يشترك مشهد دول الربيع العربي حاليا في قواسم كثيرة وعديدة، خاصة تلك الدول التي استطاع فيها التيار الإسلامي المعتدل الوصول للسلطة والحكم من خلال "صناديق الاقتراع" وبإرادة الأغلبية الشعبية. تونس، حالها اليوم كحال مصر وليبيا وغيرها من دول الربيع العربي، وإن كان هناك تفاوت بين دولة وأخرى، إلاّ أنّ اللاعب واحد بمشهد يبدو جليا في مصر وتونس، وبشكل أخف في ليبيا وليس ببعيد ذلك اليوم الذي نجد فيه المشهد يتكرر في المغرب واليمن، وفي أي دولة عربية يبحث شعبها عن غد أفضل في جوّ الديمقراطية والحرية والكرامة. بدأت قصة الأحداث الحالية التي تشهدها مصر، وتدفع جهات نحو تكرارها بتونس وليبيا، بإنشاء حركة "تمرد" التي سعت لجمع توقيعات شعبية من أجل عزل وإسقاط الرئيس المصري "المنتخب ديمقراطيا" محمد مرسي، في الذكرى السنوية الأولى لتوليه مقاليد الحكم (365 يوم)، وكانت الداعي الرئيسي لمظاهرات "30 يونيو (جوان)" ، مستندة في ذلك إلى توقيعات تقول إنها جمعتها من نحو 22 مليون مصري يؤيدون مطالبها، وانتهت تحركات "تمرد" إلى مظاهرات "30 يونيو (جوان)" التي أعقبها بعد أيام ثلاث "انقلابا عسكريا" قاده وزير الدفاع عبد الفتاح السيسي، ضد الرئيس المنتخب محمد مرسي الذي تمّ اقتياده لمكان مجهول. "تمرد" كانت فكرة انطلقت في مصر، واليوم تجوب شوارع تونس، مستغلة حادثة اغتيال المعارض التونسي محمد البراهمي، الذي كان مؤيدا لفكرة "التمرد" على حركة النهضة وشريكيها في الحكم حزبي التكتل والتجمع، فيما عرف ويعرف ب "الترويكا" التي انبثقت عن مجلس تأسيسي منتخب، يريده اليوم أعضاء "تمرد" وبعض الأحزاب السياسية المعارضة التي فشلت في اختبار "صناديق الاقتراع"، أن يكون "منحلا"، بعدما وصل لنهاية شوط المرحلة الانتقالية، بتوافق حصل حول دستور تونس، مع قرب الإعلان عن انتخابات رئاسية وبرلمانية، يحتكم فيها الجميع، من إسلاميين وغير إسلاميين، من موالاة ومعارضة، إلى معادلة "الصندوق الشفاف"، الذي وحده سيفرض كلمته الأخيرة حاملا اسم الحزب، والشخصية التي ستحكم تونس بعد مرحلة انتقالية عصيبة، وعقود من زمن الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي. حركة "تمرد"، سواء المصرية، أو التونسية، أو المغربية والليبية، ما دامت كل الدول العربية التي شهدت "ثورات شعبية" أو لحقتها رياح "الربيع العربي" ودفعتها نحو تبني إصلاحات عميقة حققت تغييرا نسبيا، تعرف اليوم حركات "تمرد" بشكل يشبه إلى حد كبير ما يسمى أو يعرف ب "الثورات المضادة" التي يراها بعض الفلاسفة والمفكرين إحدى لوازم أي ثورة شعبية. في مصر، جرى في الأول حرق مختلف مقرات جماعة الإخوان المسلمين، وذراعها السياسي حزب الحرية والعدالة، و"شيطنة" الإخوان المسلمين إعلاميا وقضائيا وأمنيا، كما مورس قمع شديد على كل ما هو "إخواني"، فلم تمر ساعات على حدوث "الانقلاب العسكري" إلاّ وبدأت الهجمة، بدءً من غلق جميع القنوات التلفزيونية التي تحمل صبغة "الإسلامية"، إلى الزج بالعديد من قيادات الإخوان المسلمين في السجون والمعتقلات، وكان أولهم رئيس الجمهورية المعزول محمد مرسي الذي لم يظهر له أثر منذ ذلك الوقت، منذ آخر تسجيل مرئي له، أكّد فيه معارضته لكافة الإجراءات التي اتخذها السيسي وتمسكه ب "شرعيته كرئيس منتخب لمصر"، مرورا بمجازر يندى لها الجبين، كمجزرة محيط نادي ضباط الحرس الجمهوري التي راح ضحيتها عشرات القتلى ومئات الجرحى، قبل أن تحل المذبحة الثانية في عهد السيسي ومن هيأ له ظروف وشروط "الانقلاب العسكري"، حيث قتل ما يزيد عن 100 شخصا من مؤيدي الرئيس المعزول محمد مرسي. وحاليا، نفس الأمور يجري طبخها في تونس وليبيا والمغرب، وكانت البداية مع تأسيس ما سمي ب "حركة تمرد" التي بدأت في جمع توقيعات ل "سحب الثقة من المؤسسات المنتخبة والديمقراطية"، وبالفعل تمّ ذلك، بل وشرعت هذه التحركات في الخطوة التالية، بشكل يوحي وكأنّه تكرار بالتفصيل لما ورد في سيناريو "تمرد مصر"، فها هي تونس تشهد حرقا لمختلف مقرات حركة النهضة الإسلامية، ونفس الأمر مع مقرات الإخوان المسلمين في ليبيا، التي شهدت خلال اليومين الماضيين أعمال حرق وتخريب لمقراتها. مراقبون، محللون، وسائل إعلام عربية وغربية أجنبية، مفكرون غربيون.. مختلف من سبق ذكره يكاد يجزم بأنّ الذي يحدث في دول الربيع العربي الآن، خاصة في مصر وتونس، بمثابة تحركات لشيطنة الإسلاميين دون تمييز، وإجهاض مخرجات صناديق الاقتراع، وتيئيس الناس من قيم الديمقراطية والحرية. نسيم عبدالوهاب رئيس مجلس شورى حركة الإصلاح الوطني، حملاوي عكوشي: التاريخ سيشهد أن الإسلاميين كانوا أرحم من غيرهم حين وصلوا إلى السلطة يرى رئيس مجلس شورى حركة الإصلاح الوطني، حملاوي عكوشي، أن ظاهرة "شيطنة" الإخوان المسلمين والإسلام السياسي عموما في العالم العربي ليست جديدة، حيث كانت الأنظمة العسكرية على مر التاريخ الحديث تستعمل كل الأساليب القمعية والدعائية من أجل القضاء عليهم ولكنها لم توفق في ذلك. ويوضح عكوشي أن الحملات الإعلامية الإقصائية التي يتعرض لها الإخوان في مصر، تهدف إلى تشويه صورتهم وتلفيق التهم لهم لإيجاد المبررات للانقلاب العسكري الذي شهدته مصر ضد الشرعية الشعبية. في حين لم تترك مواقع التواصل الاجتماعي حسبه أي فرصة للانقلابيين وفضحت ممارساتهم القمعية بالصوت والصورة. وأشار عكوشي إلى أن النظام العسكري القائم في مصر منذ 1952، ارتكب فظائع في حق الإخوان المسلمين وحاول على مر التاريخ تشويه صورتهم. ولن ينسى التاريخ الإعدامات الشهيرة بحق أعلام الأمة كعبد القادر عودة وسيد قطب وغيرهم ممن تم الغدر بهم من قبل العسكر بتهم واهية. وأكد عكوشي أن الصورة التي يظهرها الإعلام المصري لا تعكس حقيقة نظرة الشارع المصري للإسلاميين، مشيرا إلى أن فئات واسعة من المصريين ليست محسوبة على الإسلاميين تساند الشرعية الممثلة في الرئيس مرسي، بعد أن أدركوا أن ما جرى بعد 30 جوان لم يكن سوى انقلاب يهدف إلى عودة العسكر والنظام السابق إلى الحكم. وفي السياق نفسه، لفت عكوشي إلى أن توقيف المسار الانتخابي في الجزائر، أحدث حالة من التعاطف مع الفيس من قبل الجزائريين، إلا أن الانقلاب على الشرعية في مصر تعدى حالة التعاطف إلى تشكيل جبهات مناهضة للانقلابيين تضم كل فئات المجتمع المصري، مثل جبهة الضمير التي يوجد من بين أعضائها مسيحيون وشخصيات ليبرالية ويسارية. واستبعد عكوشي أن تكون هذه المحنة التي يمر بها الإسلاميون في مصر وتونس، دليلا على فشل المشروع الإسلامي أو نهاية فكرته، قائلا "مازال الإسلاميون الرقم الصعب في المعادلة، وسيشهد التاريخ أنهم لما حكموا في تركيا أو مصر أو تونس لم يصادروا حريات الآخرين، وكفلوا حرية الصحافة وباقي الحريات السياسية". وأضاف قائلا "أما الليبراليون واليساريون فقد ثبت بالتجربة أنهم غير قادرين على الوصول إلى السلطة إلا عن طريق الدبابات لأن الشعوب تلفظهم. والتاريخ سيحكم بأن الإسلاميين كانوا أرحم الناس بالشعوب، عكس هؤلاء المتشدقين بالديمقراطية التي توصلهم هم فقط إلى السلطة ولو كان ذلك على حساب الدموع والدماء". محمد سيدمو البروفيسور بوحنية قوي أستاذ العلوم السياسية ل"البلاد" أخطاء الإخوان لا تبرر الانقلاب.. والاستقواء بالشارع مغالطة يتعرض "الإخوان" إلى هجوم في العديد من الدولة العربية مثل مصر، تونس، ليبيا والمغرب مؤخرا: ألا تعتقدون أن هذا التحرك ضد المعتدلين قد يخلق تيار متطرف مكان المعتدل، باعتبار أن العنف يقابله العنف؟ سؤالكم يعطي الانطباع الأولي بتعاطفكم مع هذا التيار الاسلامي الكبير والواسع الانتشار.. صحيح أن مؤشرات كثيرة توحي باعتدال هذا التيار، لكن التيار المقابل له ما فتئ ينعته بأبشع الصفات بدء من التطرف الفكري وعدم قبول الآخر وصولا إلى العمل المسلح وتبني الإرهاب. والحقيقة التي لا ينبغي تجاهلها هو أن هذا التيار يشكل طيفا سياسيا مهما لا يمكن تجاهله ويعود ذلك لتجربته المريرة في العمل السياسي والتطوعي لمدة تجاوزت الستين سنة، خصوصا وذلك عندما يتم الحديث عن الحركة الأم في مصر، وعند ملاحظتنا لما يتعرض له هذا التيار مؤخرا في مصر والمغرب وليبيا يمكن أن نستنتج عدة ملاحظات، أولها أن هذا التيار لم تعط له الفرصة الكافية للتعاطي مع الشأن السياسي بعد المحطات الانتخابية المختلفة الرئاسية والنيابية، وتم التعامل معه من طرف خصومه ومنافسيه بمنطق المتتبع للعورات وليس من منطق الشراكة، والإشكالية الكبرى أن الانتقادات التي وجهت لهذا التيار لم تكن فقط من الاتجاه اللبرالي بل حتى من أصدقاء الفكر السياسي الإسلامي الواحد، أذ لاحظنا أن قادة إسلاميين ساندوا شفيق على حساب مرسي مثلا، كما لاحظنا تذبذبا في تعاطي حزب النور السلفي مع تجربة مرسي في إدارة المرحلة السابقة، ولعل هذا الانطباع العام أعطى مبررا لخصوم مرسي بالاستقواء بالشارع وهو ما أنتج ديمقراطية هجينة يمكن تسميتها ديمقراطية الشارع؟ وتحولت المعركة إلى كسر عظم بين شارعين رجح الجيش الكفة أخيرا لصالح خصوم التيار الإسلامي، ولعل هذه التجربة تؤكد لنا درسا ثانيا ومهما وهو أن قادة هذا التيار الاسلامي لم يحسنوا تقدير الأمور في اللحظات المفصلية السابقة، إذ من كان يتوقع أن اللواء السيسي الذي رقاه مرسي في رمضان من العام الماضي سيعلن الانقلاب عليه بعد أقل من سنة؟؟. أعتقد شخصيا أن منطق الاستقواء بالشارع مغالطة كبرى تجر إلى انزلاقات خطيرة وعنف معقد وتجزئة المجزء في ساحة مفتوحة لجميع السيناريوهات، ولذلك من الأهمية بمكان أن يتم التعاطي مع الديمقراطية ككل لا يقبل التجزئة، والقبول بقواعد الشرعية والتعاطي بمنطق العدالة الانتقالية الذي لا يقصي أي طرف، وأرى من خلال تصاعد العنف أنه إذا لم يتم الإنصات لمنطق الحكمة، فإن العنف سيأخذ أبعادا لا يمكن التنبؤ بها. بعض المراقبين يعتقدون أن هذا التحرك ضد الإخوان جاء بالنظر للأخطاء التي ارتكبوها يعد أن وصلوا لسدة الحكم، ما رأيكم في ذلك؟ وإن كان ذلك صحيحا، ما هي أهم الأخطاء التي من أجلها ثارت الشعوب ضدهم. لكل تيار سياسي أخطاؤه التي سيقع فيها عندما ينتقل من حقل التنظير وميدان العمل المحظور إلى العمل المعلن، والتيارات السياسية الإسلامية جزء من هذا الطيف، وأرى شخصيا أن الحكم على تجربة لم تتجاوز السنتين توقعنا حتما في فخ الاستعجال في الحكم على منطق سير الأمور، لأن العمل السياسي في المرحلة الانتقالية يتطلب أدوات منهجية جديدة وعقلا علميا يرى الظواهر بشكل منهجي متداخل، ومن الصعب الحكم على تجرية الإسلاميين في كل دول الربيع العربي بمنطق واحد ولكن في الحالة المصرية ظهر الرئيس المصري وهو يخاطب الجماهير بمنطق استجدائي، لم يعرفه المصريون وقد عاب عليه خصومه أنه سعى إلى أخونة الدولة بتعيين قادة اخوانيين كمحافظين ووزراء، بالإضافة إلى عدم قدرته على لم شمل طبقة سياسية وطنية موحدة حتى من داخل نفس الطيف السياسي الذي ينتمي إليه. في ثقافتنا مثل يقول أن كل بني آدم خطاء، هل الخطأ يبرر الانقلاب على شرعية الصندوق والديمقراطية بصفة عامة؟ انأ لا أرى الأمور بمثل هذا المنطق، بل أرى السياسة فن الممكن وفي بعض الحالات أخطاء الساسة تصيبهم في مقتل، وهو الذي يقع الآن للأسف الشديد، ومع ذلك فالأخطاء تعالجها صناديق الاقتراع والاستفتاء وبوابة الشرعية الدستورية لا بوابة الانقلابات غير المتناهية، لأن الانقلاب سيعقبه قطعا انقلاب. هذا الانقلاب الذي حدث في مصر، ويحاول البعض إعادته في تونس ألا يقضي هذا على أهم مبدأ في الديمقراطية، وهو حكم الصندوق؟ وهل يمكن أن نقول أن الديمقراطية انتهت؟ الديمقراطية عملية استنبات وثقافة تدوم طويلا، لذلك نحن في بداية الطريق ويخطئ من يتوقع أن الديمقراطية مجرد انتخاب أو استفتاء، هذه أدوات قانونية ودستورية، لذلك نرى في الديمقراطيات العريقة أن بعضها استمر قرونا ليرسخ مبادئ التداول على السلطة وقبول الآخر. يرى البعض أن هذا الحراك ضد الحركات الإسلامية الإخوانية في دول الجوار، قد يكون له انعكاس سلبي على الأحزاب الإسلامية في الجزائر، بحيث تؤثر هذه الأحداث على الناخب ويتجنب انتخابها خوفا من تكرار نفس الأحداث هنا، ما رأيك في هذا الطرح؟ لا اعتقد بذلك، فالأحزاب السياسية الإسلامية في الجزائر تعد جزء من المشهد السياسي منذ أول دستور تعددي، لكن القواعد الحزبية لها هي من سيحدد مصيرها وحجمها الحقيقي بفعل ما تقدمه من مبادرات في قضايا العمل السياسي والاقتصادي والاجتماعي والمحطات الانتخابية المختلفة هي من يعطيها القول الفصل ومعركة الحضور السياسي الحقيقي. حاوره: عبد الله ندور