اكتسح الإسلاميون ممثلين في »التيار المعتدل« بقيادة زعيم النهضة راشد الغنوشي المشهد السياسي في تونس، بعد فوز عريض في انتخابات المجلس التأسيسي، ويتصدر الإخوان المشهد السياسي في مصر رغم أنف عساكر المشير الطنطاوي، ويرتقب أن تتحول ليبيا إلى مسرح لأمثال عبد الجليل من المتعطشين إلى تعدد الزوجات، ولا أحد يدري أي صورة سيأخذها المشهد السياسي في باقي الأقطار العربية التي تتجه رغم أنفها نحو أشكال سياسية شبيهة بتلك التي تحكم إمارات المشرق المنبطحة أمام أمريكا. ولا نتمنى بأن يقلب حكام تونس الجدد الطاولة على الشعب التونسي، أو يصادروا إرادته، وكل ما نتمناه أن لا تتعدى المظاهرات التي قامت هنا وهناك ضد الإسلاميين، مستوى التعبير عن الرأي، ولا تصل إلى حد تكرار ما حصل في الجزائر ويتم وقف المسار الانتخابي، لكن من حق التونسيين أيضا أن يعبروا عن مخاوفهم على مستقبل بلدهم، مستقبل الحريات التي انتزعوها بفضل مئات الضحايا من بن علي ونظامه، خاصة وأن الصورة التي يقدمها بعض الإسلاميين في أماكن مختلفة من العالم لا تترك أي مجال للاطمئنان أو النوم قرير العين تحت سلطانهم. لكن ما الذي يجعل الدول الغربية التي طالما خوفت العالم أجمع من »البعبع« الإسلامي، تكتفي هذه المرة بالمراقبة عن بعد، بل وتدعم هذا التوجه الذي ساهمت في صنعه من خلال الإطاحة بأنظمة ديكتاتورية كانت تعمل تحت عباءتها، وتتصرف حسب رغبتها في قطع الطريق أمام الإسلاميين، والحيلولة دون وصولهم إلى السلطة، بل وملأ السجون بالآلاف من أنصار التيار الإسلامي من المعتدلين أو الراديكاليين؟ فما الذي تغيّر في فلسفة الدول الكبرى لتصبح ترى فيما يسمى بالتيار الإسلامي المعتدل البديل في بعض الدول العربية كتونس وربما ليبيا ومصر ودول عربية أخرى؟ فهل يعتقد الغرب حقيقة بأن توجهات الشارع العربي تسير فعلا نحو تبني التيارات الإسلامية، ومن هذا الباب كان لزاما تيسير الأمر أمام المعتدلين ليتم قطع الطريق أمام المتطرفين، أم أن وراء ذلك طبخة جديدة وحسابات أخرى لا تخرج بطبيعة الحال عن الهوس الغربي الذي ينحصر بين نقطتين هامتين، هما ضمان بقاء السيطرة على العالم العربي من خلال إضعافه، وخلق أنظمة موالية له، لحماية النفوذ السياسي والاقتصادي للدول الكبرى؟. وبتعبير أخر فإن الإسلاميين »المعتدلين« تحوّلوا إلى ورقة أخرى بالنسبة للدول الغربية وخصوصا أمريكا، ورقة سوف تسمح بإزاحة الأحزاب القومية عن الحكم في العالم العربي، ولن يقتصر دورهم فقط في هذه المهمة، بل يتعدى ذلك إلى إضعاف التيار الراديكالي الذي يتبنى ما يسمى ب»الإسلام الجهادي«، باعتباره التهديد المباشر لأمن الغرب ولمصالحه في العالم العربي والإسلامي. لكن وفي كل الحالات سيظل هذا العالم العربي مجرد ساحة للتجارب، لن ينعم بفضائل الديمقراطية ولا بالحريات التي تتقلب فيها الشعوب في الغرب، ووصول الإسلاميين إلى السلطة في العالم العربي لا يعني سوى أمرا واحدا فقط وهو أن الاستبداد قد غير من جلدته،ولبس عباءة جديدة، وان الشرعية الدينية سوف تأخذ مكان الشرعيات الأخرى التي اعتمدت عليها العديد من الأنظمة العربية في حكم شعوبها بالحديد والنار، وفي النهاية لن يتغير أي شيء بالنسبة للشعوب العربية عدا شيئا واحدا فقط ربما، وهو الانتقال من فلسفة المقاومة والتغني بالسيادة ونصرة القضايا القومية، إلى فلسفة الانبطاح والتسليم للغرب من دون حياء. فلن تجرأ الأنظمة الوليدة في العالم العربي والتي أنجبتها، أو ستنجبها ما يسمى ب »ثورات الشارع العربي« على الوقوف في وجه أمريكا وفرنسا أو بريطانيا، وهذا لسبب بسيط، فهذه الأنظمة تعتمد أيضا على شرعية ثورية يحوز الحلف الأطلسي الجزء الأكبر منها، فهو الذي صنع نصر هذه »الثورات«، ومن غير المعقول أو المنطقي أن تخرج الأنظمة التي تنجبها هذه »الثورات« عن طاعة وإرادة صانعها أو تتصرف بمعزل عن الأجندة التي يرسمها هذا الصانع، الذي أكثر ما يهمه هو أن تحمى مصالحه في العالم العربي، وتظل إسرائيل آمنة ومطمئنة،و صاحبة الكلمة العليا في المنطقة.