بإجماع شبه كلي، من معارضين بالقول وهو أضعف أنواع المعارضة إلى المؤيدين والمتفرجين، ثمة رأي واحد وهو أن البلاد فقدت مع رحيل المناضل الكبير عبد الحميد مهري آخر عقل وهو الأول أيضا من النوع الثقيل جدا الذي لو وضعناه على حدة، ووضعنا مقابله كل عقول الجزائريين لغلبها! فكيف تعاملت سلطة على الضالين أمين مع جنازة هذا الرجل بعد أن تعمالت معه على الأقل طوال عشرين عاما بجفاء·
أسئلة تبحث عن أجوبة
هذا السؤال الذي له ما يبرره مع حضور شبه رسمي لجنازة المرحوم عبد الحميد مهري في مقبرة شعبية (تقابلها مقبرة رسمية)
أضحت تحتضن جثامين المعارضين للنظام يتفرع عنه سؤالان ممهمان: السؤال الأول··· إذا كان المناضل مهري وهو من الرعين الأول للحركة الوطنية، ومن المناضلين الشرسين عن فكرة بناء المغرب العربي ومن المؤمنين بالفكر العربي، لماذا لم يحضر الجنازة إلا سفير المغرب، مع أن تونس أولى (لأسباب تاريخية)، وبدرجة أقل ما الذي منع واحدا من أعضاء مما يسمى بالمؤتمر العربي الاسلامي وهو تنظيم تأسس نهاية الثمانينيات ويضم نخبة المفكرين العرب مع اثبات وجوده، مع أن المرحوم ترأس هذا المؤتمر لعهدة سابقة·
والسؤال الثاني، وهو الأكثر خطورة إذا كان مهري قد خصص الجزء الأخير من حياته للدفاع عن قيم المواطنة والحرية، وحقوق الإنسان وحقه في اختيار من يحكمه أين هو المعني بالأمر، وهو هذا المواطن نفسه الذي ظهر غير مبالٍ وكأن الميت فار، وبالمناسبة لايمكن لممثلي تنظيمات حقوق الإنسان الذين حضروا أن يكونوا بديلا عنه، خاصة أنه لا يمكن القول إن الشرطة حالت بينهم وبين الجنازة مثلما تفعل وهذا المواطن يتظاهر أمام الولاية اعطوني ···أعطوني”!! فهذا الغياب يحتاج لوقفة كاملة قد أتناولها في موضوع لاحق!
تلك جملة ملاحظات من بين ملاحظات أخرى تتعلق بمراسم تشييع المناضل الكبير مهري، وليس لفكره وتحليله الذي ثبت على مدار اكثر من عشرين عاما (من المعارضة الفكرية والعلمية)الهادئة بأنه الأكثر صوابا والأكثر عمقا، وهو النبراس الذي ينبغي لأشباه الساسة والمثقفين ”الخبزيست” وباقي الرعيان غير الكرام، أن يتخذوه طريقا للوصول بسلام، وإن ظلوا بعيدا·
بروتكولات جنائزية
مع أن الواحد يمكنه الجزم من خلال معرفته بالشخص بأن رجلا منحكا ومثقفا من طراز أول وصاحب مبادئ عالية لم يكن يريد أن تكون جنازته رسمية بدليل أنه اختار أن يدفن في مقبرة عادية يعود إليها الناس البسطاء وهو الذي يقول دائما إن الحزب الحقيقي (يقصد الأفلان وغيره) لاينبغي أن يحرسه شرطي وإنما يحرسه مناضلوه (وقس عليه الحرس الشخصي المرافق لأي مسؤول)·
مع ذلك فإن الذي حصل أن سي عبد الحميد حظي بجنازة رسمية تقريبا بالكامل لاينقصها إلا حضور الرئيس شخصيا للمقبرة ودق الطبول والموسيقى الرسمية تحية للمرحوم المظلوم!
أما فكرة الجنازات الرسمية، نفسها فقد تكون مرتبطة بفكرة الظهور وحب الزعامة سواء أصدرت مباشرة من صاحبها أو صدرت فيما بعد بعد وفاته عن الدائرة·
فالتاريخ يذكر مثلا أن الملك فاروق الذي أطاح به العسكر في مصر اشترط لخروجه من مصر أن تقوم فرقة عسكر بتقديم التحية له في الميناء وكأنه سيعود!
والحاضر جعل قادة كوريا الشمالية الذين ودعوا زعيمهم كيم وعوضوه بكيم الابن وهو مازال في الروضة صبيا يوهمون الناس بأن الطير حتى هو بكى الزعيم في يوم بارد فسال دمعه وهو كباقي شعبه المطيع جوعان وحتى محروم من الكلام، التصريح بما فيه من آلام على طريقة ما ينصح به النفسانيون لمواجهة كبت النفس!
وثمة قناعة لدى الزعماء العرب المحدثين والسابقين بألا يغادروا الكرسي إلا إلى القبر، وهذا ما جعل غيرهم من الحاشية ومن المديرين والمستفيدين من ربع الأنظمة ينسحبون على نفس المنوال، فما هم بمزحزحين وذاهبين الى ديارهم إلا إذا كانت تسمى الدار الآخرة!
فلعل هؤلاء الزعماء قفزت الى أذهانهم فكرة مفادها أنه كلما كانت المندبة كبيرة ظلت تلك المندبة محفورة في أذهان الجماهير (الكروية) وهذا بعد أن ثبت بأن صدق ومواقف الرجال هي التي تصنع الفارق وتحسم في نهاية الأمر إن كان الزعيم حقا زعيما وحكيما أو كان مجرد فار يعبث في الدوار ويطل على غيره من الغار!
فلماذا حضر معظم المسؤولين الهامين في الحكومة والدولة جنازة المرحوم مهري وهؤلاء للتذكير من طينة واحدة ولا يمكن الجزم بأن فيهم من يؤيد مهري وفكره وهناك من هو ضده، فهم على دين رجل واحد وسلطة واحدة كانت وراء تعيينهم وهي معهم في كل كبيرة وصغيرة!
هؤلاء حضروا لأمرين:
الأمر الأول: أنهم يريدون إعطاء إنطباع بأن سي عبد الحميد في النهاية تاعهم وهو كبيرهم وهو صاحبهم ومن واجبهم إظهار واجب الإحترام، وهو يغادرهم إلى الأبد ولو من باب التملق والتزلف فبعضهم متورطون في انقلابات علمية مباشرة ضده لأجل جعل الأفلان دائما غطاء و”زاورة للسلطة يحتمون بها لقضاء مآرربهم الشخصية·
الأمر الثاني: إن عددا من هؤلاء يكونون قد أحسوا بالخطأ الفادح بعد أن انقشع الضباب عن أعينهم وتبين لهم أنهم كمن حاول الهرب من القطرة فسقط في الميزاب مع استمرار حكم الجهلة والأميين، واتضاح الرؤية لديهم بأن الطريق الذي سلكوه قد انتهى ولم يعد له من مخرج ولاباب إلا تغيير النظام برمته، وأفضله ما كان بالوسائل السلمية وليس بالخروج إلى الشارع!
فهؤلاء لعلهم يريدون مع توديع الرجل التكفير عما اقترفوه في حقه، وفي حق خلق كثير ضاعت حقوقهم·
دون إحراج
وحده سفير المغرب هو الذي يكون قد حضر جنازة المرحوم مهري ولعله جاء مختزلا ومعوضا لكل الطبقة السياسية المغربية وعلى رأسها حزب الاستقلال فهذا الحزب الذي يماثل الأفلان في الجزائر والحزب الدستوري (لصاحبه بورفيبة) شكل مع هذه الأحزاب النواة الرئيسية لفكرة اتصال المشترك والوحدة المغاربية التي مازالت الى حد الآن مجرد فكرة على الورق وقول يتردد في الأفواه!
فأين سفير تونس مثلا أو ليبيا ( إذا كان لايمكن لهتين الجارتين أن تتذرعا بالحالة الهشة فيما بعد الثورتين؟ وهذا بدليل أن راشد الغنوشي جاء معزيا في وفاة الشيخ سحنون مؤخرا والذي يرقد بجوار مهري مع بن خدة· فالغنوشي جاء وهو يقول إنه فعل ذلك لأن سحنون درس وتعلم في تونس، فلماذا لم يأت من يمثله في وفاة مهري أو من يمثل الرئيس التونسي المؤقت منصف المرزوقي خاصة أن المعارضة التونسية هي من تحكم الآن!
هذه المسألة تطرح ربما من زاوية أن النظام التونسي يمكنه أن يحرج السلطة في الجزائر التي تجاهلت مهري في حياته وتدافعت وقت دفنه تتفرج عليه بعد أن قالت له وقت الأزمة إنك لا تملك وسائل تنفيذ سياستك!
أسوق هذا الكلام لأن النظام التونسي أيام الرئيس الهارب بن علي قد تم إحراجه جزائريا بالدرجة الأولى عند وفاة الرئيس السابق وزعيم تونس الحبيب بورفيبة فقد كانت نية بن علي أن يدفن الزعيم الذي خلفه (وهو لا يملك شهادة الباك) كما صرح بورفيبة قبيل وفاته خوفا على مصير تونس التي عاد يحكمها بوليس فقد ذهب بوتفليقة بكرة الى منزل آل بورفيبة في المنستير قبل أن يلحق به الراحل ياسر عرفات ثم جاك شيراك وعبد الله صالح لتتحول الى جنازة رسمية رغم أنف بن علي··· وقتها قال بوتفليقة إننا نحن في الجزائر أولى من غيرنا بتقديم واجب الإعتراف لهذا الزعيم التاريخي!!·