تتفتّق الكلمات ثم تتفقّع، هناك شيء ولا شيء، الصورة وحذفها، الرغبة ومحوها، الهمّة ونحوها. نستشفّ في كتاب من دسّ خفّ السيبويه في الرمل؟ نحواً يتذكّر ويتأنّث، يتركّب ويتأثث، يتوحّد ثم يتفتّت: «أنثى واحدة، لكن كم جسد؟». ونستشرف الزمن بين المكوث في الآني والهروب نحو الآتي: «وصل القطار». يتّخذ الوصول صيغة الحنين إلى الأصول وانعطاف النهايات على البدايات. لكن من أين يبدأ؟، وهل يهدأ؟، يشكّل دبيب الرغبات تركيباً في النحو وتفكيكاً في المحو، يريد ولا يريد، يكتب ويشطب، يدوّن ويحذف، وربّما يحرّف: «ثمّ أخذ يُعمل في النص حاذفاً.. حاذفاً: كلمة تُجرح، وأخرى تطرح، وأخرى تشقّ، وأخرى ترحل». لا يمكن للكلام سوى أن يجرح، رغبة أو رهبة، لأنّ في جسده نقرأ الكُلم، الجرح، الأثر، الشقّ. كل كتابة هي قطع بالمقراض الحادّ، تقتطع فقرات من الحياة لتغلّفها بسرابيل من حروف. يتخلّل البياض هذه الكتابة أو تتسلّل النصاعة في تلك الصناعة، وتتوسّع كلما انهالت الرغبة من ملح الوقائع فتزداد ولهاً وظمأ: «بقيت الكلمات البيضاء»؛ «السرير يأكل البياض»؛ «بياض البدء». جسد حافل، لكنه لافح، يحترق رغبةً، ينجرح ويجترح: «ذكرها هيّج قلبه الثمل». إنّه الجسد الآني الذي يبتغي الآتي، لكن لا تنفك كلوم الفائت في هزّ الحاضر برعشات يكون فيها العَذْبُ عذاباً، بالذاكرة الماكرة، تَستحضر وتُنسي، تُصبح ولا تمسي، وهو لم يستفق من غفوة البياض داخل سواد الغرفة. يستمع في الغرفة إلى حكايات الماضي بآذان الطفولة فيستمتع بصور المشهد المرتسمة في شاشة الخيال. إنّه في الغرفة، فهو يغترف؛ يغترف من اليمّ الأبكم الأصمّ: «تبحّر..تُ». تنعزل تاؤه عن البحر ليتأمّل الشمس وهي تلج فيه، فالتقى الماء بالنار وغطس اللهيب في القاع. تلاشت الأنوار في الأغوار ولا تزال تاؤه معلّقة بالأضواء الآفلة. يريد أن ينام كباقي الأنام، وفي الأنامل بقايا الهموم. يستهويه انقلاب الشيء إلى الأمر: «وملأتها بالوعيد: أكسرك إن كُسِّرت». لقد صار المحتوى موضوع العوى؛ تحوّلت الجرّة إلى صورة الصارم القاصم بينهما إعراب حرف: «الجرّة ..الجدّة». وتحوّت حاملة الجرّة منجذبة إلى أديم البراري. في هذا الحبّ الأصلي تهبّ رياح التجرّد وتتقمّص الكلمات الأشياء: «الريح جرادة»، «الحقل يتجرّد»، «زاده الجريدات»، «ألقموا الجرائد». تتجرّد الكلمات بعرائها البديهي لا بشفافيتها الميتافيزيقية. فهي تعانق الملامس اليومية ببداهتها العُرفية والعَقدية (الجدّة، الشيخ) وببواده الطبع والهوى (الصبيّة، الفتى). لقد أضحى الكائن نصّاً بعدما كان فصّاً: «قرأها، قرأني»؛ انتقل من خلاء الصحاري إلى ملاء الحواري: «كلما مررت تحت نافذتها ملأتها وملأتني». الحوّاء، الحواريّة، المتنفّذة، المستنفدة، المنفذّة لنداء السماء. يصعد إليها الشوق في إسرائه، ولم تكن هي سوى في أسراره، تسري فيه سريان الدم في الشريان: «وملأتني». إنّه الفرار من صحاري الظمأ إلى مجاري الارتواء. لهذا الانتقال إعرابه وعربته: الإسراء، الكشف، البراق، سدرة المنتهى. سفر وإسفار. نصيص بالأرجل ونصوص بالأعين. مشية ورمشة. الرواح والمجيء: «سوف تجيء»، «هل نجيء؟». إلى أين؟، ربّما في هذا "النحو": في هذه الجهة وفي هذا الإعراب. الجهة نفسها الإعراب. كل من يتوجّه يعرب عن ذاته، ويعرب الكائن في لغته ولسانه: «فما كانت رحلتي إلا فيّ ودلالتي إلا عليّ» (ابن عربي، الفتوحات المكية، 3، 350). الرواح كالرجوع، فحيثما غادر المكان حلّ بالمكان. فغادر وحلّ، فجمع بين النقيضين. يبحث عن أصله الذي هو في خصره. لا يراه سوى في مرآة شقّه: «قلتَ أصل الحقيقة أنثى؟». يلتفت إلى ذاته عساه يجد حقيقته. فهو يدور ويحور، يبهت ويحار: «ومواسمنا شغف الله بالدوران». أصل الكائن الاستدارة، والاستقامة هي فرع. يبحث ويدور، يلج ويغور، يهيج ويحار، يشمئز ويغار. يهيم في الجمال: «واجه المرآة يتجمّل كي ينام»؛ مرآته ذاته. في الحبّ يرقى ويشقى. يفرّ من ذاته نحو لذّاته (القهوة، الحشيشة، النوم): «حتى تعجنه الدّوخة». وهل في الدوران شيء غير الدوخة؟، وهل في الهيمان شيء غير الحيرة؟، يجعل من إحداثيات وجوده طقوسا لحياته ومماته: رسول الأنثى، سورة الفرح، ماء الوتر. يحار على مشارف القاع والنقاع: «وهو يتدلّى»، على وشك الانحدار والاندحار. يفرّ إلى الخيال الواسع المانع الجامع بين طغيان الحسّ وعلوّ المثال: «فتكشفت له الأنترنيت عن جسد يقول عنه أجداده: ما لا عين رأت، ولا أذن سمعتْ». يرى من هذه النافذة المطلّة على الخيال عصارة الغريب والرهيب والعجيب الخلاّب. بالخيال يُجمَع جسد الفرس بجذع ورأس الإنس فيكون المخلوق الأسطوري "القنطور". وبالفوتوشوب يمكن اختلاق كل قصّة وغصّة؛ فيكون الحيّ ميّتاً والميّت حيّاً، والسليم سقيماً والعقيم خصباً. في هذه البرازخ الوجودية (الخيال، الفضاء الافتراضي) تتواطأ الأضداد وتنقلب الحقائق. يعود إلى الواقع ليلمس أشياءه ويرى أطيافه وأليافه، ويشعر بأفراحه وأتراحه. يعانق الوجود بعدما جال وصال بين القيود. تذكّر بعدما تنكّر وقال بأنّ مأواه هنا، في هذه الحاضرة التي يلتقي فيها الآفل بالحافل، أو الفائت بالآني. هي الأخرى بيضاء بحيطانها ولكن حمراء بتاريخها، هي الجزائر التي تحمل في جسد حروفها الجازر والزاجر. سديم من الآلام والآمال؛ نيازك من اللفحات والنفحات: «من أرادَ يعرفُ الجزائرَ العاصمة فليركبْ فيها الليلَ، تنام أسطورة "البيضاء"، ويصحو وجهها ذو الفتنة والسّواد». ما يراه في هذا المأوى الكبير الذي ينتمي إليه قلباً وقالباً، يدركه في المأوى الصغير الذي يغترف من حركته اليومية: إنّه الغرفة. إنّه البيت بوصفه النواة المصغّرة التي تعكس في أحشائها الغابة المتشعّبة. من أراد أن يفهم الكون الكبير (البلد)، فما عليه سوى أن يفتح أبواب الأكوان الصغيرة (البيوت) ويرى في الأركان المتقابلة «تَشَخْصُن» الأفراد. الكلّ يحمل قناعه: «خطوة الثعلب»، «الذئب صديقي». لقد أصبح الشخص حيواناً ليس بحكم البهيمية، لكن بحكم هذه الحياة السارية. الحيوان هو اسم المبالغة لحياة تنضح بالأشواق والرغبات والمسامرات والمغامرات. حياة كان بدؤها ومبدؤها هو السؤال: «مطر السؤال». يمطر الوجود أسئلة وهموماً، لأنّ الأصل هو السؤال والإجابة عَرَض. السؤال هو قلب الحيرة التي يدور معها ويحور، يستلب ويغترب: «يا غربة الكلمات في الكلمات»؛ ينعطف المبتدأ والمنتهى: «هل أضحى التنائي في التداني؟». لا مراء في ذلك، فهو يدور ويحور ويعطف النهاية على البداية. لم يبرح مكانه: «أصبحت كلّ الحروف هزيمتي؟». لم ينهزم بل اندغم. أدغم كائنه في عرينه، يختفي ويغترب عساه يبزغ ويشرق: «والصّباحات احتمال». له ولع بالغرفة التي يختفي فيها، يغترف فيها من مناهل الرغبة في المعرفة (الحيّ الجامعي) والمعرفة في الرغبة: «وتريد الغرفة أن تكون عروساً؟». فكيف تتعرسن الغرفة بفقدان الأنثى؟، إذا فُقِد الأصل زال العقل. لا يزال يبحث عن أصله في دورته وحيرته: «إذن تنوين تهجرين؟». هجرته أم هاجر إليها؟، الهجران في كلتا الحالتين فقدان ووجدان: لم يرحل سوى إلى المكان الذي رحل عنه، لأنّه لا يزال يدور ويحور ويقف عند «كوخ المواعيد في المنحنى». ينحني كائنه ويحنّ، حنينه للأصول يجتاز الفصول برطبها ويابسها، بحرّها وباردها. فهو قطعة من جلجامش السومري يبتغي الخلود ومغادرة القيود: «يجعل الوقت مشنقة للأماني». في اغترابه والتماس خلوده يأخذ نايه ويغنّي مردّداً عبارة جبرانية بنبرة فيروزية وعبرة نيروزية: «أعطني الناي وغنّي، فالغنا سرّ الوجود؛ وأنين الناي يبقى بعد أن يفنى الوجود». وأنينه يبقى بعد زوال الوعود وتلاشي العقود. تعلو أنغامه بعلوّ الهمّة في السماء: «أريد أعتلي مكاناً. أعتلي رغبتي فيك». قِبلته إليها هي التي قُبلته لها. يختتم رواق الوجود بعناق المحبوب. لكن يجد السراب قد لاح له في الأفق. يحسبه ظمؤه ماءً، فإذا هو يتبخّر كالحلم: «تحدث عن فتاة لا تجيئكَ/ عن مدارات تضيئكَ/ عن يد تمتدّ كالرّؤيا». يسافر بعتاد المحارب المواظب وبملاحم دونكيشوتية ويدرك طول العناء وفي ذاته توجّس من لحظة العصف والكشف مستحضراً المقامة الهمذانية: «سوف ترى إذا انجلى الغبار، أفرس تحتك أم حمار». عمّن يبحث؟، عنها أم عنه فيها؟ «زوجيني نفسك». يروم التلاقي في التلاقح: «همزة الوصل في وصلنا». يكتم شوقه في صمته. يهوى الفناء في البقاء. يدوّن الأطراس ويقيم الطقوس. يبتغي شعائر السموّ وضمائر العلوّ: «هل نطير؟»، «من الكشف ما هزّني للسماء»، «تعالى الذي أسكر الشفتين». افتتان سماوي بافتتاح أرضي. ضمّ جسدي وتوحيد وجداني. يقرأ في أطراسه مشاهد عروجه: «كم ملاك تخطّفنا بالتنزّل؟». يصادف في سلوكه العمودي رسل الولع والاصطلام. يتلقّى من كل رسول فصوص حكمته ونصوص شرعته: «هل يد ما نرى أم أتانا اليقين؟». ويستملكه الشكّ والقلق ككلّ مارق وعاشق: «أم تراني حلمت بما لم يكن؟». إنّه درب كل مسافر ودأب كل مغامر: الاحتراق بالهموم قبل الاستقرار على اليقين. فصّ حكمة ديكارتية في كلمة نيتشوية. لا يزال يوسّع الحدود ويعمّق الوجود. لا يحطّ الرحال سوى بإذكاء أشواق الحال: مخاطرة ليلية بخواطر سندبادية. إنّ نصّ الكاتب عبد الرزاق بوكبة يسعر بكلماته اللافحة التي تهيم في وديان الحياة العادية والسيلان الدائم للأفعال البشرية. تتجلّى الحياة في أبهى وأعتى صورها: الحبّ، الرغبة، الحزن، الشوق، الشهوة، العنف، الهدوء، القوّة. تتمتّع اللغة بقفزات أسلوبية رصينة تتخلّلها تقاطعات (كنس/كناس/مكنسة) أو انقطاعات (تبحّر..ت، تمرين...ك، ي..د..خ..ن، تع..ب..ث) أو تدوير الاشتقاقات (جرّد/جراد؛ الفجر/انفجر، الفتح/التفاحة). وتأتي الكلمات على أوزان تكاد تفقد توازنها من فرط تمرّدها البياني، على وزن استفعل (تستبصل، تستطمم) أو تفعّل (تجوبل، تهوبل، تقوحبت، تخوتم، يتعوشب، تخنجرت، يتمرحض). هذه القفزات والغمزات هي بلا شكّ حميمية بالكاتب، لا يكتب بل يعانق الحرف. هناك شيء ينكتب على يديه، تحت أمر قلمه وإمارة تجاربه، ولكن أشياء أخرى تهجم عليه كالباده الصوفي والطوالع العرفانية، تتسلّل في دياره وداخل أسوراه كحصان طروادة، حيلة بيانية في الحكاية البشرية. تلتقي في هذه الكتابة الأضداد حيث من النور والظلمة لا نتحصّل على الفجر أو الغروب، بل على الفجور والاغتراب؛ وحيث من البياض والسواد لا نتحصّل على الرمادي، بل تراصّ لوني، كائنات زردية. ولا يمكن سوى التمتّع بهذا المترع الذي تنبت من تربته أعشاب الكلمات، جميلة بمنظرها، ولكن شائكة بالقبض عليها. لا مجال لمحاولة اصطيادها، فهي أكثر خفّة ورنّة: «فاستحمّوا من الرمل» وكأنّ الرمال هي أمواج بالنيابة، عندما تنوب الأرض البحر وتستعير منه صفاته أو نعوته: «لا ترضى بأشرعتي الرمال». جاءت النصوص في شكل مداخل ومخارج، منازل ومعارج، ننتقل فيها من باب إلى باب. في كل مرّة نفتح فيه باباً نقف على مشاهد حاكها صاحبها بأنسجة متشابكة. الكل يتناغم في هذه المساحة: الإنساني والحيواني، الإلهي والطبيعي، الحقيقي والمزيّف، المدني والريفي، المعرفي والخيالي، النثري والشعري. تتسلّل في هذه النصوص شذرات في الذاكرة (طفولة، مراهقة، شباب) وقِطع من التاريخ السياسي في أوجهه العنيفة (الإرهاب). لكن بعنفوان الكلمات يقوم الكاتب بالفرار من المتصلّب والمتشخّب بإقحام الليّن والمائي بين فُرج هذه القلاع الاستراتيجية. إنّه نوع من انتصار الذاكرة على التاريخ والحبّ على العنف والتسامح على التعصّب والجمال على الجلال. يتغلّب على طغيان البديهي بإقحام الرمز في الواقع: كل شيء «يَتَحَيْوَن» في هذه المشاهد، لأنّ قدره الحياة: يرفرف الحبّ مثل العصافير. كل شيء يدور حول رحى الحياة، يبحث عن غيره، أو يبحث عن ذاته في مرايا الأغيار، وفي بطون الأغوار. لا بدّ أن يجد نفسه في مكان ما: صورة أو ذاكرة أو مرأة. إنّه بحث مستميت عن الذات التي تتعلّق بالخيوط الرفيعة التي تشدّها إلى ماضيها أو حاضرها. تقفز إلى الحاضر خبايا الماضي، وتطل من جيوب الذاكرة مسارات الذات. كيف كانت؟، وكيف ستكون؟، تظهر كشيء طارئ ومفاجئ، تضع بصمتها على جبين الوجود وتختفي على التوّ. ما تدركه الذات منها هو علامات متناثرة. وتبرز النصوص بشكل مبهم هذه الشظايا المشتّتة كالحبوب في الحقول. أليست الحياة سوى زرع ينتهي بقطف؟، توزيع يتلوه تجميع. ما يجده القارئ هو بلا شكّ مواطن في الحرث ومواسم في الحصاد يقف عبرها على تجاربه الخاصّة. * د. محمد شوقي الزين/ جامعة تلمسان