منّ الله تبارك وتعالى على عباده بنعمة المكان والوقت المبارك فيهما، فجعل لهم مواسم للخير من جملة ما خصّهم به من الوقت المبارك، فيها يكثر الأجر ويعظم الفضل، حتى تتحفز الهمم وتنشط العزائم، ابتغاء الأجر العظيم، ومن هذه الأوقات المباركة شهر رمضان، فهو أعظم تلك المواسم، هو شهر الصيام والقيام وتلاوة القرآن الكريم، وهو شهر يُنادى فيه "يا باغي الخير أقبل ويا باغي الشر أقصر"، شهر فيه تفتح أبواب الجنان وتغلق أبواب النيران، ولله فيه عتقاء من النار كل ليلة. على المسلم أن يحرص على اغتنام هذا الشهر المبارك ويتذكر حال إخوان له كانوا بالأمس معه، فحضروا رمضان وقاموا وصلوا وصاموا، ثم أتتهم آجالهم فقضوا قبل أن يدركوا رمضان الآخر، فهم الآن في قبورهم مرتهنون بأعمالهم، فعلى المسلم أن يتذكر حالهم ومصيرهم وعليه أن يجد في عمل الصالحات، كما عليه أن يتذكر حال إخوان له أدركوا رمضان وهم على الأسِرَّةِ؛ لا حول لهم ولا قوة، يتجرعون مرارة المرض ويزيدهم حسرة وألما أنهم لا يستطيعون أن يشاركوا المسلمين هذه العبادة، ثم يتذكّر حال المحرومين ممن أدركوا رمضان فازدادوا فيه إثما ومعصية وبعدا من الله، فحرموا أنفسهم من الرحمة والمغفرة في أشرف الأوقات وأغلى اللحظات، فإن تذكر المسلم ذلك قدّر هذه النعمة حق قدرها وتعرّف على فضلها وحقها، وروى «ابن ماجه» عن «طلحة بن عبيد الله» أن رجلين قَدما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان إسلامهما جميعا، فكان أحدهما أشد اجتهادا من الآخر، فغزا المجتهد منهما فاستشهد، ثم مكث الآخر بعده سنة ثم توفي، قال «طلحة» "فرأيت في المنام بينا أنا عند باب الجنة إذا أنا بهما، فخرج خارج من الجنة فأذن للذي توفي الآخِر منهما، ثم خرج فأذن للذي استشهد، ثم رجع إلي فقال "ارجع فإنك لم يأن لك بعد"، فأصبح «طلحة» يحدث به الناس، فعجبوا لذلك، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وحدثوه الحديث فقال "من أي ذلك تعجبون"، فقالوا "يا رسول الله، هذا كان أشد الرجلين اجتهادا ثم استشهد، ودخل هذا الآخِر الجنةَ قبله"، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أليس قد مكث هذا بعده سنة"، قالوا "بلى"، قال "وأدرك رمضان فصام وصلى كذا وكذا من سجدة في السنة"، قالوا "بلى"، فقال "فما بينهما أبعد مما بين السماء والأرض"، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبشر أصحابه بقدوم رمضان ويبين لهم فضائله، ليحثهم على الاجتهاد في العمل الصالح، فقد روى الإمام «أحمد» عن «أبي هريرة» رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يبشر أصحابه "قد جاءكم شهر رمضان، شهر مبارك، افترض الله عليكم صيامه، يفتح فيه أبواب الجنة ويغلق فيه أبواب الجحيم وتغل فيه الشياطين، فيه ليلة خير من ألف شهر، من حُرِمَ خيرها فقد حُرِمْ"، فحري بالمسلم أن يحسن استقبال هذا الوافد الكريم، قبل أن يودعنا ويرتحل عنا ويكون حجة علينا يوم الدين، فالمحروم من حرم نفسه، ومن حسن استقبال رمضان أن نستقبله بالتوبة الصادقة من جميع الذنوب، فهو موسم التائبين، كما نستقبله بالعزيمة على مضاعفة الجهد والاستكثار من الطاعات؛ من برٍّ وإحسان وقراءة قرآن وصلاة وذكر واستغفار، نستقبله بالدعاء أن يوفقنا الله لصيامه وقيامه على الوجه الذي يرضيه عنا.