ُقدم الهادي بكوش رئيس الوزراء التونسي الأسبق )1987-1989(، في هذا الحديث الذي خصّ به »صوت الأحرار«، مقاربة يرى فيها أنه لا دخل للأنظمة السياسية في عرقلة مسار بناء الاتحاد المغاربي أو حتى التعجيل به، بل إنه يعتقد جازما بأن صناع القرار في بلدان المغرب العربي ليس لهم يد في الأمر على نفس القدر الذي أبعد فيه المسؤولية عن أطراف أجنبية، وقال سفير الجمهورية التونسية الأسبق بالجزائر إن العلاقات بين البلدين يمكن أن تصل مستوى أحسن مما هي عليه الآن لو يتم استغلال كافة الفرص والإمكانيات المتوفرة. * شاركتم الشهر الماضي في المؤتمر التاسع لحزب جبهة التحرير الوطني، وباعتباركم توليتم في وقت سابق مهام سفير بالجزائر، أيّ تقييم تُقدّمونه للمشاركة التونسية في هذا الموعد وكذا مستوى االعلاقات بين الأفلان والتجمع الدستوري الديمقراطي »الأرسيدي« خاصة وأنها ليست وليدة اليوم وهي التي تجسّدت منذ ثورة الفاتح نوفمبر؟ ** في الحقيقة المشاركة التونسية في المؤتمر التاسع لحزب جبهة التحرير الوطني كانت متميزة بحكم العلاقات التاريخية، وتمثلت هذه المشاركة في حضور الأمين العام للتجمع الدستوري الديمقراطي الذي ألقى كلمة بالمناسبة، أما بالنسبة لي فإنه على الرغم من كوني عضوا في اللجنة المركزية للحزب الحاكم في تونس إلا أنني دُعيت بصفة شخصية على أساس علاقاتي مع الثورة الجزائرية وأيضا بحكم ارتباطي الوثيق بالأفلان، وحتى قبل الثورة في وقت حزب الشعب الجزائري وحركة انتصار الحريات الديمقراطية، وبالنسبة لنا فإن كل من الفاسي وبوقيطة وكذا مصالي الحاج كانوا شخصا واحدا، وطيلة ثورة نوفمبر أستطيع أن أقول بأننا كنا كلنا في المغرب العربي ننتمي إلى الأفلان. وأنا شخصيا كنت في تلك الفترة مسؤولا بفرنسا ممثلا الحركة الدستورية الوطنية أين كان لنا تعاون وثيق جدّا مع جماعة الأفلان في باريس. وقد توطّدت هذه العلاقة أكثر عندما شغلت منصب سفير للجمهورية التونسيةبالجزائر، وخاصة مع الأشقاء في حزب جبهة التحرير الوطني حيث قمنا بأعمال كبيرة في سبيل تعزيز التعاون بين الحزبين والبلدين على السواء. ولذلك لا بد للشباب في البلدين أن يعلم مدى تجذّر العلاقات بين الحزبين، فأذكر مثلا أن هناك الكثير من التونسيين الذين كانوا بجانب مصالي الحاج عندما أعلن عن تأسيس نجم شمال إفريقيا مثلما هو الحال بالنسبة للتونسي بن سليمان في باريس، كما أن هناك جزائريين كانوا ضمن الحزب الدستوري التونسي لدى تأسيسه أيضا في عام 1922 عن طريق الشيخ الثعالبي الذي له أصول جزائرية كما هو معروف، وحتى توفيق المدني شغل العديد من المسؤوليات في القيادة الوطنية التونسية، والقائد الفعلي للحركة الدستورية هو أيضا جزائري ويتعلق الأمر بالمناضل الكبير الطيب بن عيسى، وبالتالي كما ترون فإن الحركتين الوطنيتين في كل من الجزائروتونس عرفتا انتقالا كبيرا بين المناضلين من البلدين مما يدلّ على أن هناك إيمانا راسخا بوجود قضية واحدة. وقد تجسّد هذا الاتجاه بشكل فعلي في العام 1937 عندما تمّ قمع الحركة الوطنية في الجزائر ومن ثم فقد لقيت تضامنا كبيرا في كل من تونس والمغرب قبل أن تنشأ علاقة متينة أكثر مباشرة بعد الحرب العالمية الثانية من أجل النظر في كيفية التحضير للثورة، وهو ما تمّ فعلا بين قادة الحركات الوطنية وذلك دون أن نتحدّث عن التنسيق والتعاون الذي عرفته هذه البلدان خلال مرحلة الثورة ضد الاستعمار. * هل تعتقدون، بحكم أنكم شغلتم منصب رئيس للوزراء في منتصف الثمانينيات من القرن الماضي، بأن علاقات التعاون بين الجزائروتونس على الصعيد الاقتصادي قد وصلت إلى المستوى المطلوب مثلما عليه على الصعيد السياسي انطلاقا من الارتباط التاريخي الوثيق بين البلدين؟ ** لما استقلت الجزائر استمرّينا على في حضور المؤتمرات وكذا إجراء محادثات، وحتى لا أبالغ فإنني لا أقول بأن هذه العلاقات بلغت المستوى المطلوب بعد الاستقلال مباشرة، وبداية من العام 1981 شهدت هذه العلاقات نقطة التحوّل فعندما قدمت إلى هنا لأشغل منصب سفير تونس كان حينها المرحوم محمد الشريف مساعدية مسؤولا عن حزب الأفلان وقد اشتغلنا بشكل كبير في سبيل تعزيز التعاون، ومن بين الإشكالات التي ساهمنا في حلّها قضية ضبط الحدود بين البلدين وبالفعل فقد وقّعنا معاهدة في هذا الإطار سنة 1983 وضعنا فيها حدّا لعدد من الإشكالات الفنية وأخرى إدارية بالنسبة للحدود، وبعد هذا التاريخ أخذت العلاقات الثنائية دفعا قويا، والآن بفضل سياسة الرئيسين زين العابدين بن علي وعبد العزيز بوتفليقة وصلت هذه العلاقات مرحلة تعاون غير مسبوق، وأكاد أجزم بأنه لا توجد علاقات متينة مثلما هي عليها بين الجزائروتونس في الوقت الراهن. والدليل على هذا التطور الحاصل أن الرقم يرتفع عاما بعد عام من ناحية التبادل التجاري، وهناك حوالي 60 مؤسسة صناعية جزائرية تنشط في تونس فيما توجد أكثر من 100 مؤسسة صناعية تونسية تستثمر في الجزائر، يضاف إلى ذلك الحركة السياحية الكبيرة التي تعرفها تونس في السنوات الأخيرة على اعتبار أن غالبية السياح قادمون من الجزائر، والواقع أن هذه الحركية أصبحت تُمثّل عامل تقارب أكثر بين البلدين والشعبين واكبتها تسهيلات قنصلية غير مسبوقة. وعموما فإن العلاقات بين الجزائروتونس بناء على كل هذه التطورات تتقدّم بصفة ثابتة ومتواصلة وهي الديناميكية التي أرى بأنها ستؤثر بشكل إيجابي على مسار تجسيد اتحاد المغرب العربي. * ما دُمتم قد أثرتم مسألة الاتحاد المغاربي دعوني أسأل سيادتكم حول هذا الموضوع على أمل الحصول على إجابة صريحة، فبعد مرور أكثر من نصف قرن عن مؤتمر طنجة التاريخي بقي الاندماج المغاربي أو كما يسمى »اتحاد المغرب العربي« مجرد خطاب موجه للاستهلاك، في رأيكم ما هي الأسباب التي أدّت إلى فشل هذا المسعى واقعيا على الرغم من أن ما يجمع الشعوب المغاربية أكثر بكثير مما يُفرقها؟ ** بعثُ الاتحاد المغاربي يبقى في اعتقادي ضرورة حتمية بالنظر إلى العديد من الأسباب التي تأتي في مقدّمتها مسألة حماية الاستقلال الوطني الذي لا يمكن أن يتحقق بشكل كلي وكامل بعيدا عن خيار الاتحاد لأن العدو لا يزال يتربّص ببلداننا عن طريق الضغط والتدخلات بمختلف أشكالها، وبالتالي فإن الخيار الوحيد لمواجهة هذه التدخلات يكمن في الاتحاد، وحتى أُُوضّح الصورة أكثر دعني أقول بأنه لا مناعة لبلدان وشعوب المغرب العربي عندما تكون متفرّقة بهذا الشكل، فعندما نكون متفرّقين في هذه المنطقة فإن ذلك يعني بأنه لا اطمئنان على مستقبل الأجيال القادمة. ومن الناحية الاقتصادية فإن التنمية التي تتطلع إليها الشعوب المغاربية لا يمكن أن تتجسّد، أو لا تكون بالنسق المأمول، هذا لا ينفي وجود تنمية في كل من تونسوالجزائر والمغرب..، ولكنها ليست بالشكل الذي يمكن أن تكون عليه عندما تُشكل هذه البلدان اتحادا إقليميا، فهذه التنمية تكون أكبر في إطار تنسيق مشترك وبوتيرة أسرع مما هي عليه الآن، وحتى آراء المختصين والخبراء تؤكد ذلك على أساس أن هذه التنمية يمكن أن تصل إلى 8 بالمائة وهو ما يعني بالضرورة خلق عشرات الآلاف من مناصب العمل وآلاف الملايير من الدولار القادمة من التدفقات الأجنبية في إطار الاستثمارات التي تقودها الشركات الكبرى، وبهذا المفهوم فإن الاتحاد ضرورة لا مفرّ منها والوحدة أمر حتمي حتى نضمن حرية تنقل الأشخاص الذي سيشعرون بأن لهم فضاء خاصا بهم. أما الآن فمن حقنا أن نتساءل: »لماذا لم تتجسّد هذه الحتمية على أرض الواقع؟« وهنا أيضا توجد العديد من المتغيرات والأسباب من ضمنها الاستقلال الحديث لبلدان المغرب العربي الذي كان من بين الدوافع التي وقفت وراء التردّد الذي ساد قادة هذه البلدان، بالإضافة طبعا إلى اختلاف في النظرة الاقتصادية وكذا الإيديولوجية حينها حيث لم نكن ننظر إلى العالم بنفس المنظار والطريقة أيضا، ومن الصعوبات الأكثر تعقيدا تلك المرتبطة بالاستعمار، فمثلا قضية الصحراء الغربية ظهرت إلى الوجود بعد خروج الاستعمار الإسباني وحينها لم يحصل اتفاق حول كيفية تسيير هذه المنطقة، وللأسف فإن هذا الاختلاف في النظرة لم نتمكّن من تجاوزه حتى الآن، والواقع أن الاتفاق بين البلدان المغاربية لم يكن موجودا حتى قبل بروز مسألة الصحراء الغربية. وأكثر من ذلك فإنه على الرغم من الخلافات التي كانت سائدة بين الجزائر والمغرب بسبب مشكلة الحدود ثم ظهور أزمة الصحراء الغربية، فإنّ القادة المغاربة نجحوا في تجاوز الكثير من العقبات من خلال تنقية العلاقات الثنائية من كل الشوائب والملابسات وتمّ الإعلان عن تأسيس اتحاد المغرب العربي، لكن مع كل تلك الخطوات ما استطعنا إلى اليوم تجاوز كل الترسّبات وكذا وجهات النظر. * المُلاحظ في هذا الجواب أنكم لم تشيروا إلى مسألة الإصلاح السياسي والتحوّل الديمقراطي لا من قريب ولا من بعيد على الرغم من أن الإجماع حاصل بأن الأنظمة السياسية هي من تتحمل المسؤولية في تعثر مسار الاتحاد المغاربي، بما في ذلك غياب الإصلاح السياسي، أم أن لكم رأيا آخر؟ ** إذا تحدثنا عن الإصلاح في المغرب مثلا يمكن القول بأنه لم يقع تغيير كبير مقارنة مع فترة حكم الملك الراحل الحسن الثاني ولكن رغم أن النظام لم يتغير في المملكة فإن هناك نوعا من التفتح، وفي تونس كذلك الوضع لم يتغيّر كثيرا باستثناء أن هناك تعددية أكثر من ذي قبل والأهم أنه لم يبق عهد الحزب الواحد وكذا الزعيم الواحد وهو ما ينطبق على الجزائر كذلك لأن الأفلان أصبح يتعايش مع أحزاب أخرى في إطار التعددية. وفي اعتقادي فإن تحقيق الوحدة المغاربية ليس مسألة مرتبطة بالأنظمة السياسية، ثم إنني أعتقد جازما بأن الطرف السياسي لا دخل له في تعقيد مسار الوحدة وعرقلته كما أن ليس له أي تأثير في التعجيل في هذا المسار، فالمسألة تتعلق بالأساس في تجاوز بعض المشاكل البينية من خلال تكثيف الاتصال على كافة المستويات بشكل يجعل من المغرب العربي قادرا على مواجهة كافة التحدّيات. * نفهم من كلامكم أنه لا دخل لأطراف خارجية، أو لنقل قوى أجنبية، في عرقلة مسار بناء اتحاد المغرب العربي ومن ذلك استغلال قضية الصحراء الغربية لمواصلة تعكير الأجواء بين الجزائر والمغرب، أليس كذلك..؟ ** أقولها بصراحة بأن المشكلة فينا وليس هناك تأثير من أطراف خارجية رغم أن مثل هذه الضغوط كانت موجودة من طرف بلدان أوروبية لبعث الفتنة بين بلداننا مستغلة في ذلك ظهور مشكلة الصحراء الغربية، ولكن الوضع تغيّر الآن فالاتحاد الأوروبي يعمل في اتجاه تجسيد الاتحاد المغاربي ويساند هذا الخيار بقوة لأنه من مصلحته ذلك، وفي تقدير الأوروبيين فإن أي اضطراب في منطقة المغرب العربي سيكون له تأثير مباشر عليهم وأن أي فوضى سيكون لها امتداد إلى الضفة المقابلة من المتوسط، بالإضافة إلى أن الاتحاد الأوروبي يريد أن يكون المغرب العربي سوقا كبيرة لرفع حجم التبادل. ومن هذا المنطلق أؤكد مرة أخرى بأن السبب الوحيد في عدم تجسيد الاتحاد المغاربي يكمن فينا نحن كمغاربة، فالتدخلات الأجنبية لم يعد لها تأثير، فلو كانت لدينا إرادة فعلية للاتحاد لتحقّق ذلك ولننظر فقط إلى ما فعلته الثورة الجزائرية ضد إحدى أكبر وأعتى القوى العسكرية والاستعمارية في العالم بفضل وجود إرادة لطرد الاستعمار، فلم تفد فرنسا كل تلك القوة ولا حتى السند الذي لقيته من منظمة حلف شمال الأطلسي للبقاء في الجزائر. فإذا أردنا أن نباشر مسؤولياتنا في قيادة شعوبنا بكفاءة فلا بد من منطقة مغاربية متحدة، صحيح أنه تواجهنا الكثير من المشاكل والعراقيل ولكننا قادرون على تجاوزها وهو ما تقتضيه المسؤولية، ومهما كانت الأخطاء والتقديرات فإنه لا خيار أمامنا سوى تكثيف الاتصال ومصارحة بعضنا البعض في كافة ما يشغلنا.