دفن أمس الراحل مهري في جو مهيب لم نشاهد مثله في تشييع رجل خارج إطار رجالات السلطة. لقد حقق سي عبد الحميد مهري إجماعا وطنيا في الحزن لم يتحقق لراحل عن الحياة في الجزائر منذ وفاة بومدين. فالناس احترمت مهري وهو حي لمواقفه وأفكاره واحترمته وهو ميت لأنه كان نموذجا للمناضل الخالص والمخلص للجزائر. لهذا حضر جنازته حتى أولئك الذين كانوا يختلفون معه إلى العداء. واحترموه حيا كما احترموه ميتا لأنه اختلف معهم حول الجزائر ولم يختلف معهم بسبب جاه أو سلطة أو حتى منافع خاصة. وعندما ضاقت مقبرة سيدي يحيى بجموع المشيعين تساءل الناس: لماذا لم يدفن سي عبد الحميد المجاهد الكبير في مربع الشهداء بمقبرة العالية والأمر هنا لا يعود لرغبته رحمه اللّه.. بل يعود إلى رغبة العائلة التي أرادت أن يدفن بالقرب من زوجته الراحلة منذ سنوات. لكن ينبغي أن نقول هنا بمرارة.. بأن العديد من المناضلين الكبار من أمثال عبد الحميد مهري أصبحوا يوصون بدفنهم في مقابر الشعب وليس مقابر الموتى الكبار في مربع الكبار في العالية. بعضهم قال لي إن الإهانة التي أصبحت تتعرض لها قبور الشهداء والمسؤولين الكبار في مقبرة العالية من نبش وتكسير وتوسيخ هي التي جعلت هؤلاء الكبار يوصون بدفنهم في مقابر الشعب.. لأنهم يحسون بالأمان في مقابر الشعب أكثر مما يحسون بالأمان في المقابر الخاصة بالمسؤولين الكبار! وهذا مستوى آخر وصلت إليه السلطة في البلاد في علاقتها بالناس. وحين تصل المعارضة للسلطة إلى مستوى المقابر على هذا النحو بهذه الصفة نتساءل: كيف لم تفهم السلطة بعد أن الشعب أصبح لا يريدها؟! نعم لقد أصبحت حالات تشييع الراحلين إلى دار الحق مناسبة للتعبير السياسي لها دلالتها المعبرة أكثر من مؤتمرات الأحزاب والجمعيات التي تشبه مؤتمراتها جنازات ليس فيها حتى حيوية الجنازات السياسية المعبرة مثل جنازة سيد عبد الحميد مهري. لقد رحل سي عبد الحميد مهري إلى مثواه الأخير تاركا وراءه شعبا توحد في الحزن عليه كما لم يتوحد في الحزن على راحل قبله. فنم مستريحا أيها الفارس الحكيم ودعنا نحن بعدك نردد: يا سي عبد الحميد إن حسنت فيك المراثي وذكرها فقد حسنت من قبل فيك المدائح. تغمدك اللّه برحمته الواسعة بالقدر الذي كنت فيه في حياتك ترحم أمتك بمواقفك وأفكارك النيرة والحكيمة.