20 طبيبا مختصا يعالجون 300 مريض و5 ممرضين في "مواجهة" 35 مريضا عقليا! محمد ورحلته المؤلمة... من مساعد ممرض إلى مريض عقليا في ظل نقص الأمن... مرضى يدخلون أطباءهم العناية المشددة. كمال: "ابني يخاف مني لأنني عصبي ومزاجي"
غالبا ما يردد الجزائريون في أحاديثهم نكتة "الملف الأصفر" الذي يمنح لكل مقيم بمصحة الأمراض العقلية، إلا أن الواقف على أعتاب هذه المصحات يدرك أن الملف الأصفر يحمل في طياته صفحات سوداء ترسمها عيون مرضى تائهين في عوالم أخرى، دخلوا المستشفيات من أجل العلاج، فتحولت إلى بيوت لهم، خاصة مع غياب العائلة والأحباب الذين يتخلون عنهم تحت شعار "عيب وعار"، ومنهم من لا يخرج من هناك إلا وقد بلغ من العمر عتيا، وغير بعيد عن هؤلاء تلمح أطباء وممرضين تائهين بأبصارهم وكأنهم يترصدون خطرا قريبا. "البلاد" تجولت بمصحة الأمراض العقلية بمستشفى "فرانس فانون" بالبليدة و"دريد حسين" بالعاصمة، ورصدت حكايات هؤلاء.
استطلاع: سعاد بوربيع
أطباء وممرضون يقاسمون المرضى جنونهم يتعاطف الكثيرون مع الحالة التي يعيشها المرضى العقليون و يتساءلون عن حقوقهم، مع أنهم في ظلام عوالمهم تائهون لا يدركون شيئا مما يدور حولهم، لكن هل تساءلنا يوما عن الحالة النفسية للذين يعيشون بقربهم ما يزيد على 8 ساعات ويغادرون إلى عائلاتهم مساء؟ ولكشف الحقائق عن قرب، استطلعت "البلاد" آراء أطباء وممرضين، سألناهم عن حالهم، فكان الرد يأتينا في كل مرة ملخصا بجملتين "لدينا ضغط كبير"، "لقد تعبنا كثيرا"، وأضحينا نتقاسم المرضى همومهم ونتألم لأوجاعهم التي زادت مع غياب التكفل العائلي.
"الملائكة البيضاء" منهكة...
يحظى الأطباء والممرضون بمكانة كبيرة في قلوب الناس فهم يلقبون بالملائكة البيضاء، فالكثير ممن قابلناهم بمستشفى البليدة كانوا يتقاسمون نفس المعاناة اليومية مع المرضى، خاصة أثناء النوبات، وهنا يكون الممرض هو الشخص المتفاعل بشكل مباشر وأول من يتحمل مسؤولية التحكم في حالات الاضطراب. تقول إيمان "عندما تصاب المريضة بالنوبة تحتاج إلى 4 ممرضات من أجل إيقافها، وفي العديد من المرات نتلقى الضرب واللكمات على وجوهنا، إنه أمر يتكرر يوميا". يذكر أن مستشفى البليدة للأمراض العقلية سجل منذ 7 سنوات انتحار ممرض بسبب تعرضه لاكتئاب حاد.
حياة: "المرضى مصدر سعادتي..."
في الوقت الذي تعالت فيه أصوات هذه الفئة مجتمعة على كلمة "الضغط" و"التعب"، خالفتهم زميلتهم حياة التي كسرت القاعدة لتشاركنا رأيها "أنا أعمل كممرضة منذ 24 سنة، لم أشعر يوما بالضغط من هذا الجو بل على العكس، أنا أنسى همومي مع المرضى، وقد حدث في كثير من الأحيان أن كنت متوترة من ظروف خاصة لكنني أنسي مشاكلي حينما أرى براءتهم."
رائحة الجنون تدخل بيوتهم وتفكك أسرهم
لا يبقى الضغط الذي يعاني منه هؤلاء حبيس جدران المستشفى، بل في أغلب الأحيان ينعكس على حياتهم الخاصة، فتدخل "رائحة الجنون" ل "تفوح" وسط بيوتهم. "كمال.ب" ممرض يعمل بمصلحة الأمراض العقلية بمستشفى البليدة، منذ ما يزيد على 15 سنة، حدثنا بكل حسرة قائلا "أصبح ابني يخاف مني ويرتعب كلما تحدثت معه، أما زوجتي فباتت تنعتني بالعنيف ومتقلب المزاج بعدما كنت هادئا جدا، أعتقد أن تعاملي مع المرضى بمنطق التحكم، جعل الطبع ينغرس في شخصيتي، عندما أهدأ لا أصدق أنني كنت ذلك الشخص العصبي".
مرضى يدخلون أطباءهم العناية المشددة!
بعد عمله 25 سنة بمصلحة الأمراض العقلية بدريد حسين، صرح "بوشمال أمين" الأمين العام السابق لنقابة شبه الطبي بدريد حسين، ل"البلاد"، بأنه شهد الكثير من حالات الضرب التي تعرض لها الأطباء والممرضون من طرف المرضى، ولعل من أبرز الحكايات التي يقول محدثنا إنها علقت في ذهنه، هو ما حصل لمراقبة عامة قبل سنة فقط من خروجها للتقاعد، حيث تعرضت "مريم.س" للضرب المبرح من طرف مريضة بالمصحة، جعلها تدخل العناية المشددة، ولم تخرج منها إلا بصدمة عنيفة أثرت على حياتها وعزلتها عن ممارسة المهنة إلى الأبد.
ياسين تركمان: الخطر ليس من المرضى بل من عائلاتهم!
صرح رئيس عمادة الأطباء بالبليدة "ياسين تركمان" ل"البلاد"، بأن الأطباء والممرضين يعيشون في ضغط دائم. وأضاف المتحدث بخصوص تعامل الطاقم الطبي مع العنف الصادر عن المرضى أنه أمر يمكن التحكم فيه بفضل خبرة وتكوين هؤلاء وباستعمال الوسائل الطبية، لكن الكثير من المرافقين للمرضى يتعرضون للأطباء والمرضين بالشتم وحتى الضرب في بعض الأحيان محملين إياهم مسؤولية الحالة العقلية للمرضى.
تحدثت "سهيم صونية" رئيسة المصلحة الاستشفائية بدريد حسين (أ)، ل"البلاد" بلغة الأرقام فصرحت بأن مصالح المستشفى يحصي دخول ما يقارب 100 شخص يوميا، ممن يعانون من الأمراض المزمنة، فيما يرقد بالمستشفى أكثر من 200 مريض عقلي لتلقي العلاج الدائم. ويشرف على هؤلاء المرضى حوالي 20 طبيبا مختصا في الأمراض العقلية في انتظار أن يتدعم المستشفى بأطباء جدد. أما بالنسبة للممرضين فصرحت المتحدثة قائلة: "المصالح تعاني نقصا فادحا في عدد الممرضين حيث يعمل 5 ممرضين في خدمة 35 مريضا عقليا بالتناوب. كما يلعب أعوان الحماية وأعوان الرقابة في القاعات دورا أساسيا، لكن هذه المصلحة تعاني من نقص هؤلاء ما يجعل الطاقم الطبي في خطر دائم". وقالت "سهيم صونيا" إن المصلحة تسجل سنويا حالات انهيار لأطباء وممرضين وحتى أعوان أمن وحماية بسبب الضغط المفروض عليهم جراء نقص الطاقم الطبي. وأحالت المصلحة هذا العام، 3 ممرضين وعوني أمن إلى عطلة مرضية طويلة الأمد بسبب تدهور حالتهم النفسية. وتضيف رئيسة المصلحة كلامها بكل حسرة "من بين هؤلاء "محمد.ن" وهو مساعد ممرض لن يتمكن من مواصلة العمل بهذا التخصص إلى الأبد، فبعد إصابته بانهيار عصبي جراء الضغط والحالات التي تمر على المصلحة يوميا، خرج من المستشفى يحمل معه رسالة "مريض عقلي" ليدخل بها إلى مصحة أخرى !" ونفت المتحدثة أي مزايا تتمتع بها هذه الشريحة التي تعمل مع صنف خاص من المرضى، فالعطل السنوية وفترات التناوب لا تزيد على ما هي عليه في باقي التخصصات.
مصباح العربي: المخدرات تذهب عقول الشباب وتدفنهم في مصحات المجانين
قال "مصباح العربي" مدير النشاطات الصحية بمستشفى الأمراض العقلية بالبليدة ل"البلاد" إن الكثير من المرضى في السنوات الأخيرة هم من الشباب، سواء ممن قنطوا من ظروف الحياة أو من أحرقت المخدرات عقولهم فتاهوا في عوالم الظلام وأصبحوا يشكلون خطرا على أنفسهم وعلى عائلاتهم. وبخصوص حالات العنف المسجلة ضد الطاقم الطبي، فقد صرح المتحدث بأنه خلال 2016 سجلت مصالح المستشفى 6 حالات عنف ضد الطاقم الطبي، في حين أصيب 3 أعوان طبيين باضطرابات نفسية، بينما تم إبعاد ممرضين من المستشفى حاملين معهما لقب "مريض عقلي" . يذكر أن مستشفى الأمراض العقلية بالبليدة يعتبر أكبر مستشفى في الجزائر وشمال إفريقيا من حيث قدرة الاستيعاب حيث يوفر 1012 سريرا، وقد أجرى المستشفى 48116 فحصا خلال عام 2016، واستقبل 3500 مريض مقيم. ويشرف على هؤلاء المرضى 184 طبيبا مختصا و72 ممرضا، والعدد الذي يبقى قليلا جدا يجعل العاملين به في ضغط دائم يؤدي إلى اختلالات نفسية وجنون، يضيف المتحدث.
المدير العام لمستشفى الأمراض العقلية بالبليدة، بودالي معمر ل"البلاد":
التكوين المتخصص في الأمراض العقلية لشبه الطبي اختفى منذ 25 سنة
صرح المدير العام لمستشفى الأمراض العقلية بالبليدة، بودالي معمر ل"البلاد"، بأن مصالحه تنتظر تدعيمها ب120 ممرضا وهي حصة المستشفى من منتوج التكوين شبه الطبي لهذا العام، وهو العدد الذي يبقى غير كاف. وأضاف المتحدث قائلا "هناك نقص كبير في التكوين بالنسبة للأعوان الطبيين المتخصصين". وفي السياق ذاته، أكد المتحدث أن تكوين الأعوان الطبيين المتخصصين في الأمراض العقلية قد اختفى منذ 25 سنة، ولكنه بات اليوم أمرا ضروريا". وعن نقص الأعوان الطبيبين بشكل عام قال مدير المستشفى إن الكثير من الطلبة لا يحبذون التوجه إلى هذا الاختصاص لما فيه من متاعب وضغط نفسي، مما يجعل العدد قليلا جدا. وبخصوص تكوين الأطباء، قال مدير مستشفى "فرانس فانون" إن 6 أطباء متخصصين في الأمراض العقلية يستفيدون سنويا من تربصات خارج البلاد للاطلاع على مختلف تجارب الدول الأخرى في هذا المجال.