ابتداء من عدد اليوم، تشرع ”البلاد” في نشر سلسة أعمال صحفية عن الواقع السياسي والفكري والاجتماعي في مصر ما بعد ثورة 25 يناير، من خلال طرح أسئلة ”عميقة” عما حدث ويحدث في أكبر بلد عربي، وعرض الأجوبة التي تطرحها مختلف القوى والفعاليات التي تصنع المشهد بعد سقوط مبارك· ولعل من أكثر الأسئلة إلحاحا و”إحراجا” ما يطرح بشأن الصعود المدوي للتيار السلفي، وحلوله ثانيا في المرحلة الأولى من انتخابات البرلمان المصري، خلف مرشحي جماعة الإخوان المسلمين·· وإذا كان الصعود الجارف للسلفيين يطرح أسئلة عن مسببات الانتصار وعوامله والجهات التي ساهمت في صنعه، في الداخل كما في الخارج، فإن الأسئلة الأهم تتعلق بالمستقبل، نعني مستقبل العمل السياسي للتيار السلفي·· وعلاقته بالإخوان من جهة، وبالعسكر من جهة ثانية، وبالمجتمع المصري الكبير من زاوية ثالثة· ولعل ما يخيف المصريين اليوم، ليس عودة فلول الحزب الوطني، بقدر ما يخيفهم الزلزال الذي تحذر منه أكثر من جهة، بعد سقوط سلم التوازنات الذي كان يحكم البلد، وبالفعل، فإن سقوط ”السلم” قد بدأ يزلزل المستفيدين من عوالم ”الهرم” و”الغردقة” و”شرم الشيخ” وغيرها من ”المؤسسات” التي كانت عنوانا أساسيا وسمكة بارزة للنظام المخلوع· بقدر ما أفرحت الانتخابات الأخيرة ملايين المصريين ممن رأوا فيها قطافا أوليا لثمار ثورتهم التي أنهت عقودا من التزوير والسطو على إرادتهم في صناديق الاقتراع، أثارت نتائجها تلك هواجس لدى قطاع واسع منهم، خصوصا بعد حصول التيار السلفي ممثلا بحزب ”النور” على ما يفوق 21 بالمائة من نسبة المقاعد في المرحلة الأولى من انتخابات مجلس الشعب المصري· ومع أن تلك النتيجة بدت طبيعية وغير مفاجئة لمعظم من رصدت ”البلاد” رأيهم، وكذا المتابعين للمشهد المصري طيلة تسعة أشهر الماضية التي تلت تنحي الرئيس المخلوع حسني مبارك عن منصبه، إلا أنها دفعت بجملة تساؤلات وهواجس لمسناها لدى شرائح وطبقات معينة بخصوص مستقبل المشهد الاجتماعي ومصير قطاعات حيوية في البلاد، لا سيما بعد التصريحات الصادرة عن عدد من رموز وأقطاب التيار السلفي في مصر حول مسائل جوهرية تتعلق بالسياحة والآداب العامة والبنوك والسينما والفن وغيرها·· ”البلاد” حاولت رصد بعض ملامح قوة هذا التيار في المشهد المصري الجديد، ونقلت ردود فعل الشارع وبعض النخب حول نجاح السلفيين في فرض أنفسهم كقوة ثانية داخل البرلمان بعد الإخوان المسلمين، مسلطة الضوء أيضا على جانب من المخاوف والتوجسات التي يبديها البعض من هذا التوجه تحديدا· تغييب قسري أم ركوب للموجة؟ يسجل على التيار السلفي أنه ظل بعيدا لفترات طويلة عن المشهد العام في مصر خلال عهد النظام السابق، وحصر كل نشاطه خلال تلك الفترة والسنوات الأخيرة تحديدا من حكم مبارك داخل أطر دينية ودعوية لا تتجاوز العمل الخيري في أقصى درجاته، بل إن البعض هنا في مصر كان يعتبره مهادنا ومداهنا للسلطة المخلوعة، عبر فتاوى تأثيم الخوض في السياسة والترويج لفكرة طاعة ولي الأمر وعدم الخروج عليه وإن كان فاسقا! لكنه وكغيره من أطياف وشرائح المجتمع المصري، استفاد بشكل لافت من المناخ الذي أفرزته ثورة الشعب في 25 جانفي الماضي، على الرغم من أن عددا كبيرا من شباب الثوار الذين التقتهم ”البلاد” في ميدان التحرير نفوا مشاركة السلفيين في مظاهراتهم لإسقاط الرئيس إلا قبل أيام قليلة جدا على تنحيه من منصبه وتسليم مقاليد السلطة للعسكر· ومع هذا، فقد استطاع التيار أن يلفت إليه الأضواء خلال محطات عدة تلت دخول البلاد في مرحلة انتقالية اتسمت بالكثير من الفوضى وحالات الانفلات الناجمة عن ترهل قبضة الدولة، وقد بدا ذلك واضحا في أحداث حرق كنيسة ”إمبابة” القبطية ومشاركة السلفيين الكاسحة في مليونيات ميدان التحرير، الأمر الذي ساعدهم على إيجاد أرضية لأنفسهم في الساحة فاقت الوجود الشعبي حتى لدى بعض التيارات والحركات الإسلامية الأخرى، خاصة في الأقاليم والمدن الريفية المصرية· ويفسر المحلل السياسي ضياء رشوان في حديث ل”البلاد”، سر هذا الظهور الذي تأكد في نتائج الانتخابات الأخيرة، بالقول ”في الوقت الذي كان نظام مبارك يحكم قبضته الأمنية على ”الإخوان” و”الجماعة الإسلامية”، كان السلفيون يكثفون نشاطهم الدعوي الديني، الذي وصل إلى درجة تكفير الخروج على الحاكم”، مضيفا أن تركيز هذا التيار طوال الأعوام الماضية على النشاط الدعوي أكسبه قاعدة شعبية عريضة في الشارع المصري· حالة مصرية ”خاصة”! بخلاف المشهد في تونس والمغرب، حيث تمسك السلفيون هناك بأدبياتهم المعارضة للخوض في معترك السياسة، فإن المشهد في مصر كان معاكسا تماما بانخراط أتباع هذا التيار في كل تفاصيل العملية السياسية، منذ قرروا النزول إلى ميدان التحرير للمشاركة في مليونيات الثورة التي صارت سُنّة أسبوعية اعتادها المصريون للتعبير عن مطالبهم حتى بعد رحيل مبارك ورموز حكمه، مرورا بتشكيل أحزاب سياسية بمسميات مختلفة أبرزها ”النور” و”الفضيلة” و”الأصالة”، وانتهاء بمشاركتهم في اللعبة الانتخابية الأخيرة، رغم إعلان منظريهم الصريح عدم إيمانهم بفكرة الديمقراطية، باعتبارها أطروحة غربية مبنية على أسس لائكية تفصل الدين عن الدولة· ورغم أن هذا التوجه الجديد للتيار، وجد مبرراته ”الشرعية” لدى عدد من شيوخ السلفية الموصوفين بالاعتدال، على غرار الشيخ محمد حسان وبعض مشايخ التيار في الإسكندرية التي تعد معقلا رئيسيا لهم، بالقول إن موازين القوى في الماضي كانت تجبر كل من يخوض في السياسة على تقديم تنازلات، إضافة إلى عملية التزوير المفضوحة الممارسة في العهد السابق، جعلت المقاطعة وقتها مشروعة، بل ”واجبة” حتى تتغير الأحوال والموازين، فلما تغيرت الظروف صارت المشاركة ”مفروضة” في هذه المرحلة تحديدا· وقد أثار هذا الطرح جبهة معارضة قوية من بعض أقطابه الرافضين لخوض غمار السياسة والانتخابات جملة وتفصيلا، ونشير هنا تحديدا إلى أحد أبرز مشايخ السلفيين المؤثرين في مصر والعالم العربي، الشيخ أبو إسحاق الحويني، الذي أبدى اعتراضه على إدخال ”الطائفة الناجية” كما يفضلون تسمية أنفسهم في دهاليز السياسة، وأيده في ذلك الشيخ مصطفى العدوي، وأحمد النقيب الذي شنّ هجوما لاذعا على المشاركين، معتبرا دخول السلفيين المعترك السياسي ”مفسدة عظيمة” و”خطيئة كبرى”، لأن الممارسة السياسية حسبه تعني المصالح والكذب وتناقض الآراء وتذبذب المواقف وهذه الأمور بعيدة عن المنهج السلفي· ويبدو أن هذا الخلاف لم يقتصر على هرم ”الوهابيين” في مصر، بل امتد إلى القاعدة الشعبية لأنصار هذا التيار، فقد لمسنا خلال حديثنا مع شريحة واسعة من الشباب السلفيين في محافظات القاهرة، وجود خلاف حاد بين المؤيدين للمشاركة وأولئك الداعين إلى اعتزال ”الفتن” والتزام المساجد، بل إن حدة الخلاف بينهما تصل أحيانا إلى درجة القطيعة وشن الحملات على رموز الاعتدال في التيار حاليا، وهو ما عاينّاه فعلا في رأي أحد الشباب الذي رد علينا بمجرد ما ذكرنا اسم الشيخ محمد حسان، بالقول ”هو شخص متأول مجروح في ثقته”! ”ثوار التحرير”: هؤلاء قفزوا على ظهورنا المتجول في ميدان التحرير وسط العاصمة المصرية القاهرة، في الفترة التي تلت الانتخابات وإعلان النتائج، يلحظ غياب أي تواجد سلفي داخله بخلاف الفترات الماضية حين كان المشهد يكتظ بصور الملتحين والشعارات الدينية التي أضحت السمة الغالبة على ”جُمع المليونيات” بمصر· هناك في أحد زوايا الميدان بالقرب من مسجد عمر مكرم، اقتربنا من خيم ”حركة شباب 6 أبريل” الشهيرة بنشاطها المعارض لنظام مبارك، لنرصد رأي أعضائها بخصوص النتائج العالية التي منحتها صناديق الاقتراع للسلفيين في أولى انتخابات تشريعية بعد الثورة· بكثير من الحنق والشعور بالإحباط، رد علينا الشاب رامي سيد، قائلا: ”ياعم·· السلفييين دول سرقوا ثورتنا واحنا بنتفرج!”· الانطباع نفسه وجدناه عند عشرات المعتصمين في الميدان، الذين أجمعوا على أن السلفيين ومن خلال رموزهم كانوا حتى مع الأيام الأولى للثورة يعارضون المحتجين في شوارع مصر، بل إن بعضهم أصدر فتاوى تحرم المشاركة في المليونيات المطالبة بإسقاط مبارك تحت ذريعة عدم جواز الخروج على الحاكم، ويشير هؤلاء إلى أن تواجد هذا التيار في الشارع لم يظهر إلا بعدما اتضحت الأمور وبدا أن الأحداث تسير في طريق اللاعودة بالنسبة لنظام مبارك· ومع أن البعض اعترض على اتهام كل التيار بالتخاذل أيام الثورة، خصوصا أن بعض شيوخه على غرار محمد حسان كان له حضور لافت بميدان التحرير أثناء الثورة، إلا أن هناك شبه إجماع على أنه نجح في اللعب على أوتار المتغيرات المشهودة في البلاد ليقتنص موطئ قدم له بشكل جعل البعض يعتبره انتهازية سياسية قفزت على دماء من سقط قبل وبعد سقوط النظام· ذعر في الهرم وشرم·· وترقب في ”الهاي كلاص” من منا في الجزائر لم يسمع ب ”شارع الهرم” الذي كان عنوانا للرد على سباب الفضائيات المصرية بحق شهدائنا أيام الأزمة الكروية التي عاشها البلدان، عقب مباراة أم درمان الشهيرة· ”شارع الهرم” هو أحد أهم أحياء محافظة الجيزة التي تحتضن كنوز وأهرامات فراعنة مصر القدماء، ورغم انطوائه على تاريخ مهم دشنه الناصر صلاح الدين الأيوبي حين أمر بإنشاء جسر ينقل بواسطته أحجار الأهرام الصغيرة ليبني بها أسوار القاهرة وقلعته الشهيرة، فإن صورته لدى المواطن المصري وحتى السائح الأجنبي ظلت مشوهة، بسبب احتوائه على عدد كبير من الملاهي الليلية والمراقص والكباريهات الذائعة الصيت لدى المتعودين على ارتياد تلك الأماكن!·· استغلينا زيارة أهرامات الجيزة لنقوم بجولة سريعة في الشارع ”سيئ السمعة”، محاولين رصد الأجواء هناك بعدما سمعناه وقرأنا عنه في الصحف المصرية حول موجة ذعر اجتاحت أصحاب المكان ومرتاديه، على خلفية نتائج فوز الإسلاميين في الانتخابات الأخيرة· أول ما يلفت انتباه السائر بين أرصفة الشارع الفسيحة، قلة الحركة على غير ما يفترض أن تكون عليه مناطق تبني نشاطها أساسا على تقديم ”المتعة” و”الترفيه” لزبائنها· في البداية حدثني مرافقي بأن الأمر ربما يتعلق بتوقيت زيارتنا الصباحية فالحياة عادة تدب في هكذا أماكن مع حلول الظلام· لكن سرعان ما تكشف لنا أن الموضوع ليس على ذاك النحو، فأحاديث الناس هنا جميعها تشير إلى وجود توجسات حقيقية مما أفرزته صناديق الاقتراع، ولافتات ”للبيع ملاكي” أو ”للإيجار” أضحت ترسم ديكورا عاما في عدد ليس بقليل من محلات وملاهي الشارع· بعض من تحدثت إليهم ”البلاد” أرجعها إلى قلة إقبال السياح على المنطقة بعد التدهور الأمني الذي تعرفه مصر منذ 10 أشهر، ما أجبر أصحاب تلك الأماكن على التفكير في بيعها لتراجع أرباحها ومحدودية العائدات التي يكسبونها منها· في حين ربط غالبيتهم الأمر بحالة الذعر التي اجتاحت أصحابها على ضوء المتغيرات الحاصلة في المشهد السياسي المصري، وبروز التيار السلفي كقوة فاعلة في البرلمان المقبل، خصوصا بعد التصريحات الصادرة عن زعمائه والتي كان آخرها للمرشح السلفي لرئاسة الجمهورية حازم أبو إسماعيل الذي قال نصاً ”إذا ما انتخبت من الشعب فسأحظر الخمر والملاهي·· عار على بلاد الأزهر أن يكون فيها شارع الهرم”· وتسري إشاعات يتداولها السكان المحليون بنوع من الفرح والغبطة، أن أحد سلاسل المحلات الشهيرة – التي تتميز بطابعها الإسلامي- تسعى حاليا لشراء كافة الملاهي الليلية بشارع الهرم، استعدادا لتحويلها إلى محلات لبيع الملابس والأدوات المنزلية، وإنهاء نشاطاتها المخالفة للشريعة الإسلامية من بيع الخمور وإقامة الحفلات الراقصة· ويقال إن صاحب سلسلة المحلات وجد استجابة كبيرة من أصحاب الملاهي الليلية، الذين عبروا عن تخوفاتهم من احتمالات منع الملاهي الليلية والكازينوهات، ما دفعهم للموافقة على عروض البيع، التي أكدوا أنها ”سخية”· المشهد لم يكن مختلفا في الجهة الشرقية لمصر، حيث توجد منتجعات شرم الشيخ والغردقة ”فخر السياحة المصرية”، فقد ذكر ل”البلاد” الكثير من العاملين في مجال السياحة على ساحل البحر الأحمر، وجود خشية متنامية لديهم من تأثير وصول السلفيين على توافد السياح الأجانب في بلد تمثل فيه السياحة نسبة تتجاوز 10 في المائة من إجمالي الدخل القومي، كما تشير إلى ذلك الإحصائيات الرسمية· في حين يبدي آخرون قلقا ”غير مبرر” حسب البعض من تطبيق أفكار السلفيين في مجال السياحة، كإقدامهم على هدم آثار الفراعنة أو فرض هيئة معينة على زوار مصر كما هو حاصل مثلا في إيران، ويستحضر هؤلاء في كل مرة كلاما نقل عن أحد أبرز قيادات حزب ”النور” السلفي، الفائز بالترتيب الثاني في الانتخابات، عبد المنعم الشحات، يدعو فيه إلى تغطية وجوه التماثيل الفرعونية بالشمع، كونها تشبه الأصنام التي كانت موجودة بمكة المكرمة في عصر الجاهلية قبل الفتح الإسلامي· ”بوليوود العرب” تحبس أنفاسها·· ونجوم يحجون إلى الخارج غير بعيد عن السياحة، يبدو أن موجه ”الرعب” من بعبع ”السلفيين” امتدت بعد نتائج الانتخابات إلى قطاع آخر يوليه المصريون اهتماما واسعا، وهو مجال الفن والسينما· ولعل الجدال الحاد الذي نشب بين مجموعة من المثقفين وهذا التيار بعد وصف عبد المنعم الشحات القيادي في حزب ”النور”، كتابات الهرم الرابع كما يحب المصريون تسميته الأديب نجيب محفوظ الحائز على جائزة نوبل للآداب، بأنها ”محرضة على الرذيلة” و”حاملة لفلسفة إلحادية”، كشفت قمة الجبل الجليدي الذي يتوقع كثير من المصريين أن يصطدم عليه الطرفان في المستقبل القريب· ولم يخف زملاء لنا يشتغلون في صحف محلية، وجود هواجس ومخاوف كبيرة لدى الفنانين والمثقفين على مستقبل الفن والسينما، في بلد كانت تفاخر على نظيراتها في المنطقة بأنها ”بوليوود العرب” ومركز الثقافة والفن والأدب، على ما يحمله ذلك الفن بحسب كثيرين من سقطات أخلاقية وخرجات تخدش الذوق العام وتروج لنوع هابط من الثقافة في مصر والدول العربية المتابعة والمستهلكة للإنتاج المصري· جانب من تلك التوجسات، يلاحظها أي متصفح للجرائد المصرية التي أضحت تعج بعشرات الأخبار عن مشاريع ”هروب” لنجوم الصف الأول في السينما والغناء المصري وحتى العربي ممن وجدوا في مصر خلال السنوات الماضية سوقا رائجة لبضاعتهم· واللافت بحسب البعض، أن حمى التلويح بالهروب تلك طالت أيضا رجال أعمال ومستثمرين في قطاع السياحة والخدمات، فقد تحدثت وسائل إعلام محلية عن تأثير محتمل لنتائج الجولة الأولى من الانتخابات على مستقبل استثمارات رجال الأعمال المصريين والأجانب أيضا، مشيرة إلى تقارير تؤكد أن معظم المستثمرين الأجانب من أصحاب المشروعات الكبيرة أو حتى الصغيرة توقفوا عن ضخ أموال جديدة في مجال السياحة، بسبب مخاوف حول الشكل أو النموذج الذي ستأخذه الدولة مستقبلا مع بروز تيار لا يؤمن بحسبهم بالدورة الاقتصادية الحديثة المبنية على نظام بنكي ربوي ومعاملات ربحية أساسها منطق الربح والخسارة بعيدا عن معايير الشرع فيها· ولعل تصريحات رجل الأعمال المصري القبطي وصاحب مؤسسة ”أوراسكوم” المالك لفرع ”جيزي” بالجزائر، نجيب ساويرس، حين هدد بالخروج من مصر في حال وصل الإسلاميون إلى الحكم، تعكس الحالة التي تعيشها طبقة ”الهاي كلاص” من وصول هذا التيار عموما وتحديدا السلفيين· الصوفيون و الأزهر·· عداء قديم للوهابيين الغريب أن التيار السلفي لم يثر مخاوف من يوصفون ب”العلمانيين” في مصر فقط، بل إن الأمر امتد أيضا إلى التيارات الدينية الأخرى وتحديدا الطرق الصوفية ومؤسسات ما يوصف ب”الإسلام الرسمي” ممثلة في جامعة الأزهر ودار الإفتاء المصرية· وقد لفتنا إلى جانب من تلك المخاوف زيارة قادتنا إلى مقام الحسين بن علي رضي الله عنهما في قلب القاهرة القديمة، حيث لم يخف العشرات من مريدي الطرق الصوفية الذين التقيناهم أمام الضريح وهم يتجهزون لإحياء ذكرى عاشوراء، قلقهم من استحكام شوكة ”الوهابيين” في مصر· ويرجع الشيخ سيد (63 سنة) هواجسه تلك إلى الأفكار التي يروجها السلفيون ضد الطرق الصوفية بأنها ”شرك بالله”، إضافة إلى ما تثيره شائعات تروج عبر الإنترنت وفضائيات سلفية معروفة كقناتي ”الناس” و”الرحمة”، حول تهديد السلفيين باستهداف مقامات الأولياء وأضرحة الصالحين، حالة من الهلع والخوف لدى الكثيرين· ويعبر الحاج خيري أحد أتباع الطريقة ”العزمية” في دردشة معه، عن مخاوفه بالقول ”إن إلى سدة الحكم”، وعلى الرغم من اعترافه بإصدار مشايخ هذا التيار بيانات يرفضون فيها تلك الدعوات وينفونها، إلا أنه تحدث عن ”سوابق” قام بها شباب سلفيون قاموا بهدم بعض الأضرحة في محافظات ومدن مصرية عدة مستغلين ترهل القبضة الأمنية للدولة· في المقابل يتحدث شيوخ أزهريون، التقتهم ”البلاد”، عن حالة جفاء قديمة بين الوهابيين ومؤسسة الأزهر الشريف، سببها اختلاف منهج التفكير والتلقي عند الطرفين وهو الأمر الذي لم يكن ليصبح عائقا لولا الجمود والتحجر الذي يصف به منتسبو الأزهر أصحاب هذا الفكر·
ويذكر الجميع هنا في مصر الوصف الذي أطلقه الإمام الأكبر، الشيخ أحمد الطيب، بأنه ”حشوية” و”خوارج” يسيئون إلى الدين أكثر مما يصلحون· أما أكثر التصريحات قوة بحقهم فقد جاءت على لسان مفتي مصر الدكتور علي جمعة، الذي اتهمهم بأنهم ”أصحاب فهم ضيق ويحدثون فتنة في المجتمع ويؤثرون سلبا في أمن البلاد والعباد”· ولا يخفي على أحد حالة السخط والغضب التي يبديها مفتي مصر تجاه التيار السلفي، الذي اعتبره خلال مقابلة صحفية ”أقرب ما يكون إلى العلمانية منه إلى الإسلام”· الإخوان بين المطرقة والسندان
جماعة الإخوان المسلمين، الفائز الأول في انتخابات مجلس الشعب بأغلبية مريحة تجاوزت 40 بالمائة، وعلى الرغم من ”الهدنة المؤقتة” كما يصفها البعض مع السلفيين، فإنها تبطن توجسات غير خافية من الصعود ”غير المتوقع” لهذا التيار الذي تختلف معه فكرا ومنهجا ورؤية· فالطرفان يعترفان بوجود خلاف عميق بينهما يكتسي طابعا شرعيا فكريا وليس سياسيا، خصوصا وأنهما كانا على الدوام في صراع حتى على الأطر الدعوية داخل المساجد والجمعيات الخيرية· فالسلفيون يتهمون الإخوان بالسعي وراء المكاسب السياسية الدنيوية والتضحية بقدر كبير من تعاليم الإسلام في سبيل الوصول إلى السلطة، في مقابل رؤية الجماعة لهذا التيار بأنه أكبر عائق أمامهم لبلورة نموذج دولة مدنية بعمق إسلامي وفق المنظور الذي يؤصل له الفكر السياسي والفكري للإخوان منذ عقود طويلة· وإن كانت هذه الاختلافات لا تظهر في الوقت الراهن لطبيعة المرحلة التي فرضت عليهم مواجهة التكتلات الليبرالية استنادا إلى منطق ”العدو الأكبر”، فإن تلك التناقضات ستطفو على السطح عندما تثار القضايا الخلافية بخصوص معالجة عدد من الملفات في الساحة المصرية·
وبحسب ما فهمناه من بعض قيادات الإخوان، فإنهم باتوا الآن أمام مأزق حقيقي مع صعود السلفيين الذين لن يدخروا جهدا في رفع سقف الخطاب داخل البرلمان بخصوص عدد من القضايا الجوهرية التي تثير مخاوف قطاع واسع من الشعب المصري، ومحاولتهم ممارسة نوع من الابتزاز عليهم لإحراجهم أمام الشعب المصري إن حاول الإخوان التعاطي مع تلك الملفات بلغة الواقع وسياسة المرحلية التي لا يبدو أن السلفيين واستنادا إلى خطابهم الحالي متفهمون لها ومستعدون للتعاطي معها·