يعيش الشارع الجزائري مؤخرا، حالة غليان حادة جراء الحراك العمالي المتمثل في تنظيم سلسلة من الإضرابات والاعتصامات والاحتجاجات على المستوى الوطني، انطلقت مع مهنيي التربية لتنتقل شرارتها إلى عمال السلك الطبي وامتدت إلى مركب الحجار بعنابة ومصنع ''سوناكوم'' بالرويبة الصناعية وأخيرا وليس آخرا سائقو سيارات الأجرة. إذا كان الكثير منا يصنف تنامي الحركات الاحتجاجية وفق منظور إيجابي كمؤشر على اتساع هامش الحرية في الجزائر وإدراك المواطن لحقوقه المكفولة، فإن هناك من يعتبرها تفاقما في المشاكل والأزمات الاجتماعية التي سيكون لها تأثير سلبي مستقبلا. وستحاول ''البلاد'' من خلال هذا التحقيق الوقوف على الدوافع الرئيسية والكامنة وراء استفحال الحركات الاعتصامية من خلال استجواب خبراء ومتخصصين حول إشكاليات وانشغالات متعددة أبرزها: هل زاد وعي وإدراك المواطن لحقه المشروع في الإضراب والجهر باحتجاجه، أم أن الظروف المعيشية والمهنية جعلت من ''الانفجار'' حلا محتوما؟ لماذا تسبق خطوة الاحتجاج مرحلة التفاوض مع الجهات المسؤولة؟ هل هذا دليل قاطع على عدم قدرة النقابات العمالية والاتحادات المهنية على لعب دورها للحفاظ على حقوق العمال؟ وهل يمكن تأويل الأوضاع بحصول المواطن على حقه في ''الغضب'' واحتفاظ المسؤولين بحقهم في ''القمع''؟ الإضرابات السلمية تعبير عن المظالم وليس خرقا للنظام كشف نور الدين بلموهوب، مدافع عن حقوق الإنسان، أن الإضراب في شكله العام هو حق مشروع ومكفول ومعترف به على المستوى العالمي، إلا أن البنية التنظيمية هي المعيار الأساسي الذي تقاس به درجة شرعيته، مضيفا أن ''الحركات الاحتجاجية تعد وليدة الظروف التي تعاني منها أطراف معينة. وإذا أقمنا دراسة لسلسلة الإضرابات التي طفت إلى السطح مؤخرا، يجب علينا الاعتراف أولا بأن الجهات المعنية لم تأخذ هذه الحركات الاحتجاجية بعين الاعتبار ولم تمنحها الحجم الذي يليق بها بل تركت حسم الأمور إلى أقطاب أخرى، استغلت ظروف العمال لمصالحها الشخصية وهو ما أدى إلى تغيير منحى الاعتصامات في كثير من الأحيان إلى الجهة الخاطئة'' . واعتبر بلموهوب أن ''لكل فعل ردة فعل، لذلك فالإضراب يفرزه غالبا الضعف المحسوب على الإدارة الحكومية، إذ يتيقن المضرب عن عدم قدرته على افتكاك حقوقه من هذه الأخيرة إلا عن طريق الضغط''، مشيرا الى أن ''ملف الإضرابات والاعتصامات يعد بشكل عام شائكا ومتشعبا خصوصا بعد أن همشت الجهات المسؤولة مطالب العمال ولم تستسغ الحلول اللائقة لأوضاعهم الاجتماعية بطريقة نهائية، بل تركت المشاكل والأزمات تتراكم لتصل إلى عواقب وخيمة. وأنا أرجح استمرار الحركات الاعتصامية مستقبلا في حال عدم تغيير السياسات المنتهجة على مستوى المسؤولين''. وأرجع محدثنا أسباب الإضراب إلى دافعين أساسيين: أولهما عدم تمكن الحكومة من تقديم حلول فعالة وجذرية، أما الدافع الثاني فيرجع إلى هشاشة الجهات المسؤولة وتقاعسها عن التعامل مع الأوضاع العمالية بجدية، مؤكدا أن الاحتجاجات السلمية التي اندلعت بالجزائر لها تأثيرات إيجابية وسلبية على حقوق العمال، إذ إنها تعطل العمل من جهة، وترمي إلى حماية الحقوق والمطالبة بها من جهة أخرى. وأكد الناشط في حقوق الإنسان أن الاحتجاج في الجزائر يستبق التفاوض، عكس الدول الغربية التي تنطلق المفاوضات لتليها الحركات الاعتصامية، مضيفا ''الأمر لا ينتهي بالإضراب لأن هذا الأخير بوابة إلى تفاوض، والتفاوض يصل إلى صياغة اتفاقيات بين الأقطاب، وهو ما نلمسه في قضية مركب الحجار وسوناكوم، حيث أوقف الإضراب في انتظار تنفيذ الحكومة لوعودها التي أطلقتها أثناء اندلاع الحركات الاحتجاجية. الاحتجاجات بين فشل السياسات الاقتصادية والدوافع ''السوسيوسياسية'' يشير مراد بوكلة، مدير مركز البحوث الاقتصادية وخبير اقتصادي، إلى أن ''الدوافع المحركة للحركات الاحتجاجية هي مزيج من الأسباب الاقتصادية والسوسيوسياسية''، كاشفا في هذا السياق أن ''كثيرا من الإضرابات التي نعيشها اليوم تكون نتيجة زيادة ضغوط الظروف المعيشية وانخفاض الدخل الفردي والقدرة الشرائية للعامل، وهو ما تبرزه مطالب الطبقة العمالية التي ترتكز على الزيادة في الأجور والمنح العائلية، العلاوات، خلق فرص التكوين والترقية، إصدار نصوص قانونية تحمي العمال وتكفل حقوقهم''. كما أضاف بوكلة ''أنا لا أنفي أن الاعتصام قد ينجم عن فشل السياسات الاقتصادية، إلا أنني لا أحمّل هذه الكفة كذلك كامل المسؤوليات، لأن هذه الأخيرة متقاسمة بين السياسات السوسيوسياسية والسياسات الاقتصادية ولا يمكن بأي حال من الأحوال الفصل بينهما''. ''أزمة الثقة'' تؤجج نيران الحركات الاعتصامية فيما أكد الكثير من المحامين ل''البلاد'' أن ''الإضرابات التي انطلقت من قطاع التربية لتصل إلى سائقي سيارات الأجرة اليوم هي دليل على أن العمال أو المواطن بشكل عام دخل مرحلة الشكوى والاحتجاج على سوء الأوضاع. وقد لاحظنا في أغلب الأوقات أن المطالب ترتكز على الزيادة في الرواتب أو مسح الديون، إلا أن ردود أفعال المسؤولين لم تعد بالكثير وهو ما يكشف عن الإستراتيجيات الفاشلة التي لا تستطيع التصدي للمشاكل والأزمات''. كما أضافوا ''يمكن القول اليوم إن هناك أزمة ثقيلة بين العمال والجهات الوصية هي بدون شك أزمة ثقة نجمت عن إهمال الحقوق وعدم وجود منبر للدفاع عنها مما يدفع بهم إلى اختيار الإضراب لطرح انشغالاتهم وهو ما رأيناه في الإضراب الذي انطلق بالمنطقة الصناعية بالرويبة أو بمصنع الحجار بعنابة''. وحذرت هذه الجهات من استمرارية الأوضاع على ما هي عليه، لأنها وببساطة ستعكس صورة سلبية لأوضاع العمل بالجزائر مما سيؤدي إلى عزوف الدول الأجنبية عن الاستثمار في الجزائر. استقرار الأوضاع الأمنية بوابة لطرح الانشغالات الاجتماعية وعن التحليل الاجتماعي لهذه الظاهرة، يرى الباحث في علم الاجتماع، نصر الدين جابي، أن ''هذه الحركات الاحتجاجية كانت متوقعة لسبب بسيط هو أن الجزائر خرجت من مرحلة اختلال الأوضاع الأمنية، لذلك فقد أحدث المواطن قطيعة بينه وبين التفكير فيها، بل انتقلت جل انشغالاته إلى المشاكل الاجتماعية التي كانت مؤجلة في الماضي. واعتبر جابي أن ''السياسات الاقتصادية'' تعد من بين العوامل التي حركت الإضرابات في عدة قطاعات وأفرزت استقطابا اجتماعيا، مشيرا إلى أن ''المجتمع الحالي قد صار طبقيا على أساس علامات الثراء الفاحش المسجلة لدى طبقة معينة، في حين تتخبط طبقة الأجراء والتي تمثل الأغلبية في مشاكل اقتصادية واجتماعية لم توجد لها حلول بعد''. وأكد المحلل الاجتماعي ''إن الأجراء لم يستفيدوا من السياسات المنتهجة على مستوى الحكومة فيما يخص الأجور التي أعلن عنها في وقت سابق''، مرجحا انتقال الإضرابات إلى العديد من القطاعات خلال السنة الجارية وحتى القادمة، مضيفا ''لقد تعود الجزائريون على مطالبة الحكومة باستمرار ورفع مطالبها إليها''. واعتبر المتحدث أن النقابات المستقلة، بما فيها غير المعتمدة، سيكون لها دور كبير وفعال في هذه الحركات الاحتجاجية، خاصة في ظل تراجع وتقهقر دور الاتحاد العام للعمال الجزائريين، في إشارة منه إلى جملة المطالب التي رفعها عمال شركة ''سوناكوم'' بالرويبة والتي نادت برأس قيادة النقابة المركزية. تاريخ الإضرابات في الجزائر جل القطاعات الاقتصادية في الجزائر عرفت نوعا من الاضطرابات وموجات عنيفة من الحركات الاحتجاجية في الفترة ما بعد الاستقلال إلى ما قبل العشرية السوداء، وصلت إلى حد تسجيل وإحصاء أكثر من 16 ألف إضراب دخلت فيه الجزائر حالة انسداد، لعل أبرزها كان الإضراب العام الذي سبق أحداث 5 أكتوبر الشهيرة. 4085 إضرابا 1969-1980 مع نهاية الستينيات عرفت نسبة الإضرابات تزايدا ملحوظا من سنة لأخرى وبقيت في ارتفاع متزايد إلى غاية 1980 أي لمدة 11 سنة، والجزائر تعيش حالة من الاضطرابات وصلت الحركة العمالية إلى أدنى مستوى من الفوضى والتذبذب، إذ بلغ عدد الإضرابات 4050 إضرابا، منهم 1256 إضرابا في القطاع العام، و2416 إضرابا في القطاع الخاص. ففي سنة 1969 سجلت الجزائر 72 إضرابا، 99 في سنة 152 ,1970 في بداية السبعينيات، 168 إضرابا في ,1973 وبقيت تزيد نسبتها من سنة لأخرى إلى أن وصلت إلى حوالي 922 إضرابا في 1980 أي ما يعادل نسبة زيادة 15 بالمائة. 4000 إضراب 1981-1985 وفي الخمس سنوات الأولى من بداية الثمانينيات أحصت الجزائر حوالي 4000 إضراب، كانت مطالب العمال قد أخذت منعرجا آخر، بحيث أصبحوا يطالبون بحق الممارسة النقابية وقضايا أخرى لها علاقة بالإدارة، لأن التباعد في عدد الإضرابات بين القطاعين قد رجحته عوامل كثيرة، أبرزها الحصار المضروب على قطاع الدولة ومحاولة القضاء عليه واتهام القائمين عليه بالمغالاة، ويستدل على ذلك بإضراب عمال الحجار ''أس أن أس'' في سنة 1974 حيث وجهت السلطة رسالة إلى العمال تعلمهم بخصم ثلاثة أيام من مرتبهم الشهري.. 505 إضرابات في سنة 1986 وحدها وسجلت الجزائر في سنة واحدة من جانفي إلى أوت 1986 حوالي 505 إضرابات منها 247 في القطاع العام و258 في القطاع الخاص. وحسب الإحصائيات فإن هذه الإضرابات ترجع إلى عوامل عديدة منها تقلص سوق الشغل. كما أن الأزمة الاقتصادية العالمية جعلت السلطة تفكر في فعاليات الإنتاج ضمن إستراتيجية جديدة تعتمد على عقلانية السوق الحرة أي عقلنة الاقتصاد.. 7293 إضرابا 1988-1990 نسبة الإضراب مع نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات ارتفعت هي الأخرى بوصولها إلى 80 بالمائة مقارنة بالإضرابات السابقة أي الفترة بين نهاية الستينيات وبداية الثمانينيات، وبنسبة 85 بالمائة مقارنة بمجموع عدد الإضرابات خلال الخمس سنوات الأولى من الثمانينيات. وهذا يعني أن الجزائر دخلت مرحلة الديمقراطية ودخول الجزائر التعددية الحزبية والنقابية حيث أصبح من حق العمال المطالبة بحقوقهم المشروعة وفق ما يمليه القانون، وأصبح الإضراب حقا شرعيا بموجب المادة 54 من الدستور الجديد المعدل في فيفري 1989 والتي تنص على أن الحق في الإضراب معترف به ويمارس في إطار القانون ووضع له الإطار القانوني