يعني الانشغال الحقيقي بالقرآن بوجه خاص الانشغال بمعانيه ومواعظه وجوانب هدايته وامتلاء القلب بها وتمكّنها من العقل الباطن واللاشعور، فينعكس ذلك على خواطر العبد واهتماماته، والانشغال بالقرآن الكريم يعني كذلك الانشغال بحمل معانيه للناس ودعوتهم للجلوس المباشر معه وإزالة الحاجز النفسي بينهم وبينه، ومن أهم صور الانشغال بالقرآن تعريف الناس بربّهم عن طريقه، وذلك من خلال ربط آيات القرآن بآيات الكون الاستدلال منها على الخالق العظيم، قال تعالى "سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق"، ومن صور الانشغال بالقرآن كذلك السعي الدؤوب على تحويله إلى واقع ملموس في حياة الناس ليصبح دستور الأمة فتسود أخلاقه جوانب المجتمع، وهذا لن يتم إلا بوجود جيل قرآني يدعو إلى الله بأفعاله قبل أقواله، ومع هذا كله يأتي كذلك الانشغال بدوام تلاوته بالليل والنهار وحفظ آياته، ولكن بمثل الطريقة التي كان يحفظ بها الصحابة، فيتعلم الإيمان وجوانب الهداية من الآيات قبل حفظها. إن أهل القرآن الذين هم أهل الله وخاصته هم أولئك الذي فهموا مراد الله من إنزال القرآن الكريم فانكبوا عليه وعملوا به ودعوا الخلق إليه، ولعل هذا ما كان يقصده «الحسن البصري» بقوله "إن أولى الناس بهذا القرآن من اتبعه وإن لم يكن يقرؤه"، ومن لوازم تصحيح هذا المفهوم عدم حصر معنى قول الرسول صلى الله عليه وسلم "خيركم من تعلم القرآن وعلمه" على تعلم وتعليم أحكام التجويد فقط، فكما قال «ابن تيمية» رحمه الله "دخل في قوله صلى الله عليه وسلم: خيركم من تعلم القرآن وعلمه تعليم حروفه ومعانيه جميعا، بل تعلم معانيه هو المقصد الأول من تعلم حروفه وذلك الذي يزيد الإيمان، كما قال «جندب بن عبد الله» و«عبد الله بن عمر» "تعلمنا الإيمان ثم تعلمنا القرآن فازددنا إيمانا، وأنتم تعلمتم القرآن ثم تتعلمون الإيمان"، ولهذا كانوا يبقون مدة في حفظ سوره، ولم يكن الأمر لدى شباب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في تعلم القرآن واقفًا عند مجرد حفظه وإقامة حروفه، بل كانوا يتعلمون أحكامه وحدوده، فالحفظ وسيلة إلى ما بعده من المداومة على التلاوة والقراءة والتدبر والوقوف عند المعاني، ومن ثم أخذ النفس بها والالتزام بما دلت عليه، قال «ابن مسعود» رضي الله عنه "كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهنَّ حتى يعرف معانيهنَّ والعمل بهنَّ"، أخرجه «الطبري».