراراً للمواطنين وذلك من ناحية أخرى، ورغم أن البعض أرجع هذا الأمر إلى أن كلا من القانون التجاري الدولي والقانون الدولي الإنساني وضعا بانفصال عن بعضهما البعض ووفقاً لمسارات مختلفة، إلا أن هذا الأمر يجب أن يُفسر في سياق العلاقة بين الدول المتقدمة والدول النامية وهو ما يتبدى في رغبة الأولى في السيطرة على الدول النامية وتوجيه أنشطتها بما يحقق مصالحها. من ناحية ثالثة هناك بعض الدراسات التي تربط بين أنشطة المنظمات والشركات متعددة الجنسيات وانتهاكات حقوق الأفراد في الدول التي تعمل فيها، ولا يقصد بانتهاك حقوق الأفراد في هذا الصدد انتهاك الحقوق السياسية للأفراد ممثلة في الحق في التعبير عن الرأي والحق في التجمع، لكنه يبرز بالأساس في المجال الاقتصادي وهو ما يتبدى في محاولة تلك المنظمات والشركات ممارسة تأثير على اتجاه تطور القوانين الاقتصادية المحلية بما يخدم مصالحها بالأساس. وتبرز خطورة هذا البعد في أمرين يتمثل أولهما في عدم وجود آليات لمحاسبة تلك المنظمات والشركات على ما تقوم به من أنشطة من شأنها إلحاق ضرر بالأفراد، أما الأمر الثاني فيتبدى في أن القانون الدولي العام وقوانين الاستثمار والتجارة وكذلك قوانين حقوق الإنسان لا تفرض التزامات مباشرة على تلك الشركات لاحترام أو تأكيد احترام أنشطة تلك المنظمات لحقوق الأفراد الأساسية. وفى واقع الأمر، تبرز خطورة العولمة على الأمن الإنساني في أن العولمة ليست عملية اقتصادية فحسب، بل هي عملية متعددة الأبعاد لها أبعاد ثقافية واجتماعية وسياسية وأمنية واقتصادية وهو الأمر الذي من شأنه فرض تداعيات خطيرة على كافة جوانب حياة الأفراد، فقد حددت دراسة ضمن تقرير التنمية البشرية لعام 1999 بعنوان "عولمة ذات وجه إنساني "مخاطر العولمة على الأمن الإنساني في 7 عناصر رئيسة هي: عدم الاستقرار المالي، غياب الأمن الوظيفي، غياب الأمن الصحي، غياب الأمن الثقافي، غياب الأمن الشخصي، غياب الأمن البيئي وغياب الأمن السياسي والمجتمعي، ويتبدى عدم الاستقرار المالي كأحد مخاطر العولمة على الأمن الإنساني فيما تفرضه سياسات العولمة من أزمات مالية، ومن أبرز الأمثلة في هذا الصدد الأزمة المالية في جنوب شرقي آسيا في منتصف عام 1997، والتي نتجت بالأساس من تدفقات رأس المال الأجنبي على المنطقة والتي بلغت قيمتها في عام 1996 حوالي 93 بليون دولار في كل من إندونيسيا، وكوريا الجنوبية، وماليزيا، والفيليبين، وتايلاند، ومن شأن تلك التدفقات المالية الهائلة في عصر العولمة خلق أزمات واضطرابات في سوق رأس المال في الدول المستقبلة لها، إذ أكدت الدراسة في هذا الصدد على أنه في عصر العولمة، فإن أزمات مالية مشابهة يتوقع لها أن تحدث وفى مناطق عدة.