كانت الساعة تشير إلى الحادية عشر ليلا بالتوقيت المحلي، حين لاحت في خيط الأفق المعتم أضواء حمراء حسبناها في بادئ الأمر سفنا ''صديقة'' تخط مسارها باتجاه واحدة من مدن المتوسط، لكن اتصالا منها مع ربان السفينة قلب الصورة رأسا على عقب وجعل جميع من هم على ظهر ''مافي مرمرة'' يتجهون نحو حافتها اليمنى وفي يد بعضهم مناظير ليلية علّها تكشف الخطر المترصد وراء حجب الليل،.. للتو وصلت مكالمة من مصدر تلك الأضواء تطالب قبطان السفينة التركية بالتوقف والرجوع من حيث أتى وإلا ''فرياح السماء'' تنتظر بالمرصاد..! صعدت إلى عليّة السفينة التي كانت تجهز حالها من غير سبق إصرار لتزف فرسان الشهادة إلى جوار مقعد صدق عند مليك مقتدر، فإذا بي أفاجأ والكل في غمرة الحماس والرهبة والانتظار برئيس ''أسطول الحرية'' التركي بولاند يلدرم جالسا على مقعد خشبي يرتشف فنجان شاي تركي معطر كعادته منذ أن شاهدته لأول مرة لم تغادر ابتسامته الواثقة وجهه الرجولي، لم يرتد حينها لا واقي رصاص ولا خوذة غازات ولا حتى سترة النجاة البرتقالية التي جعلت من سطح السفينة يتلون بلون التغيير الذي حمله الثوار في أوكرانيا واليونان وجورجيا ذات ليال ثورية غيرت وجه الديكتاتوريات، ربما القدر كان يخبئ لنا شيئا كنا نظنه بعيدا لكن مسار الأحداث خاطبنا بلغة واضحة فصيحة ''صبرا ..صبرا ..فما هو آت سيكون له مابعده''. حسن.. ما بال بولاند يبدي كل هذه الثقة واليقين في أوقات نحن نعيش ثوانيها ترقبا للقادم المجهول؟ سؤال طرحته على منسق الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بمنظمة ''إي هاها'' التركية حسن أيناجي الذي كان يتقن العربية لينقله إلى رئيسه بولاند، لكن هذا الأخير لم يقطع ابتسامته وهو يجيبني بكل برودة ''نحن نعد مفاجأة للمهاجمين الصهاينة..!''. تشويش في الأجواء يسبق ''رياح السماء'' في تلك الأثناء كان الوفد الجزائري يرابط في مكانه على الجهة اليمنى من مقدمة السفينة، وإلى جانبه الوفدين الكويتي والبحريني وحتى المغربي، أما الدفة اليسرى من الجهة المقابلة فقد توزع فيها الإخوة الأردنيون واليمنيون والإندونيسيون.. عبد الرزاق مقري أو بالأحرى ''قائد الكتيبة'' رفقة النائب زين الدين بن مدخن الذي كلف هو الآخر بمهمة التنسيق الأمني مع الأتراك، شرعا في توزيع بعض القضبان الحديدية على أعضاء الوفد الجزائري، علّها ترد شيئا من وحشية حفدة شارون وبن غوريون، وإن كانت مجرد مواسير رمزية اقتطعت من بعض أجزاء ''مرمرة الزرقاء'' لا تساوي شيئا في ميزان قوة وفتاكة ما يحمله خفافيش الظلام الذين استأسدوا على قافلة إنسانية ركابها مدنيون لم يسمع معظمهم طلقة رصاص أو دوي قنبلة من قبل إلا في أفلام جيمس كامرون الهوليوودية. هنا ومع اقتراب موعد الحسم صار لزاما أن ينقسم الوفد الجزائري، النساء أجبرن على النزول إلى الطابق الأول للاحتماء من الغدر الزاحف، كبار السن ممن كان لهم السفر في البحر بحق قطعة من العذاب أبوا إلا أن يأخذوا قسطا من الراحة وهم مرابضين في أماكنهم، لم يفتّ إرهاق السن ووحشة المكان من عزيمتهم في استقبال ضيوف ثقيلي الظل فرضوا أنفسهم بمنطق قراصنة الكاريبي في عصور أوروبا المظلمة. أولى بوادر ''رياح السماء'' بدأت تظهر مع انقطاع الإنترنت وخطوط البث الفضائي، هناك في ركن من أركان ''مرمرة'' يحاول الزميل في قناة الجزيرة عثمان البتيري عبثا ربط الاتصال مع الاستوديوهات في العاصمة القطرية الدوحة لنقل آخر ما يمكن إيصاله إلى العالم قبيل الهجوم الإسرائيلي، عثمان الذي سبق له وأن تعرض للأسر خلال مشاركته في قافلة مشابهة لكسر الحصار عن غزة، كان يدرك تماما أن أول ما تستبق به إسرائيل هجومها هو قطع البث الفضائي وجميع خطوط الاتصال المربوطة مع الأقمار الاصطناعية بما في ذلك هواتف الثريا، حاولت أنا الآخر دون جدوى الاتصال بعائلتي لتوديعها وتطمينها في نفس الوقت من هاتف الثريا الجزائري الذي تركه الحاج لطيفي بحوزة الناشط الفلسطيني أسامة، لكن إسرائيل أبت إلا أن تمنعنا حتى من توديع الأهل والأحباب وكأنها كانت تخشى من أن يستجيب الله لدعوة أم تحرقها لوعة الشوق والخوف على فلذة كبدها، فترد تدبيرهم في تدميرهم وكيدهم في نحورهم ..ولكن هيهات فإسرائيل هي إسرائيل.. اللّه أكبر ..رصاص وقنابل ودماء في تلك الليلة لم يتسلل النعاس إلى عيني رغم قلة النوم التي صاحبتني منذ اعتلائي السفينة بميناء أنطاليا قبل أربعة أيام، شاب كويتي في ربيعه الثامن عشر كان كل همه أخذ صور للذكرى وهو يرتدي سترة النجاة، وكأني به لم تسعفه سنون حياته القصيرة في أن يقدر حجم الخطر الكامن على بعد أميال أو ربما لحظات من حيز أحلامه وآماله في توزيع صور بطولاته على زملاء له في الكلية أو أصدقاء له في الحي والنادي...محمد ذاك الشاب البريطاني الوسيم من أصول هندية مسلمة اعتدت مشاهدته مستلقيا على بطنه في بحار نومته السابعة على سطح السفينة منذ أن وطأتها قدماه وهو الذي سبق له وأن شارك في قافلة غزة الحرة مع النائب السابق جورج غلاوي، حاله اليوم مختلف.. هندام رياضي وكوفية فلسطينية معصوبة على الرأس وسلسلة غليظة تتدلى من رقبته ادخرها لوقت الضيق، ''نيو لوك'' محمد كما يسميه الإنجليز يوحي بأن هذا الشاب الأسمر أدرك ووعى وفهم ما ينتظره قبل فجر اليوم.. مصطفى مقري..صورة طبق الأصل لعبد الرزاق الأب فعلا ''هذا الشبل من ذاك الأسد'' عناد وإصرار وقوة صفات نقل منها نائب رئيس حمس الكثير لولده الوسيم وزاد عليها هذا الأخير حماسة وإقدام الشباب، لم تفارق يديه كامرا التصوير وقضيب الحديد، يريد أن ينقل بالأولى على صفحات ''الفايس بوك'' فضاعة كيان بنى أسسه على جماجم الأبرياء، ويصر على أن يدافع بالثانية عن حياض سفينة حملت شرف وعزة ونخوة عالم يموج بمظالم لا نهاية لها. الساعة الرابعة و23 دقيقة صباحا بالتوقيت المحلي، الثانية بتوقيت الجزائر، الجميع كان يصلي الفجر علّه يكون آخر عمل يلاقي به المرء وجه ربه، أدينا أنا والشيخ أحمد براهيمي وزميلي الصحفي عبد اللطيف بلقايم الصلاة في مكان رباط الوفد الجزائري، لم نكد نكمل الركعة الثانية حتى بدأت الأصوات تتعالى وكاشفات الضوء المنصبة على مقدمة ''لافي مرمرة'' تبسط أنوارها على صفحات المياه المظلمة، الجميع صار يصيح ''الصهاينة قادمون..''، ما إن سلمنا والتفتنا خارج السفينة حتى فهمنا أن ''رياح السماء'' التي كانت تهديدات تضخها إسرائيل في وسائل إعلامها قد صارت أمرا واقعا وحتمية توقعنا بعضا من نتائجها حين تكشف لنا الحجم الهائل للقوات الصهيونية المشاركة في تلك العملية، أوامر المشرفين على السفينة طالبتنا بعدم التكبير تفاديا لأي استفزاز قد يتخذه الصهاينة ذريعة لضربة همجية جرى التخطيط لها من قبل في مخابر القوات العسكرية الصهيونية، حالة من الصمت والترقب سادت السفينة قبل أن تحاول الزوارق الحربية التي طوقت سفينة ''مرمرة'' وعزلتها عن باقي سفن الأسطول الأخرى التي جرى السيطرة عليها في وقت وجيز، الاقتراب منا لكن مقاومة الركاب لها بخراطيم المياه الضعيفة والمقذوفات التي كانت بحوزة الوفود حالت دون تمكن فرق الكمندوس والبحرية الصهيونية من القيام باختراق الباخرة، في تلك الأثناء بدأ دوي مروحية عسكرية عملاقة يقترب من السفينة وفي لحظات قليلة اجتاحت السفينة رياح مهولة حملت كل شيء وهيجت مياه البحر من حولنا، آه إنها هليكوبتر من نوع الأباتشي تحوم على بعد 3 أمتار من السطح العلوي للسفينة..جميعنا صاخ بوجهه لترقب ما ستنزله من بطنها..حبلان يتدليان وجنديان ينزلان هكذا كانت بداية الملحمة.. يتبع... في الحلقة القادمة: - الأتراك والجزائريون مقاومة إلى آخر رمق. - هكذا تم إجلاء الجرحى والشهداء. - الموساد يخترق السفينة ..والعملاء صحفيون غربيون..