قبل ثماني سنوات من تاريخ أفريل الحالي، جلست في المكان نفسه وفي القاعة نفسها وبالكرسي نفسه، أنتظر دوري كمشروع متهم مطلوب محاكمته بتهمة القذف في حق شخص لم يكن يتردد في التصريح والتصديح و''التنبيح'' بأنه يعرف الجنرال الفلاني والوزير العلاني، كما أن يده ''طويلة'' وممدودة، فبقدر ما هي ناصعة ''الكرم'' مع الرفاق الناهمون بقدر ما هي صافعة لمن تطاول على نفوذ ونياشين سيادته، كان شخصية لها حدود الدولة ومقوماتها من كلأ وسقاية لحجيج خيمته من متسولين مسؤولين، فرغم أن خصمي لم يكن إلا ''ميرا'' من أميار القبيلة الكبيرة في بقعة لا يفصلها عن الضوء سوى مسافة قرن وبضع سنوات. إلا أنه كان أشهر من نار على ''كرم'' وعلم، فهو معروف ومألوف أكثر من اسم ولايته ذاتها فما بالنا بقريته، ولأنني حينها لم أكن أدري أن الرجل جنرالا بنياشين من ''خراف''، وأنه من خلال مراعيه قد سيطر على بطون كبيرة من كبار القوم، فإنني تجرأت، وكنت حينها رئيس قسم التحقيقات ب''الشروق اليومي'' في زمن الدكتور عبد الله قطاف، على القيام بتحقيق صحفي ذكرت فيها جنرال الماشية بسوء، معددا عيوبه وجيوبه، ولأنه كان هو الدولة بمفهومها الرعوي و''المترعن''، فإني وجدت نفسي، في ظرف عشرة أيام من نشر التحقيق الصحفي، مجرورا من أذني من شارع شاراس بالعاصمة، حيث مقر الشروق القديم، إلى المكان نفسه والمقعد نفسه والمحكمة نفسه التي زرتها نهاية الأسبوع رفقة زميل لي، كانت له ''حاجة'' هناك، لأجلس في المقعد نفسه وفي المكان نفسه، لكن ليس كمتهم هذه المرة ولكن ''كمشاهد'' استبطأ مرافقه، فدفعه الفضول لمتابعة مجريات محاكمة ''القرن'' في قضية نصب عادية.. قبل أن أسرد عليكم أطوار محاكمة ''القرن'' التي عايشتها نهاية الأسبوع، وقبل أن تعرفوا وأعرف معكم أن هناك أشياء كثيرة تمر في صمت في هذا البلد، كما أنه يوجد في النهر ما لا يوجد في البحر،لا بد أن أعود بكم ثماني سنوات إلى الوراء، إلى نفس القاعة نفسها، الكراسي نفسه وبنفس منصتي القاضية وكيل الجمهورية، فقط الفرق في التوقيت، وفي أنه بدلا من أن يشغل كرسي رئيس الجلسة، قاضية متحجبة لا تتجاوز الثلاثين من العمر كما هو الشأن في جلسة نهاية الأسبوع الفارط، كان هناك كهل صارم ومتهجم الوجه يتجاوز الخمسين، ينادي على المتهمين الواحد تلو الآخر، وفي ظرف دقائق لا تتجاوز الخمس وقبل أن يتم المتهم هوية أمه وأبيه، يكون القاضي الكهل قد وصل إلى العدل والفصل في قضايا لم يكن يحتاج الحكم فيها لأكثر من دقائق معدودة تتخللها كلمات قضائية متشابهة تلجم المتهم ويمكن تلخيصها في ''خلاص''، أسكت.. راني فهمت... وكما هو حال من سبقني في الجلسة إياها والتي حدثت قبل ثماني سنوات، فإن دوري حان وسيادة القاضي في ذلك الزمن السالف ''العدل'' والأوان، بدأها بمخاطبة جنرال الماشية المشتكي مني بمحاملات ''يا سي فلان'' فيما كان يكفيه مني كتهم، تم جره جرا من أذنيه، أن يعرف اسم ''أمي'' أما البقية فالتهمة ثابته والمحاكمة كلها لا أذكر أني قلت فيه إلا كلمات بعدد أصابع اليد كون سيادته كان ملما بالقذف والقاذف قبل أن أقف أمامه، فقط كل ما كان ينقص الحكم الجاهز أن يعرف سيادة القاضي اسم ''أمي'' وبعدها كان من السهل أن أسمع منطوق الحكم كالتالي: حكمت المحكمة حضوريا على المتهم بستة أشهر حبسا نافذا مع تعويض الضحية نصف مليار سنتيم.... ''! .. والنتيجة أن الحكم عليّ لم يستهلك أكثر من ربع ساعة و''تفرق السوق''، القاضي واصل عدله وأنا نلت البراءة بمجرد أن استأنفت الحكم لدى المجلس، والسبب بسيط جدا أن قضاة المجلس لم يكن يهمهم أن يعرفوا اسم ''أمي'' بقدر ما ناقشوا حيثيات القضية ليتحملوا مسؤولية نسف نصف المليار ويحكموا لي بالبراءة التامة.. في المكان نفسه، وبالكرسي نفسه، وفي قاعة المحكمة نفسها، مع تغير في الزمن عمره ثماني سنوات، وجدتني بدافع الفضول أتابع مجريات محاكمة لم يكن قاضيها صاحبي الكهل ولكن قاضية بسيطة، ووكيل جمهورية ''إنسان'' يشتركان في إدارة محاكمة لمتهم يعلمان أنه قبل أن يكون متهما فهو إنسان، مفروض أن تحافظ العدالة على كرامته وأن تعطيه الوقت والظروف المناسبة لكي يدافع ويرافع عن نفسه ما أستطاع،.. قضية نصب واحتيال لا يحتاج الفصل فيها بمنطق القاضي الكهل الذي حاكمني في الماضي''ثانية'' واحدة، استهلكت مع القاضية البسيطة والمتواضعة والمتفتحة على سماع حتى ما يمكن اعتباره توافه الأمور ومع وكيل الجمهورية الإنسان. ثلاث ساعات من ''كيف لماذا.. لم أفهم.. تكلم أنت حر..لا تخف، دافع عن نفسك..''ثلاث ساعات من الحرية الكاملة في محاصرة ''القهر''، وفي توفير الظروف الكاملة لمحاكمة عادلة، لم يكن هناك ''قهر'' ووعيد، وكانت القاضية دوما وطيلة أطوار المحاكمة مع المتهم، لا مع الضحية، كانت تبحث عن العدل في أسمى ''إنسانيته''، وكانت تتقصى دقائق الأمور خدمة للمتهم وحماية له من ''القهر''.. لتكون النتيجة بعد ساعات من محاكمة ''القرن'' في طريقة إدارتها، وبغض النظر عن حكمها الذي سيصدر، أن عشت محاكمة ''إنسان'' لم يحتج لمحامٍ لكي يحافظ على حقوقه بعدما حافظ عليها قاضية مثقفة ووكيل جمهورية لم يكونا يبحثان إلا عن الحقيقة المجردة التي تحمي وتقدس كرامة الإنسان مهما كان موقعه... الحادثة قد يراها البعض بسيطة ولا تستحق هذا التهويل والتطبيل، لكن مكمن أهميتها لم يكن في حيثيات القضية ولا في هوية المتهم ''العادي'' أو حتى الحكم الذي سيصدر، ولكن في إصلاح العدالة الذي جسده جيل من القضاة الشباب تجاوزا عقدة أنهم فوق ''البشر'' وأن كل واقف أمام منصات محاكمتهم مجرد ملف ''ورقي'' مطلوب منهم البت فيه بسرعة.. المتهم في واقعة محكمة مسعد لم يكن ملفا ولكن إنسانا بكل ما تحمل الكلمة من معنى، احتاجت جلسة محاكمته لثلاث ساعات كاملة في قضية تبدو تافهة، لتكون النتيجة أن قال محامي المتهم ليس لديّ ما أقول.ولكم واسع النظر... نهاية المحاكمة أني علمت بعد مغادرتي المحكمة أن تلك القاضية التي دفعتني الصدفة والفضول لمتابعة طريقة إدارتها للجلسات، قد حققت معها وزارة العدل إثر رسالة مجهولة وصلت إلى الوزارة تتهمها بالتعسف في إصدار الأحكام. والحقيقة أن المعنية متعسفة حقا ولكن ليس في إصدار الأحكام وإنما في السمو بالعدالة لكي تكون هي الإنسان، في بقعة كان يكفي فيها أن يعرف ''القاضي'' اسم ''أمك'' حتى يدينك بنصف مليار مع ستة أشهر سجنا ليصبح فيها من حق المتهم أن يستوقف القاضية ويصرخ فيها ''لا تورطيني..''.. وحقا إصلاح العدالة لا علاقة له بإصدار قوانين وتشريعات جديدة وإنما بضخ دماء جديدة في قطاع هو أساس الدولة، دماء مثقفة وواعية بأن مسؤوليتها ليست أمام بلعيز ولا أمام بوتفليقة ولكن أمام الله في المحافظة على إنسانية عباده حتى أثناء الحكم بإعدامهم.