يواجه العالم مشكلات عدة منها الفقر والمرض والتغيرات البيئية.. الخ، ومن بين هذه المشكلات المثيرة للقلق التي تلفت الانتباه أكثر مشكلة الصراع والعنف والتي تبدو الأشد إقلاقا لكونها الأكبر تكلفة للمجتمع البشري، وإذا ما تغاضينا عن الآثار السلبية الهائلة للصراع غير العنيف من الصراعات السياسية والاقتصادية والإعلامية والإيديولوجية نجد أن الصراع العنيف سواء كان صراعا مع النفس أو صراعا مع الغير وسواء اتخذ هذا الأخير شكل العنف الاجتماعي أو شكل الإرهاب أو شكل الحرب السافرة، يكلف المجتمع البشري الكثير من الضحايا والتدمير بالإضافة إلى استنفاذه جزءا كبيرا من الموارد البشرية والمادية في مجالات غير إنتاجية أو ضارة - الجيوش والصناعات الضارة- مما ينعكس سلبا على قدرة المجتمع على مواجهة مشكلاته الأخرى المشار إلى بعضها آنفا وقدرته على تحقيق التنمية والتقدم وقدرته على الإبداع. يبدو أن الصراع الصدامي أو العنف أعلى مشكلات المجتمع البشري تكلفة وضررا لذلك تتجلى أهمية وضرورة السلم للمجتمع البشري باعتباره نقيض العنف وبديل الصراع الدامي وعلاجهما؛ - فالسلم ضروري لحماية الإنسان وصون حقوقه التي تتعرض حتما للانتهاك في حالات العنف والصراع. - ضروري لتحرير الموارد البشرية والمادية من الاستهلاك الصراعي وتوجيهها لحلّ مشكلات المجتمع البشري وتحقيق التنمية والبناء. - ضروري لتأمين الإنسان من استبداد الخوف به مما يشلّ قدراته ويعوقه عن الإبداع الحضاري والذي لا يتحقق على النحو الأمثل إلا في ظل الأمن والسلم. - يساعد على الوصول للأهداف بتكلفة أقل وييسر الوصول للحقيقة والرجوع للحق إذا ما بان، بينما غالبا ما يتعسر الرجوع للحق في ظل الصراع. - يستجيب لفطرة الإنسان في البحث عن الأمن وغريزته في طلب حفظ الذات. - توجبه وتأمر به الأديان ودعا إليه الكثير من المفكرين والفلاسفة بمقتضى العقل. دور العامل الثقافي في الصراع والسلم للصراع أسبابه كما للسلم مقوماته، ومن أسباب الصراع وعوامله الدوافع الغريزية والشعور بالخطر أو الظلم والفقر والانحرافات النفسية والعقلية وضعف العلاقات والروابط، - وفي ما تؤكده الأديان بينما ينكره البعض وجود طرف ثالث يتمثل في الشيطان المنقطع لبث العداوة والعنف بين البشر، ومن مقومات السلم العدل والأمن والتنمية الشاملة وتزكية النفس، ويفيد النظر أن من أهم الأمور المشتركة بين أسباب الصراع ومقومات السلم الثقافة؛ فالثقافة ممثلة بالدين ثم الإيديولوجية مثلت أهم عنصر دارت حوله أكثر حروب التاريخ المكتوب، وحتى أسباب الصراع الأخرى لا تخلو من بعد ثقافي مؤثر، فالدوافع الغريزية وما يتعلق بها من الأسباب الاقتصادية للصراع والعنف هي دوافع مشتركة عند سائر البشر ولا تؤدي بالضرورة إلى الصراع والعنف وإنما تتحول عند البعض إلى أسباب للصراع والعنف أساسا بفعل طبيعة تصوراتهم الكلية وطرق تفكيرهم والتي تمثل جزءا من ثقافتهم، والشعور بالخطر أو الظلم لا يؤدي بالضرورة إلى الصراع والعنف وإنما تتوقف طبيعة رد الفعل على بالطبع ضمن عوامل أخرى طبيعة ثقافة صاحبه، وعموما فإن الجنوح للصراع والعنف هو أساسا خلل في التفكير، والخلل في التفكير شأن/خلل ثقافي بالدرجة الأولى، ولعل في بعض الأقوال والأمثال السائدة في العالم من مثل المثل الانجليزي "الحرب تبدأ في عقول البشر" والقول العربي الشائع "الحرب أولها كلام" ما يشير إلى أن العقل البشري قد أدرك منذ القدم دور العامل الثقافي في إثارة الصراعات والحروب، وفي المقابل فإن أكثر ما ساد المجتمعات في التاريخ السلم ، وكان عقب حركات ثقافية غالبا ما كانت دينية أو دينية الطابع ألّفت بين قلوب أفراد تلك المجتمعات وفئاتها المتصارعة، وغالبا ما ارتبطت عودة هذه المجتمعات إلى الصراع بضعف فاعلية تلك الحركات، ولعل المجتمع العربي يعدّ مثالا نموذجيا لذلك، كذلك تنطوي مقومات السلم الأخرى على أبعاد ثقافية جلية، فالعدل والتنمية مثلا مفهومان ثقافيان مثيران للجدل وللثقافة دورها المشهود في الدفع إليهما أو عنهما، وصحيح أن وجود سلطة عامة ضروري لتأمين العدل وتوفير الأمن وتحقيق التنمية إلا أن السلطة العامة إنما تقوم بتلك المهمة بفضل ثقافتها التي تبين لها وجوب العدل وأهمية الأمن والتنمية وأن أي سلطة عامة تفتقر إلى الحدّ الأدنى اللازم من مثل تلك الثقافة لا تملك أن لا تتحول إلى قوة تخلّ بالعدل وتسلب الأمن وتعوق التنمية وتصبح أداة ظلم ومصدر خوف وعامل تخلف. إذن فالثقافة لها دور مزدوج؛ دور خطير وحاسم في الدفع إلى الصراع والعنف وتغذية أسبابهما عندما تكون ثقافة عنف وصراع، ودور مهم وأساسي في الدفع إلى السلم وتعزيز مقوماته عندما تكون ثقافة سلم، وإذا كانت ثقافة السلم بتلك الأهمية البالغة المستمدة من أهمية دورها في كبح الصراعات والعنف وتحقيق وتعزيز السلم، فماذا تعني ثقافة السلم؟ مفهوم ثقافة السلم منذ أن بدأت تولي أهمية خاصة ومكثفة لمفهوم "ثقافة السلم" منذ نهاية الثمانينيات من القرن المنصرم بدأت تكوينات الأممالمتحدة وخاصة اليونسكو تحاول بلورة تعريف لثقافة السلم، وقد انتهت اجتهادات اليونسكو أو الاجتهادات التي تعرضها بهذا الخصوص إلى تعريف إجرائي طويل يرصد عددا من الإجراءات /المقومات التي تقوم عليها وتحقق ثقافة السلم، وليس المقام لرصد وتقييم التعريفات السابقة أو محاولة بلورة تعريف بديل لثقافة السلم، على أن المقام يستدعي ولعله يتيح أيضا بعض هذه الملاحظات التي نوردها بيانا لبعض جوانب مفهوم ثقافة السلم. إن مفهوم ثقافة السلم مفهوم مركب يجمع بين مفهومي الثقافة والسلم كمضاف ومضاف إليه ويعني ذلك أنه بقدر وضوح أو غموض هذين المفهومين يكون وضوح أو غموض مفهوم ثقافة السلم، وعندما يكون المفهوم مركبا من مفهوم مضاف وآخر مضاف إليه فإن المفهوم المركزي أو المحدد يكون عادة هو المفهوم المضاف إليه وهو هنا السلم الذي يتحدد تبعا له طبيعة أو نوع المفهوم المضاف وهو هنا الثقافة، والسلم لغة هو الخلو من ما هو معيب أو غير مرغوب فيه، والمعنى الشائع أو المتبادر للذهن من لفظ السلم هو انتفاء الحرب، وقد يتسع هذا المعنى عند البعض ليشمل انتفاء أيّ اعتداء مسلح أو بدني، وتأسيسا على ذلك يمكن القول إن المعنى المتبادر للسلم يتمحور حول انتفاء العنف المادي من الغير أو عليه سواء كان هذا العنف المادي حربا أو إرهابا أو تعذيبا أو اغتيالا أو تهديدا بشيء من ذلك، ويلاحظ على هذا المعنى السائد على مختلف المستويات أنه؛ يركز على العنف المادي الصادر عن الغير أو الذي يتعرض له الغير ويغفل العنف المادي الذي يمكن أن يلحقه الشخص بنفسه أي العنف الذاتي كالانتحار، ومن الواضح أن العنف الذاتي يتضمن إخلالا بالسلام مع النفس والذي لا ينبغي التقليل من أهميته ليس فقط لأن العنف الذاتي كثيرا ما لا يخلو من عنف ما بالغير وإنما أيضا لأن ذات الأسس التي تمنع العنف مع الغير تمنع أيضا العنف مع النفس وأن من لا يسالم نفسه عادة ما يكون أقرب لأن لا يسالم الغير، وللعنف الذاتي مدلولات عدة قد لا يكون هناك اختلاف كبير على اعتبار بعضها عنفا، ومن ذلك الانتحار وربما أيضا جلد البعض أجسادهم، على أن هناك سلوكيات شائعة لم يجر العرف على تصنيفها ضمن العنف رغم أنها تنطوي على عنف مادي يلحقه الإنسان بنفسه ومن تلك السلوكيات مثلا إدمان المخدرات والمسكرات والتبغ، والواقع أنه إذا كان الانتحار عنفا مع الذات مرفوضا فإنه من غير المنطقي عدم تصنيف التدخين عنفا مع الذات، إذ لا يختلف التدخين عن كونه انتحار بطيء، وإذا تقرّر أن التدخين عنف مع النفس لا يعدّ مقبولا عدم تصنيف صناعة التبغ عنفا مع الغير مرفوضا، وإذا أخدنا في الاعتبار إحصائيات منظمة الصحة العالمية والتي تفيد بأن التدخين قد قتل حوالي خمسين مليون نسمة في العالم في عام 2003 وأن هذا العدد سيتضاعف بحلول عام 2030 اتضح لنا أن بعض السلوكيات التي لا نعتبرها عنفا قد تكون أكثر ضحايا وقتلى من السلوكيات التي لا نختلف في اعتبارها عنفا كالحروب. يركز على العنف المادي ويغفل العنف المعنوي مع أن هذا الأخير قد يكون أشد إيلاما وأذى من الأول مما يجعل أمرا غير مبرر أن يعدّ العنف المادي إخلالا بالسلم بينما لا يعدّ العنف المعنوي إخلالا به، والعنف المعنوي قد يكون عنفا لغويا كما في حالة استخدام ألفاظ مؤذية كألفاظ السب والسخرية - سبق وتناقلت وسائل الإعلام خبر طالبة صينية انتحرت بسبب وصف المعلم لها بالقبح-، أو عنفا سلوكيا كالتمييز العنصري أو عنفا فقهيا كإصدار فتاوى التكفير وإهدار النفس المحرمة أو عنفا إعلاميا كمصادرة ما ينشر أو عرض/بث ما فيه أذى بمشاعر الآخر أو تعريض له لمتاعب محتملة، أو عنفا لنسمّه مضمرا أو كامنا كالحسد وتمني الشر للغير والدعاء عليه بأغلظ الدعوات - يلاحظ مثلا أن بعض الأئمة/الخطباء في المساجد و ربما الأمر كذلك في الكنائس والبِيَع يعمون بدعواتهم الغليظة-، مثل الدعاء بتجميد الدماء في العروق والزلازل وغيرها من الكوارث الشاملة الدمار، كل النصارى وغيرهم المحاربين منهم وغير المحاربين بما فيهم الأطفال، ولم أسمع أحدا يدعو لهم بالهداية والكف عن العدوان مع أن المطلوب هو كفهم عن الاعتداء علينا وأن الله الذي ندعوه قادر على أن يفعل ذلك بوسيلة رفيقة كأن يهديهم إن لم يكن للإسلام فللسلم بقدر ما هو قادر على أن يفعله بوسيلة عنيفة، ترى لماذا نختار العنف مع أن الرفقة يمكن أن تؤدي الغرض وأفضل لنا لما قد يكون فيه من أجر الهداية بفضل الدعاء؟ - يعنى بالسلم بين بني البشر ويغفل السلم بين البشر وغيرهم وهو ما لا يبدو مبررا ليس فقط للارتباط الواضح بينهما وإنما أيضا لأن ذات الأسس التي توجب السلام للبشر توجبه لغير البشر أيضا، فالعنف كما يضر البشر ويؤلمهم يضر بغير البشر ويسبب الألم لمن يحس به منهم، وإن كنا نعتقد أن الجمادات لا تحس وهو اعتقاد لا نملك أدلة علمية كافية عليه فإن من الواضح أنه وعلى الأقل الحيوانات تحس وتتألم للتعامل العنيف معها.