ظروف مهنية ونفسية صعبة يعيشها عمال مستشفى الأمراض العقلية بدريد حسين في العاصمة، والتي يتقاسمها معهم المرضى، توتر وقلق دائم، ضغوط نفسية وانفصام في الشخصية. فأغلب الحالات التي وجدناها خلال جولتنا الاستطلاعية التي قادتنا إلى هذا المستشفى والتي أردنا من خلالها تسليط الضوء على الظروف النفسية والمهنية التي يعيشها موظفو هذه المصالح الحساسة، تؤكد التأثيرات السلبية الذي يتلقونها والتي تنعكس على قدراتهم العقلية والنفسية من خلال تعاملاتهم اليومية خارج محيط العمل مع الأسرة والأصدقاء، يحدث هذا في ظل غياب المتابعة النفسية اللازمة وغياب القانون إلى جانب صمت الوزارة الوصية التي لم تحرك ساكنا للحد من معاناتهم اليومية. ممرضون يصابون بتوترات حادة وآخرون بانهيارات عصبية دخلنا المستشفى في حدود الساعة الرابعة والربع مساء، فلمسنا هدوءا كبيرا لم نعتد عليه مقارنة بالضجيج الذي عهدناه بمستشفيات أخرى والتي تشهد حركة غير عادية فلا تجد مصلحة بها مكان شاغر، وأصحاب المآزر بمختلف ألوانها البيضاء والخضراء يجوبون الأروقة ذهابا وإيابا، إلا أن الهدوء الذي وجدناه بهذا المستشفى كان يخفي وراءه معاناة كبيرة وآهات عمال وممرضين وأعوان أمن وحتى المرضى الذين لا ذنب لهم إلا أنهم فقدوا عقلهم وتعرضوا فقط لانهيار خفيف ليفقدوا عقلهم شيئا فشيئا ولا يكادون يستغنون عن الأدوية التي حولتهم إلى أجساد فقط تتحرك وتنفذ ما يقال لها. والحالات الغريبة التي صادفتنا خلال جولتنا الاستطلاعية هي أن الممرض يصاب بحالة من الشك وعدم الثقة، تقول إحدى العاملات: "عملت مع حالات مرضية عديدة، ومع تعاملي الكبير مع هذه الحالات أصبحت تنتابني حالة من الشك والنسيان فلم أعد أتذكر بعض الأحداث التي قعت منذ فترة قصيرة حيث أصبحت ذاكرتني تخونني وتسبب لي الكثير من المتاعب خاصة في حياتي الشخصية، وينتابني شعور بالخوف الدائم من أن ينتقل إليّ الدور فأفقد عقلي نظرا لاحتكاكي الدائم بالمرضى". تقول ممرضة تعمل بالمستشفى نفسه بالقسم الخاص بالنساء: "إن الظروف المزرية التي نزاول فيها عملنا لها أثر سلبي كبير على حالتي النفسية، بسبب احتكاكي اليومي مع مرضى تتفاوت درجة ضررهم العقلي، فبمجرد عودتي إلى البيت أتوجه مباشرة إلى غرفتي دون أن أتحدث إلى أحد، وأصبحت أتنرفز بسرعة كبيرة عند الحديث مع أبنائي وزوجي". شاب يعمل عون أمن بالمستشفى لا يتجاوز سنه 26 عاما كان يبدو قلقا وغير راض عن القسم الذي يعمل به. أبدى رغبته في تحويل المستشفى قائلا: "بمجرد أن أخرج من هنا أتوجه مباشرة إلى المنزل وبمجرد وصولي بعد عناء يوم كامل أبقى أفكر في الحالات المختلفة التي تصادفني يوميا، فلم أعد أحتمل أكثر". وتضيف فتاة وهي ممرضة بالمستشفى ذاتها في قسم النساء "أصبحت أشعر بقلق وتوتر شديدين، ولم يعد بإمكاني الاتصال أو التعامل مع الآخرين كما كنت في السابق، ولم أعد أتحمل صراخ المرضى وتصرفاتهم التي كثيرا ما تثير غضبي، وقد تقدمت بعدة طلبات لإدارة المستشفى من أجل تغيير القسم". تقول فتاة أخرى موظفة سابقة بمستشفى دريد حسين "تعرضت للضرب والشتم من قبل المرضى نظرا لغياب ظروف عمل لائقة، فكنت في بعض المرات أزاول عملي رفقة ممرضات فقط في غياب كلي لأعوان الأمن أو ممرضين رجال، ودون أن أشعر أصبحت تنتابني حالات من الاضطراب النفسي وأصبحت أميل إلى النرفزة في تعاملي مع أولادي وزوجي في البيت وبالتالي قررت أن أنفذ بجلدي قبل أن أصاب بأي مرض". أكدوا بعض الأخصائيين النفسانيين الذين سبق لهم التعامل مع عدة حالات أن نسبة 85 بالمائة من حالات الانهيار العصبي يتم تسجيلها لدى موظفي مصالح الطب العقلي سواء الذين أحيلوا على التقاعد أو الذين لا يزالون في الخدمة. والبعض الآخر يفضل تحويله إلى مستشفيات أخرى أو الاستيداع حسب بعض المصادر من مستشفى الأمراض العقلية بدريد حسين فإن الكثير من الموظفين ونتيجة للضغوط النفسية التي يتعرضون لها يطلبون تحويلهم إلى أقسام أخرى، ولجأ البعض الآخر إلى طلب الاستيداع لأخذ فترة من الراحة، إذ وصل معدل طلبات التحويل في مصلحة واحدة 50 طلبا والتي لا يتم الموافقة على أغلبها من قبل الإدارة نظرا لنقص عدد الممرضين المكونين والمختصين في متابعة المرضى مقابل العدد المتزايد للمجانين في الجزائر. كما هو حال إحدى الممرضات التي قررت أن تقدم طلب استيداع نظرا لما تعانيه خاصة أنها أم لثلاثة أطفال وجميعهم يحتاجون إلى رعاية، تقول: "لقد جددت طلب الإيداع لأنني لم أعد قادرة على إدارة شؤون منزلي ورعاية أبنائي، فالضغط الذي نتعرض له يوميا أمام الغياب الكلي لحقوقنا التي نراها تهضم أمام أعيننا ولا يمكننا المطالبة بها، فلم أعد قادرة على العمل في هكذا ظروف وسأجدد طلبي حتى وإن قاموا بطردي نهائيا مع أنني أشك في ذلك لأن هناك نقصا كبيرا في عدد الممرضين". نقص كبير في أعوان الأمن وغرفة العلاج الأولي هيكل بلا روح تقول شابة تزاول مهنة التمريض بمستشفى دريد حسين منذ سنوات "لا أخفي عنكم الظروف المزرية التي نزاول فيها عملنا، خاصة أننا نعمل بقسم خاص بالرجال، فهناك نقص في عدد الأعوان والذي من المفروض أن يكون عددهم كبيرا بحكم أن المرضى كلهم رجال. والغريب في الأمر أن عدد الممرضات أكبر من عدد أعوان الأمن ما يجعلنا في خطر دائم، ففي الكثير من الأحيان نتعرض لاعتداءات من قبل المرضى ولا يتمكن عون أمن واحد من حمايتنا". وتضيف ممرضة أخرى: "تخيلوا أن قاعة العلاج لا تتوفر على أي جهاز خاص بالإسعافات الأولية، ففي حالة إصابة أي نزيل بمرض بالمصحة لا يمكننا حتى تقديم الإسعافات الأولية له بل نضطر لإرساله إلى مؤسسات استشفائية مجاورة، والتي كلفتنا في العديد من الحالات وفاة المريض داخل سيارة الإسعاف، فحتى إذا ما أصيب أي مريض بجروح بسيطة لا نملك أدوية لمعالجته ونضطر لنقله إلى مصلحة قريبة. ونتلقى في العديد من المرات انتقادات العاملين بهذه المصحات حيث يقولون لنا كيف لا نقدم لهم العلاج بما في حالة جروح بسيطة. وتضيف المتحدثة قائلة: "إلى جانب ذلك كله فإننا لا نملك قاعة خاصة بالممرضين نجلس فيها، فيتوجب علينا البقاء بقاعة العلاج طوال النهار حتى لو مرضنا أو حدث أي مكروه لنا ليس هناك غرفة نستعملها، ورغم طلباتنا العديدة والمتكررة بتخصيص غرفة لنا إلا أنه لم يؤحذ طلبنا بعين الاعتبار إلى غاية اليوم. كما أننا لا نملك مرحاضا خاص بنا وبالتالي نضطر لتقاسم المراحيض مع المرضى فلا يمكننا حتى قضاء حاجتنا في مأمن". وحسب ممرضة أخرى فإنه لا بد من تكوين ممرضين مختصيين في الأمراض العقلية وكيفية التعامل معهم، لأن معظم الممرضين الموجودين لم يدرسوا تخصص الأمراض العقلية، وبالتالي فهم يعجزون عن التعامل مع المرضى في كثير من الأحيان، بالإضافة إلى مشكل نقص الأدوية بصيدلية المستشفى إذ نجد صعوبة في إحضار الأدوية اللازمة. ويضيف ممرض آخر: "هناك جهاز تخطيط الدماغ الكهربائي بالمستشفى إلا أنه غير مستعمل بحجة أنه لا يوجد طبيب مختص لاستعماله، ورغم أن هذا الجهاز ضروري لقياس مخطط دماغ المريض إلا أنه يبقى مجرد ديكور بالمستشفى، بالإضافة إلى غياب تحاليل الأمراض المعدية خاصة تلك التي تنتقل عن طريق الدم لأن هناك الكثير من المرضى يأتون من الشارع وبالتالي يحملون جميع أنواع الأمراض، ففي حالة إصابة أي مريض بمرض معد تنتقل العدوى إلى الآخرين ويمكن أن تنتقل إلينا كذلك". حالات انتحار سنوية أمام غياب الرقابة يروي عامل بالمصلحة أمثلة عن محاولات انتحار في أوساط المرضى نتيجة النقص في عدد أعوان الأمن، والأمثلة كثيرة نذكر منها الحالة الأخيرة التي حدثت قبل حوالي سبعة أشهر حينما قام أحد المرضى بمحاولتي انتحار في ظرف يومين ولكنه تم إنقاذه في آخر لحظة، ولكنه في الأخير وبعد مرور حوالي أسبوع من محاولاته الفاشلة، انتحر بتعليق نفسه في مرش الحمام". * القانوني عمار خبابة: "لا يوجد قانون خاص بممرضي مستشفيات الأمراض العقلية" من جهته تأسف المحامي عمار خبابة لما يعانيه الممرضون في مستشفيات الأمراض العقلية، من تعرضهم لضغوط نفسية وفي بعض الحالات تصل إلى حد الاعتداءات الجسدية أثناء مزاولتهم لعملهم داخل هذه المستشفيات لاحتكاكهم اليومي مع أشخاص غير واعين بتصرفاتهم تحت ضغط ظروف نفسية صعبة. وأضاف خبابة في اتصال هاتفي مع "البلاد" أنه لا يوجد قانون خاص بالممرضين الذي يعملون بمشتشفيات الأمراض العقلية، وقد تم طرح هذا الانشغال في مرات سابقة من أجل وضع قانون خاص بهم نظرا لما يتعرضون له من ضغوط واعتداءات، إلا أنه بقي مجرد فكرة ولم يتم وضعه. فهؤلاء الممرضون يخضعون للقانون الأساسي للصحة الذي يشمل جميع الفئات، وفي حالة تعرض الممرض لأي ضرر فإنه يدخل ضمن حوادث العمل وبالتالي يطالب بتعويض الضرر الذي يحدثه المريض للممرض، وفي هذه الحالة حسب المحامي فإن المستشفى هو المسؤول عن التعويض، بحكم أن المريض غير مسؤول عن تصرفاته باعتبار الحادث مصنفا ضمن حوادث العمل وبالتالي يقوم بتعويضها له صندوق الضمان الاجتماعي وفي حالة العكس على المعني رفع دعوى قضائية على المستشفى. وفي هذا السياق أشار المحامي إلى أنه لم يصادف الكثير من هذه القضايا رغم تسجيل العديد من الاعتداءات على الممرضين ولكنهم يفضلون عدم التبليغ عنها ولا يوصلونها إلى العدالة. العمال يطالبون الوزارة الوصية بتأمينهم ومتابعتهم نفسيا وأمام الظروف المهنية والنفسية الصعبة التي يزاول فيها عمال المستشفى، خاصة أعوان شبه الطبي باعتبار أن 50 بالمائة من العاملين بالمؤسسات الصحية، ومنها العقلية، ينتمون إلى السلك شبه الطبي. فإلى جانب الضغوط النفسية التي يتعرض لها الممرض والتي تؤدي إلى العديد من الظواهر السلبية مع مرور الوقت تواجه هذه الفئة ضغوطا من نوع آخر، تتمثل في الاعتداءات الجسدية التي يتعرضون لها باستمرار. هذه الوضعية المزرية حسب عمال مستشفى الأمراض العقلية لدريد حسين من ممرضين ومساعدين وأعوان أمن ... لها تأثير سلبي مباشر كالخوف والنفور من هذه الاختصاصات بسبب غياب التأمين وفي هذه الحالة الممرض يقوم بعملين مراقبة المريض وفي الوقت نفسه يقوم بحراسة نفسه. وفي إطار الجهود التي تقوم بها النقابة للدفاع عن حقوق الممرضين فإن القانون الأساسي الذي تم إمضاؤه من قبل وزارة الصحة مؤخرا يتضمن المادة 4 المتعلقة بتأمين وحماية شبه الطبي أثناء مزاولة مهنته، بمثابة محفز قوي لضمان أداء الممرض لعمله في أحسن الظروف.