ظن كثير من الناس أن ما يحدث اليوم في الوطن العربي من حالة فوضى عارمة تسود الشارع العربي ظاهرة صحية· فقد اعتبرها البعض ثورة شبانية أوشعبية كيفما كانت المصطلحات، وأنها عبارة عن صحوة للمواطن والشارع العربي ضد الحكم السائد والفساد وسوء الأخلاق والتسلط والديكتاتورية التي ميزت حكم كثير من الأنظمة القائمة في بعض البلدان بالوطن العربي على امتداد عشريات من الزمن· لكن التطورات الدموية التي انتهت إليها معظم هذه (الثورات الشارعية) إن صح هذا المصطلح، خصوصا في ليبيا ومصر باتت تطرح أكثر من علامة استفهام· فهل هي انتقال من تلك الأناركية التي تعني في اللغة اليونانية بدون سلطة، وهي نظرية سبق أن سادت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وكان من الأسباب الرئيسية لظهورها هومحاربة سوء الأخلاق والفساد الذي ميز كثيرا من الأنظمة ي تلك الفترة من التاريخ، وقد عاد هذا المفهوم للتداول وللظهور من جديد مع بدايات هذا القرن؟ أم أن ما يجري اليوم هومزيج من أفكار ونظريات بما فيها نظرية الفوضى الخلاقة التي بشرت بها الإدارة الامريكية على لسان وزيرة خارجيتها السابقة كوندوليزا رايس، والتي تعتبر امتدادا لما تحدث عنه المفكر الإيطالي المشهور مكيافيلي ،وهي النقطة التي سبق لي وأن تحدثت عنها في مجالات سابقة؟ فهل نحن أمام ظاهرة (ثورة شارعية) جديدة تكاد تكون مشابهة في تصرفاتها ولكن دون تبني أفكارها للنظرية الأناركية التي تم تبنيها من طرف الحركة النقابية والعمالية وخاصة ذات التوجه الاشتراكي منذ القرن المنقضي؟ كانت أفكار الأناركيين تهدف إلى إقامة سلطة تقوم على حكم المجتمع ككل بعماله ونقابييه وطلابه ومجتمعه عموما كسلطة بديلة عن السلطة القائمة، وبتعبير آخر إقامة سلطة اللاسلطة، أوتبني مجتمع يقوم على اللاسلطة، ولكن دون استخدام العنف لتحقيق هذه الغاية· ولكنه لم يحدث في التاريخ أن تم تغيير سلطة قائمة بوسائل دفع من الشارع أوالجماهير دون إسالة للدماء· فالقمع الذي تعرض له أصحاب هذه الأفكار بعد تجسيدها ميدانيا هوالذي تركهم يتحولون إلى استخدام العنف المضاد والإرهاب بعد أن جوبهوا بقمع السلطة القائمة وخاصة في الولاياتالمتحدةالامريكية كما تبين من خلال اغتيال الرئيس الأمريكي الأسبق ويليام ماكنلي· وخلال الحرب الثانية وما أعقبها من ظهور حركات سلمية كان من بين منظري زعماء هذه النظرية ومتبنيها الكاتب الروسي المشهور ليو تولستوي والزعيم الهندي الراحل غاندي اللذين اعتمدا على ما عرف بالمقاومة السلمية لمجابهة السلطة القائمة على العنف والتسلط· تنطلق الأناركية من أفكار رئيسية تقوم على انتظام المجتمع بشكل غير هرمي، أي لا وجود لسلطة فيها رئيس أومرؤوس· أي أن المجتمع في عرف هؤلاء الأناركيين لا يحتاج لا للرؤساء ولا للمنتخبين ولا لأرباب العمل ولا لأية وسيلة منظمة، بدعوى أن الشعب بإمكانه أن ينظم نفسه من تلقاء نفسه، أي أنه لكل فرد حسب حاجته ولكل حسب قدرته·· وقد تحرك بعضهم من جديد في بدايات هذا القرن مع ظهور بعض المشاكل خاصة في المجتمعات الرأسمالية الغربية في محاولة لإحياء مثل هذه النظريات دون مساندة الطروحات الاشتراكية كما تبناها بعض دعاة الأناركية خصوصا في بدايات القرن الماضي لتحريك النقابات العمالية والمجتمع المدني لضرب أسس ومكونات الدولة والمؤسسات القائمة التابعة لها بدعوى عجز هذه الأخيرة عن تلبية الحاجيات الأساسية للمواطن· وفي مقابل هذه النظريات الأناركية القديمة الجديدة القديمة برزت في الآونة الأخيرة ما يمكن أن أصطلح عليه ب (الثورات الشارعية) وخاصة في الوطن العربي، أوما صار يوصف بالربيع العربي حيث صارت الجماهير الشعبية كما نلاحظ ذلك هي التي تحرك هذه الثورات انطلاقا من الشارع وحتى من خلال تنظيمات حزبية مهيكلة كما وقع في مصر قبيل سقوط نظام مبارك حين ركب الإخوان المسلمون والسلفيون موجة الثورة الشبانية واستخدموها لأغراض سياسية مكنتهم في النهاية من الإحراز على الأغلبية البرلمانية في التشريعيات الأخيرة· ولكن هل بإمكان هذه الجماهير بمعزل عن الأحزاب المهيكلة التحكم في هذه الثورات، أم أن هذه الثورات ستفلت من الجماهير التي تبنتها ليركبها آخرون ربما لم يكونوا أصلا من أصحاب الشارع مثلما لاحظنا ذلك في أكثر من عاصمة عربية وقع فيها هذا الحراك الشارعي العربي؟ فقد صرنا نسمع ونقرأ كل يوم أفكارا جديدة من متبني هذا الفكر الذي تبناه خصوصا التيار الإسلاماوي، بما فيه التيار السلفي الذي كان يرى في الديمقراطية كفرا، حيث كان يجاهر علنا في خطاباته السياسية برفض انتهاج وتبني كل المؤسسات التي كانت قائمة من قبل والتي يكون دستور هذه الدولة أوتلك قد كرسها في الميدان· فهل يمكن لهؤلاء أن ينجحوا الآن بعد أن اعتلوا سدة الحكم مع ما بات يحدث في الشارع العربي من حراك يتجدد كل لحظة بتيار جارف؟ ثم هل بإمكان هؤلاء أيضا أن يلبوا المطالب الاجتماعية التي قد تزيد عن الحاجة، وخصوصا إذا ما وجدت مثل هذه الأنظمة الجديدة التي جاءت بفعل الزخم الشارعي نفسها عاجزة عن تلبية هذه الحاجيات الاجتماعية المتزايدة للشارع وعن ضغط الشارع الهادر، وعن التكفل بالمسائل الأمنية وعن مجابهة القدرة الشرائية وتفشي البطالة وسط الجماهير الشعبية، وحتى عن مجابهة العنف في الملاعب كما حدث في ملعب بورسعيد بمصر أخيرا حيث تفجر الشارع بعد الأحداث المؤسفة الدامية التي أعقبت مباراة لكرة القدم بين فريقين مصريين، وهذا بالرغم من أن بعضهم قد حاول إلصاق تهمة ما وقع بالحكومة القائمة والمعتبرة في نظر البعض من بقايا النظام السابق· لقد بات التخوف قائما من أن تفلت الأمور كلها من أي نظام يقوم في مصر وفي غير مصر بسبب ما بات يميز محاولة تحكم الشارع في زمام الأمور دون أن يتمكن هذا الشارع من معالجة المشاكل المطروحة وخصوصا في ظل غياب القانون· إذ لا توجد سلطة على الأرض تقوم على وجود اللاسلطة ، ثم إن تشعب طبيعة المشاكل وتعقد أسباب معالجتها يتطلب وجود سلطة قوية بمؤسساتها الدستورية المنتخبة والمعينة وبمجتمعها المدني الذي بات دوره هوالآخر ضروريا في ظل هذه الديمقراطية التشاركية التي تعد من أبرز سمات هذا العصر· فاذا ظن هؤلاء الذين باتوا يحتكمون إلى الثورة الشارعية بأنهم قادرون على اكتساب ود الجماهير ونيل أصواتها في هذه الفترة التي صار فيها الشارع هوالسيد والحكم، فهل سينجح هؤلاء (الشارعيون) مستقبلا في التحكم في هذا الشارع الذي باتت مسألة التحكم فيه من أصعب المعادلات التي تقوم عليها أنظمة الحكم في الوطن العربي خصوصا في هذا العصر الشارعي والذي قد يصبح فيه الانفلات الشامل هوسيد الموقف، وبالأخص بعد فشل أصحاب الربيع العربي في كبح جماح شارع بات لا يقف عند مطلب معين أوعند سقف محدود من مطالب متعددة الاتجاهات وصعبة التنفيذ، وقد لا تنتهي عند حدود واضحة، كما يغدوتحقيقها من الصعوبة بمكان في الميدان العملي؟ ثم إن طبيعة كل حكم حتى ولو كان جماهيريا وشارعيا تحتاج إلى قيادة وإلى نخبة تستند إلى الأفكار وتعتمد على الحوار مع الآخر مهما كان الموقف منه، وتسعى إلى تبني منظومة قانونية لتطبقها على الواقع، ولتحارب بواسطة آلياتها كل أشكال الفساد والتجاوزات التي قد تطال الأفراد والمجتمع أوتمس بالمؤسسات القائمة للدولة أوحتى لهذا المجتمع الشارعي المفترض، وإلا فإن الفوضى والعنف والإجرام والإرهاب سيغدوهوسيد الموقف· وقد تكون هذه الشارعية أوحكم الشارع أكثر تسلطا وديكتاتورية من الأنظمة الديكتاتورية المتسلطة نفسها إذا لم تحتكم لقيادات واعية لها رؤيتها في تسيير شؤون الدولة وتحكم وفق العقل وتطبيق القانون وليس وفق نزوات شارعية تسودها الفوضى وتميزها العاطفة والنزوات المتطرفة كيفما كان لونها وشكلها· ويبقى السؤال المطروح الآن هل نحن نعيش فعلا مرحلة انتقالية يسعى فيها بعضهم إلى الانتقال من الأناركية القديمة الجديدة إلى حكم (الشارعية) الجديدة التي قد تفسد في النهاية هذا الوهم حتى على أصحابه ما دامت هذه (النظرية الشارعية) لديها جموح قاتل لأنها لن تقف إطلاقا عند حدود معينة بذاتها؟