تمتلئ جغرافيا الكلام بالسؤال والحيرةِ في نصوص المجموعة القصصية:"رغباتٌ خامدة"(الطبعة الأولى2007) للقاصة فاطمة بريهوم، وتتزيّا بشكٍّ يرسمُ ذاتا قلقةً متوقّدة-على عكس ما يطرحه العنوان-تشكّل مسار السرد بيد تعرف كيف تجعل من الحكاية مخاضا للولادة وطريقا صوب التجدد والاستمرار، فهي تكتب لتبدأ، بل، تمارس الكتابة لا لتنفصل عن العالم، وإنما لكي تحبّ الحياة(ص21). مما يجعل من نصوص المجموعة تكون أقرب إلى الواقع من حيثُ بناؤها الذي يبتعد عن الغرائبيّ والشعريّ، ولكنه أيضا، يجعلها بعيدة عن الواقع من حيثُ بعدُها النفسيّ، الذي يعيدُ بناء الواقع كما تريدُ البواطنُ ويرغبُ السفرُ عميقا في أغوار الذات ومجاهلها، مما يجعلُ السرد يقع في يد الاسترجاع، ويتكئ كثيرا على "المونولوغ"، على حوارية داخليّة تكلّم الآخر غالبا بعد ابتعاده أو غيابه. محمد الأمين سعيدي من هنا، من هذا البعد النفسيّ، يبدو واضحا سبب اشتغال القاصّة في أغلب نصوص المجموعة على العلاقة الثنائيّة التي تجمع امرأة برجل، بحيث يصبح كل نصّ، غالبا، هو مرآة تشكّل فيها الأنثى صورة الآخر/الرجل، الذي تحاوِلُ فهمَهُ في كلّ مرة بطريقة مختلفة، وربما حاولتْ تحطيم سلطان ذكورته عن طريقِ تعريفِه ونمذجته، فهو منزوع الصلاحيات جميعا، محجور عليه، ويوضّح هذا ما جاء على لسان بطلة قصة"الهزيمة الأخيرة":"لكنّه مات..ليس من حقّه أنْ يموت"(ص18). فنصوص المجموعةِ إذن تعرض نماذجَ لرجالٍ يختلفون عن بعضهم بعضٍ في مدى تفنّنهم في صناعة جراح المرأة، وتركِها عرضة للوحدة والألم، لكنّهم يتفقون جميعُهم في أنهم المرايا التي تبحثُ فيها المرأة عن ذاتها من جهة، وعن معاني الحبّ، الفراق، الخوف، الرغبة، الكراهية، الحياة...إلخ من جهة أخرى. وعليه، تكون صورة الرجل في هذا الإطار موضوعا مطروحا للتأويلِ والقراءة من قِبَلِ بطلاتٍ يتمتعْن، غالبا، وباستثناء قصة "اخروفة صاحبي"، بالثقافة والعمق، وهذا ما يؤهلهنّ لأنْ يجعلنَ من العلاقة مع الرجل تخرج عن بساطة اللقاء الأوّل لآدمَ مع حوّائه تحت شجرة المعصيّة، وتدخلُ إلى تحوّلاتٍ عديدة تدفع المرأة إلى إعادة قراءة ذاتها وتفهّم ما يحيط بها في إطارٍ يحدِّده حضور الرجل في حياتها أو غيابه عنها، هذا الأخير الذي تمثّل علاقتُها به، برغم كل المفارقات، "الصورة وانعكاسها"(ص22). إنّ المرأة في هذه المجموعة تقف أمام مرآة الرّجل من أجلِ تأوّل تشكّلاتِه فيها؛ حقيقتَه التي يخفيها وراء سلطته الاجتماعية والقبليّة، لكنّها في الآن نفسه تتعرّض لعمليّة مشابهة، عمليّة قراءة وتأويل، تشرع في ممارستها على ذاتها لتتبيّن تشكّلاتِها هيَ وصورتها في مراياهُ. وما دام الحال متبادلا من جهة واحدة هي جهة المرأة التي تحاول قراءة "آدمِها"، وقراءة حواء وجودِها فيه، ينتجُ عن هذا مقدارٌ من التوجّعاتِ الأنثوية تبوح بها ذاتٌ ترى إلى نفسِها في عيون آدمها التي يتدرّج بريقها على سلّم الصفاء والطيبة مثلما يتلوّن بألوان الخديعة، وبتنبؤاتِ الجراح القادمة، ويظلّ هذا كلّه في الأخير شيئا"من تسوية الذات أمام مرآتها"(ص49)فقط. وبرغم ما يشوب طبيعة العلاقة بين المرأة والرجل في المجموعة من توتّر وحدّة، إلا أنّها تتيح الفرصة لبناءِ صورة جديدة للمرأة تختلف عما رسمه المجتمع الذكوري والعرف من أطر تطأ بكل أثقال البداوة كرامتها، ولعلّ هذا ما يظهر في قصة"اخروفة صاحبي" التي ترسم ملامح امرأة حديدية تتخذ من "الدلالة" سبيلا للعيش رغم أنف المجتمع الذي يرمي بها بعد موت زوجها إلى سياط جبروته واتهاماته الفارغة. ويمكن الشعور بالقاصة، مثلما حطّمتْ صورة الرجل التسلّطية، تسعى إلى تحطيم صورة المرأة السطحية التي أفهموها بأنَّ الرجل ليس إلا سكنا ومالا وسترة من أولاد الحرام، وهي إذ تحطّم هذه الصورة النمطية تؤثث لصورة امرأة تبحث لأنهارها الداخليّة عن مصبّ/رجل يستحق ملائكة بواطنها البهيّة، ويتفهَّم رؤيتها إلى الأشياء، إلى نفسها، إليه، وإلى العالم. تسيطرُ الحيرةُ-في فهم الرجل خاصة-على مسار السرد، فتؤثر في عنصر الزمن داخل النصوص، والذي جاء مفتوحا، متقطّعًا، متراوحا بين بعدين:تحقّقِهِ، بعيدا عن الخطيّة، على رقعة القصص على شكلِ استذكارات ومخاطبات تنهل من ذاكرة الماضي الذي يلقي بظلاله على الحاضر، وبُعْدٍ نفسيٍّ يعبِّر عن تفاوت الإحساس باللحظات السعيدة والشقيّة، وعن اختلاف الأثر في بطلات القصص. هذه الطبيعة جعلتْ الحدث يخفتُ أحيانا، أمام سطوة الحوارات الداخليّة التي تخرج بها الكاتبة عن سرد الأحداث إلى تأويلها: "هكذا فجع صوته صمتك الذي أبحرتِ فيه منذ انطلاق المحرك لم يعنك إلا الزمن الذي يحرجك بمضيّه، علّك تتجاوزينه إلى زمن خارج هذه اللحظات.."(ص38). "رغباتٌ خامدة" هي مجموعة قصصية تتميّز بلغة جميلة، وبسردٍ لا يكتفي بانسياب الحكاية على منحدرات المعنى، وإنّما تحاولُ أنْ تلبس للسرد عباءة الحكمة وجبّة التأويل، وهذا ما يفسّر طغيان البطلات المثقفات على النصوص، وبرغم هذه الثقافة في مختلف النصوص، تظلّ قصّة "اخروفة صاحبي"-التي تفتقر بطلتها إلى الثقافة والمدنية-تمثّل أكثر القصص نضجا، وإمساكا بناصيّة القصة وبفنيّاتها. وبرغم هذا أيضا تظل"رغبات خامدة" خطوة مهمّة تخطوها فاطمة بريهوم في طريق الكتابة، وعلامة واضحة على بصمة شخصية في اللغة والأساليب وفي النظر إلى الأشياء واستكناه حقيقتها التي لا يحتاج فهمها، دائما،"إلى تموّجات البلاغة وغموض توريّاتها أو ذكاء استعاراتها"(ص38)، وإنّما يحتاج إلى ذات صادقة مع نفسها أولا، ومع الآخرين. المشرية 13 / 02 / 2013 مراعي الصباحات بادر سيف تلك المراعي، عشب الأفكار ، ذكريات تناغم موسيقى منبعثة من طفولة موسومة بثغر اللوز و التفاح... المراعي القشيبة، كل ما بها بهي أسافر معها في صمت الحروف، أصلي لقمر ساجد لعصافير البرك و بجع النافورات الزرقاء باحثا عن مشاتل الكلمات المنبسطة في وصيد الوهم و ترهل الوحدة، أقطف من رمانة الصيف محابق الصوت و هو يودع بحته المتوهمة أنها وصلت إلى زمن اللارجوع تلك المراعي... تلك المراعي من لون به الحمرة تعني جمرة العشق و الأصفر دهشة الفصول لما يداهمها الشتاء أمطاري تنهمر شلال دموع، مسترسلة في مجرى الحصى و الشمعدان يقضي ليله ساهرا أما الأخضر فعشب المراعي، خضرة القلب المسكون بالحب ، المغسول بكوثر الله، مصفى كلبن أم متعطشة إلى لثمة رضيعها من السهاد يجيء الليل ليسكن بؤبؤ الفلز الملتهب بفعل الذكريات من ضمة الصدر يجيء الدفء عبقا سهلا ، مكتنزا بصوفية الشعراء و تلويحة الأيدي المودعة من نظرة طائشة عابرة يسكن الحب مفاصل فكرة، والفكرة ترحل إلى بياض الثلج أما الثلج فقصة طويلة مع سمر الليالي و الزعتر البري تلك المراعي كلما داهمتها باحثا عما ابتغيه، إلا سكنها الفراش و دود القز ، لأجد في صحو الضمير راحة لما افرك الأعداد و الجهات الأربع... سأمحى إذن من معضلات دفاتري حكمة البدء و مستهل الحديث عن العشب و شرفة الدرب الدامي اصرخ لما تتقاطع المروج و الروابي و المراعي كطوفان يقطف الصبر من زجه طفل تائه اسمي الشمس ثدي الأرض أما مدن الله أحول وجهتها إلى ما يجعل غصن اللقاء شبيه حوض السورة انصهر من ضيم الفكرة ترجني مرايا الجواب و كم تسعدني فلسفة البحث عن الظل في صحراء الوجود هنا أمواج الجبين لها هالة المستودع الموحش و الحب مدينة أنثى و درب يصرخ من عبور الملح فهل الصخر أساس الركن؟ أم السواد مولع بلهب مقدس؟ قادر أن اعبر النهر ليأتي العشب مرادفا لفاتحة السؤال و الحياة خطوة خطوة نرسمها بأسمالها و جمالها لينمو الخيال على هيكل الطبيعة المتجذرة في طقس الخنوع كم أنا ملغم بحضارة الأسماء ابحث عن سعادة مفقودة في مستقر الدمع و الأناشيد المنسية فيا أيها الواقع ليتك أملس كشعر حبيبتي الصغيرة أو منعش كنسيم الصباح أو بيت دافئ اسكنه كلما تجمدت التمائم في أحجار المعابد وتلك المراعي حين أقيدها بجسد الذرات الباحثة عن خطوة لتفسير الحزن تصاب تمائم الدفء بداء المسافات ووعثاء الحب أما شعلة الذكريات فارمقها ببساطة الخليقة و خيلاء الكلمات الموجعة كدم ثائر يعطي لنفسه هوية الصبر و البحث عن باب الكتاب المكتنز بأغاني الحضارة و الرموش هناك من يغني لبحر يسافر مع نغمة المساء هناك من يرقص على ظل مئذنة كلما استراح من عبادة السهو و هناك من يسافر عاصفا قش الرؤى برمح التخيل سابحا في صباحات المراعي المرسومة بصفاف اخضر لذا كلما داهمني طيف لفاتحة العالم أراوغ صحرائي المقدسة برائحة الجنون استل من اسمي شوق ضارب في كبد النأي أقشر صخرة البسمات بما يشبه الصعود إلى الغصون و اقلب الرمل عله يعلم خفافيش اللحن كيفية الولوج إلى مدن الله و من أنت ،كي أنام على أمواج الأبدية؟ اصنع من ثلج مغطى بقشة البسمة استراحة عابرة على ضفاف الحواس المفتوحة على إبعادها المضطهدة فمن يحمل هذه البساطة على أرائك المراعي الصهباء؟ ومن يدجج غياب اليم عن فلزات الأسماء ليركلها بخور كلمات أو صدأ حضور