معظم الأنظمة العربية يحكمها الجيش بصفة غير مباشرة وبصورة متفاوتة ما بين الكلمة ''اليابسة'' إن جاز تسميتها والكلمة الناعمة فيما يعرف ديمقراطية الواجهة! وقد يكون العسكر في تونس يمثل استثناء من بين كل الجيوش العربية، فلا هو يحكم فعلا ولا اسما، وإنما يمارس مهامه وفق ما ينص عليه الدستور التونسي، وهو حماية البلاد، داخليا وخارجيا، وبالتالي لا يرى له وجود في الشارع إلا في حالات نادرة جدا على مدار أكثر من خمسة عقود من استقلال تونس مثلما حدث في ثورة الخبز في 1984 أو مثلما يحدث هذه الأيام مع دخول الجيش خط التماس لحماية المؤسسات والمواقع الحساسة في إطار فرض قانون حالة الطوارئ! بديل المؤسسة العسكرية في تونس اسمها قوات الشرطة (بمختلف فروعها) مسندة بالحرس الوطني وكلاهما على ارتباط مباشر بالمواطن في الشارع وفي الإدارة، وتحظى هذه المؤسسة برعاية كاملة من السلطة وبامتيازات متعددة لا يحصل عليها أفراد الجيش، مع نفوذ كبير وهيبة مسلطة على الرقاب بموجب القانون والبولسة التونسية هذه كنموذج للنظام ولتأطير المجتمع ومراقبته ورصد تحركاته واتجاهاته كان يمكن أن تشكل نموذجا للأنظمة العربية مثلما تحدث الكاتب الصحفي المصري الكبير محمد حسنين هيكل في قراءاته للعشر سنوات القادمة، مدحرجة بذلك دور العسكر إلى مرتبة ثانية. فهذا الدور كما يؤكد هيكل قبيل الانقلاب الشعبي ضد النظام التونسي الذي فاجأ الجميع بمن فيهم أكبر المحللين على ما يبدو مرشح للانحسار في غياب العدو الذي يبرر حالة الطوارئ والكم الهائل الذي يحصل عليه من الامتيازات والتجهيزات على الأقل بعد اليقين بأن الحرب ضد أسرائيل أصبحت من الماضي المستحيل، واستخدامها كمبرر لتعطيل الحياة السياسية أو فرض حالة الطوارئ لم يعد يقنع أحدا! هذا الوضع الذي دحرج مؤسسة العسكر في تونس إلى درجة ثانية أمام مؤسسة البوليس من الأيام الأولى لحكم بورفيبة أفادها على الأقل من جانبيين: الجانب الأول: إنها تحظى بثقة المواطنين مهما اختلفت آراؤهم ومصالحهم، ولم يعرف أبدا عن الجيش التونسي أنه دخل ولو مرة واحدة في مصادمات مع الشارع أو قتل محتجين. الجانب الثاني: إن قيادات العسكر هناك لم يتحولوا إلى الواجهة، بدليل أن تلك القيادات غير معروفة إعلاميا بدرجة كبيرة، ولم يسجل عليها أنها أطاحت بالرئيس الأسبق الحبيب بورفيبة أو حتى الرئيس المخلوع بن علي. فقد كان اتجاهها العام مسايرة نبض الشارع مثلما حدث حين سكت عن انقلاب بن علي على بورفيبة وهو في أرذل العمر في خضم معارك طاحنة حول من يخلفه ويرثه بعد أن سانده الشارع ورأى فيه المنقذ والمخلص. واتخذ الموقف نفسه مع مطالبة النفس الشارع برحيل الرجل الذي وعد فأخلف.... والموقف هذا يحسب له على اعتبار أن معظم الجيوش في العالم الثالث وتحديدا في الدول العربية تقف مع الحاكم حتى يسقط! فإن سقط صفقوا للقادم لكي يخدمهم كسابقه وهذا ما يفسر لماذا لم يحدث شلال دم في التغيير الأخير كان الجيش التونسي طرفا فيه، ولم نر في جميع وسائل الإعلام التونسية والدولية أحدا يتكلم أو يصرح باسمه، رغم خطورة ما يحدث.