بمبادرة من الملحق الثقافي ''الأثر'' لجريدة ''الجزائر نيوز''، أدار الأستاذ احميدة عياشي ندوة فكرية حول مجريات ما حدث من تغيرات في عام ,2011 سنة العرب بامتياز التي سميت سنة ''الربيع العربي''، وكان قد شارك فيها نخبة ممن يتبوأون مراكز واختصاصات أكاديمية: محمد هناد (علوم سياسية) وناصر جابي وعمر لارجان وزبير عروس (علوم اجتماعية)· بدءا، قدم احميدة عياشي وجهة نظره حول ما يدور في المنطقة العربية، بعد مرور سنة على الحركات الشعبية التي فجرها البوعزيزي في تونس وقتل أحد الطلبة على يد الأمن في الإسكندرية، كذلك اختفاء وتصفية المئات من المعارضين للقذافي في ليبيا، هكذا أو من أحداث أخرى تراكمت وفجرت المكبوت· لقد تمحورت النقاط التي قدمها احميدة عياشي للنقاش على مجموعة أسئلة أولها: 1 ضبط المصطلحات المستخدمة لوصف ما يحدث في العالم العربي· 2 قراءة التطورات التي تحدث وتداعيتها المحتملة· 3 مضمون هذه الأحداث (الثورات) مقارنة بحركات التحرر العربية في الخمسينيات والستينيات من القرن المنصرم· 4 كيف تعاطى الغرب مع هذه التطورات، وكيف ستكون علاقة هذه الثورات مع الغرب كمعطى في ذاته؟ ا المقارنة الصعبة بدءا، تعرف المنطقة العربية حراكا شعبيا قلما شاهدناه في تاريخنا المعاصر، فأحداث هذه الحركات تشارك فيها شرائح اجتماعية تاريخية متنوعة، وقد توصف الشرائح المشاركة بالمعنى الذي قصده غرامشي الكتلة الشعبية التاريخية، أي أن هناك تشابها في الظروف الاجتماعية الطبقية بين هذه الشرائح التي كانت منبوذة ومستبعدة، مما أدى إلى احتلال موازين القوى بين النظام العربي برمته ومعظم الشرائح الاجتماعية العربية· فكانت هذه الثورات لاستعادة دور لهؤلاء المهمشين، أيضا استعادة المعنى لتاريخهم الذي لم يصر للاعتراف به من قبل هذه الأنظمة· لقد تم استبعاد دور هذه الشرائح من قبل الجيل الثاني من (آباء حركة التحرر العربية)، إذ لم يقم هؤلاء الآباء بأي جهد للتواصل مع هذه الشرائح التي وضعت على الرف، كما تحوّل في الشرق، ومهمتها فقط انحصرت في التصفيق للقائد الأوحد الملهم الحاكم إلى الأبد· كما أن النخب التي وضعت في الواجهة السلطوية مع هؤلاء الآباء، كانت مهمتها تبرير ما يقوم به هؤلاء القادة دون أن يستطيع أيا منهم القيام بدوره في المساءلة والنقد وحتى المعارضة بأبسط أشكالها· إذن، كانت حالة البوعزيزي وغيرها محفزا للثورة ضد الأنظمة الجائعة للسلطة، هذه الثورات التي قامت فيها الشعوب الناضجة للحياة لا الجائعة، كما يصفها البعض، كانت قد حركتها وقادتها الأجيال الشابة المهمشة· فكانت حالات التلاوم التي جمعت هذه الثورات نتيجة للواحدة الوجدانية للشعوب العربية، إذ لم يكن من إمكانية للتنبؤ بما ستفعله وستقوم به هذه الأجيال، وكأن ما حصل زلزال يصعب التنبؤ بحدوثه· إن هذه الأجيال التي تحركت لتعبر عن ذاتها، كان تحركها مختلفا عن الحركات التي قامت بها حركات التحرر العربي سابقا، تلك التي قامت بها نخب عسكرية، وأحزاب سياسية منظمة، وكانت قد حملت في برامجها هموما عربية وطنية وقومية، مما أدى لتسميتها حركات تحرر عربية· إلا أن هذه الحركات انفصلت عن هموم شعوبها بعد استلام الجيل الثاني من القيادات دفة الحكم، وبعد وفاة ملهمها وقائدها التاريخي جمال عبد الناصر· لقد عقدت الشعوب العربية مع قيادات هذه الحركة (الجيل الثاني) عقد تقوم بموجبه الأنظمة بتحقيق الوحدة الوطنية، السوق العربية المشتركة، الثورة الزراعية، إقامة دولة الوحدة، (وبعد الفشل في تحقيق ذلك، كانت المقايضة والدعوة لإقامة الدولة الوطنية) وتحرير فلسطين، كان ذلك مقابل الأمن والاستقرار، هذا العقد الذي وظف لخدمة الحكام وسلطانهم القمعية ونظامهم الأمني أرادت الشعوب في بداية عام 2011 فسخ هذا العقد، وكان لها ما أرادت، إذ أنها دفعت الدم والرزق مقابل التخلص من هذه السجون التي وضعت فيها· لقد رفضت الأجيال الجديدة ما هو قائم وأبدي، وكان لها أن تدفع ثمن رفضها، وها هي تستمر في دفع فاتورة تحررها· هذه الأجيال التي كان ممنوعا عليها السؤال لا النقد، وفي حال تجرأت على ذلك فمصيرها السجن، والقتل أو النفي، لذا لم تنضم للأحزاب التقليدية التي كانت تبرر للسلطة موبقاتها، ولهذا السبب هي دون قيادة ودون وجه سياسي، ولهذا لم تقدم برامج اجتماعية سياسية، يمكن أن تدفع البعض من مثقفي النخبة لوصفها بحركات ثورية تغييرية· إن هذه البرامج ضرورية، ولكن الوجه السياسي الاجتماعي لهذه القوة القوى بدأت يتشكل خلال الثورة الحراك وليس قبل ذلك، لذا لنترك لها بعض الوقت كي تهضم تجربتها أولا، ومن ثم نحكم على الكيفية التي سترسم بها لا شخصيتها الذاتية فقط، وإنما الشخصية المجتمعية للدولة التي تطمح إلى تحقيقها، فكيف ترى هذه النخب واقع خصوصيات شعوبها، وكيف ستتعامل مع هذا الواقع؟ هذا ما علينا أن ننتظره ولا نحكم على التجربة قبل تبدأ· إن ''المرحلة القادمة صعبة على الجميع وتحتاج لجهود الجميع في إخراج مجتمعاتهم، ليس فقط من ظلامية بعض الفكر الديني، ولكن من ظلامية كل فكر الاستبداد الذي دام طويلا، فالهجوم على الآخر، مهما كان هذا الآخر، ليس دائما أفضل وسيلة للدفاع عن الأخطاء، فالسياسة ليست دائما لعبة كرة قدم، ربما'' على ما يقول سلام الكواكبي· 2 تساؤلات لا أسئلة لقد تساءل بعض المشاركين في الندوة، ماذا سيحصل إذا لم تعبر برامج هذه الأحزاب الشبابية الجديدة، عن تطلعات الطبقات الحضرية المدينية والطبقات الريفية من مكونات المجتمع؟ وأجاب بأنه يتحتم علينا أن ننتظر الردة، وقد تناسى صديقنا أن ذلك من المستحيلات، لأن هؤلاء وفي أية برامج سيقدمونها فإنهم سيعبرون فيها عن واقعهم وهم أبناء المدن والأرياف، وقد تأتي الردة، هذا ممكن من قبل الأحزاب التقليدية التي كانت تبرر لهذا النظام أو ذاك، إلا أن هذه الردة ستواجه من قبل النخب الشبابية التي قادت الحركات الثورية ويسميها عمر لارجان ''الحركات الشبابية المستعصية''، ونضيف ''عن كل إمكانيات التطويع والتدجين، فهذه الحركات الحاملة للقيم المجتمعية العامة، إذ في واقعها لم تنفصل عما تحركت من أجله، خاصة أن شعاراتها كانت مشتركة، وقد تتكفل بالتعاون بين بعضها من أجل صياغة مشروعها تمهيدا لتقاسم الأعباء الوطنية، التي تجتمع فيها كل التناقضات الاجتماعية وبالتالي السياسية· لذا، فإن الردة لن تأتي من هؤلاء، الردة التي يتوقعها البعض من أن تؤدي إلى تعفين الوضع الاقتصادي، وبالتالي في بروز الجماعات المذهبية والطائفية الدينية· تلك الجماعات التي قد يكون عندها قصور في فهم واستيعاب ما تقوم به وتمارسه، وقد تؤدي هذه الردة أيضا إلى حروب أهلية، وبلداننا مهيأة لذلك، وهذا العراق والسودان وسوريا ولبنان والبحرين وغيرها من البلدان النموذجية التي تدفع البعض من التحذير من وصول الأوضاع إلى هكذا مستنقعات· إن السؤال من أن هذه النخب ستقدم برامج بأبعاد سياسية، اجتماعية، ونضيف تنموية تربوية، قد يكون فيه الكثير من الطفولة، والسبب كما ذكرنا من أن هذه الشرائح الشبابية ليس لها من مصلحة إلا أن تشمل برامجها ما تعتقد أنه يلبي حاجات من تمثل· أما إذا كان السؤال موجه للأحزاب التي تسيس الدين لخدمة أهدافها، أو للأحزاب التاريخية التقليدية، فإن الأمر يختلف· فكلا الطرفان قد يقدمان برامج منفتحة على الموروثات الماضوية أكثر مما هي في مضامينها برامج منفتحة على الواقع المعيش· وهنا يمكننا القول، وأمام التجربة الفتية للأحزاب الشبابية التي سننتظر منها برامج واقعية ومستقبلية، خاصة أنها رفعت شعار الدولة المدنية، بما يحمل هذا الشعار في مضامينه من التعاون بين بعض هذه التيارات التي سيكون من مهماتها إبراز الكفاءات العلمية والإدارية والاقتصادية والتربوية لأخذ مواقعها في إدارة مؤسسات الحكم، بما تحمل من رغبة في تحقيق المساواة بين المواطنين· فهذا الواقع بالنسبة للتيارات الشبابية، لن يكون حلما بل سيكون حقيقة واقعة، والصراعات السياسية، وفي حال أي طرف سواء إسلامي أو تقليدي استلم السلطة فإنها ستضطر لمحورة سياساتها شؤون الواقع والمستقبل، وليس حول أمور ماضوية وثانوية· إن البرامج التقليدية مبهمة، كما أن الصورة الأولية لتجارب النخب الجديدة من الأجيال ستكون مشجعة لأنها فقط نخب تمثيلية، وهي من صلب جسد الطبقات التي لها مصلحة بالثورة والتغيير، فضلا عن أنها تتملك التراث العلمي بما هو تراث مشترك بين الشعوب· لقد رفعت حركات التحرر القديمة شعارات التخلص من الاستعمار من جهة، وتحرير الشعوب من الملكيات والأسر والأنظمة الرجعية، إضافة لشعارات أخرى من جهة أخرى، في حين أن الحركات الشبابية التي قامت بالثورة لم يكن عندها نفس الأهداف، بل أن هدفها الأساسي تمحور حول الدولة المدنية وتحرير الفرد كمدخل لابد منه لتحرير المجتمع من الفساد، وبالتالي التأسيس لدولة القانون والمؤسسات، ناهيك عن أن الشعارات التي رفعتها حول مدنية الدولة تحوّلت على أيدي الأحزاب الدينية والتقليدية إلى شعارات أخرى مختلفة· كما أن إهمال الأنظمة للقطاعات التربوية التعليمية، قد أدى إلى تفاقم الأمية وزيادتها وارتفاعها إلى نسب مخيفة، خاصة في مصر والسودان ودول أخرى· هذه السياسات التي ساهمت في تردي الأوضاع الاقتصادية عند هذه الشعوب، أدت أيضا إلى تفاوتات هائلة في الوضعيات الاجتماعية بين طبقات المجتمع، حيث تضاعف عدد الفقراء، كما تقلصت وإلى الحدود القصوى الخدمات، ليس فقط التربوية وإنما أيضا الاجتماعية والصحية وغيرها· إن هذه الوضعيات المجتمعية المتردية هي المخزون الذي استغله الإسلاميون· فهل سيساهمون في تغيير هذا الإرث، وستكون عندهم سياسات مختلفة؟ 3 وصايا الشعوب لا وصايا الأنظمة أما عن الأسباب التي ساعدت على انهيار هذه الأنظمة، فقد حددها محمد هناد بخمسة: 1 فقدان الدور الإصلاحي لهذه الأنظمة واقتناع الشعوب العربية بأنها لن تقوم بما يمكن أن يدفع لتحسين أوضاعها خاصة الاجتماعية· 2 طول مدة حكم هذه الأنظمة، مما جعل لمطلب التغيير الأولوية في المطالب الشعبية· 3 تردي الأوضاع، وعلى كافة المستويات وانتشار الفساد بشكل لا يمكن احتماله· 4 تزايد وطغيان الدور العائلي للأنظمة السلطوية وتزايد مشاريع التوريث· 5 تضعضع شرعية الأنظمة وضعفها أمام الخارج والداخل وافتقارها للدور القيادي· إضافة لما ذكره د· هناد، فإن هناك عوامل أخرى ساعدت على سقوط هذه الأنظمة: 1 الأزمة الاقتصادية العالمية التي يعرفها الغرب وعبّرت عنها الحركات الشعبية في أمريكا وأوروبا· 2 نهوض آسيا والصين التي أصبحت المنافس الاقتصادي الأشرس للولايات المتحدة، خاصة وأن الصين تلعب دورا اجتماعيا واقتصاديا داخل أوروبا وأمريكا، هذا الدور المتزايد أدى إلى أن يقوم الاقتصاد الصيني بتجويف الاقتصاديات الأوروبية الأمريكية من داخل منظومتيهما الاقتصاديتين· أيضا يتزايد حضور هذا الدور على حساب الدور الأوروبي الأمريكي· 3 إنهيار مصداقية المنظومة الأخلاقية الأمريكية الأوروبية، أمام الشعوب العربية، وذلك بسبب التراكمات التاريخية السلبية بين هذه الشعوب وسياسات الغرب التي كانت موظفة لدعم هذه الأنظمة والدفاع عنها وحمايتها إعلاميا وعسكريا، وهذا ما أدى إلى تكوين رأي عام عربي سلبي، من هذا الغرب الذي نحتاجه اقتصاديا وعلميا ونختلف معه سياسيا· 4 نضوج النخب التمثيلية العربية، وتزايد وعي الشعوب العربية بالمخاطر المحيطة بواقعها ومستقبلها· 5 لقد وضعت الثورات حدا ليس فقط لوصايا الحكام وإنما أيضا لوصايا الغرب· لهذه الأسباب كانت الحركات الشعبية العربية· أما أن يصل الأمر إلى القول بأن الغرب أنهى مهمات مبارك وبن علي وصالح والقذافي، وغدا الأسد لأنهم غير قادرين على تطبيق منطق استراتيجيات الغرب الكبرى، وأن التدخل الغربي، كما يقول زبير عروس وعمر لارجان، تجاوزت نسبته ال 70%، فهذا المنطق ليس فقط منافيا للواقع، بل منافي لتاريخ الشعوب وقدرتها على صياغة خياراتها، حيث التناقضات بين الشعوب والأنظمة كانت في تصاعد· فكيف يمكن أن تكون الأنظمة، وكما يرد على لسان البعض في الندوة، مدعومة من قبل الغرب، وأيضا أن الحركات الشعبية الهادفة لإسقاط هذه الأنظمة متهمة أيضا بأنها مدعومة من الغرب· إنني أتفق مع ناصر جابي في ما طرحه من أسئلة؟ فكيف لنا أن نبرز ذلك، أوليس من تناقض في المنطق؟ إن النظر إلى الوراء يجعلنا نتابع الصراعات بين الأنظمة والجماهير الشعبية يكفي الإشارة إلى الإضرابات والمظاهرات والتحركات الطلابية والمطلبية العمالية ضد الأنظمة لكي يتبين لنا قوة العوامل الداخلية في التحركات التي حصلت· ولنرى بأن جسم المجتمع العربي يملك ديناميته الخاصة في الدفاع عن نفسه، كما أن من يتابع الإعلام الغربي يجد بأن النظرة الغربية كانت تشكك في إمكانية اندلاع شعبية· فلأربعة عقود مضت أغمض الغرب عينيه عن كل الجرائم التي قامت بها الأنظمة ضد شعوبها، وكان للغرب الدور الأساسي في الإتيان بها، خاصة رموزها، بل إنه ساهم في تجذير بذور الفساد والتخلف، وبالتالي الإبقاء على علاقات التبعية على كل المستويات الاجتماعية والسياسية·· وغيرها· 4 التداعيات وأسئلة أخرى لقد اعتبر احميدة عياشي بأننا نحن العرب، في مرحلة تاريخية جديدة من حضورنا، ولكنه لم يحدد أو يرسم أية مضامين لهذه المرحلة، بل ترك الأمر للمشاركين في الندوة· ووصف المرحلة الأولى بأنها المرحلة الناصرية، الثانية هي المرحلة الساداتية، أما المرحلة الثالثة فقد طرحت دون أن يحدد المعنى المقصود من الإشارة إلى مضامينها· لقد أطلق البعض على هذه المرحلة اسم ''الربيع العربي''، هذا العنوان أو المقصود منه بأن الشباب سيكون لهم الدور الحاسم في الخيارات الاستراتيجية المستقبلية، فالثورات التي حصلت في لحظة ضعف تاريخية للولايات المتحدة، أدخلت المجتمعات العربية في معادلات إقليمية ودولية جديدة، إذ أصبح للشعوب رأيها في مداخلات وتحولات المنطقة· وسيكون من فضائل هذه الثورات التي تحث الخطى نحو إقامة دولة المواطنين، وتعزيز نظم الحكم الديمقراطية، إنها ساهمت في تغيير الصورة النمطية التي رسمها الغرب وعززتها الأنظمة التي انهارت والأنظمة التي ستنهار، فالتداعيات بدءا ستكون من خلال تشكل نظرة جديدة للعرب، إذ بدأ ينظر إليهم بشكل مختلف، فالشعوب العربية، كما يقول عادل قسطل، ''أعطت للعالم أشكالا من الاحتجاجات استوقفت العقول الذكية''· وهذا يدل على نضج الشعوب العربية· نقول هذا ونخن نعرف ما هو عليه الوضع العربي من ترد· لنلاحظ مثلا الانتخابات المصرية، ورغما عن كل نتائجها سواء كنا مع ما اختارته الأغلبية أو كان لنا موقف آخر، فإن نتائجها تؤسس لمرحلة جديدة، ولنأخذ أمثلة حالة الغليان الشعبي التي تعيشها مصر، وبروز مئات الوجوه الجديدة التي نراها تبدي رأيها بوضوح دون خوف من أجهزة أمن أو غير ذلك، وهم الذين يتحدون كل التراث الأمني بكافة أشكاله وأجهزته· أيضا التجربة الديمقراطية التونسية التي أوصلت المناضل منصف المرزوقي إلى سدة الرئاسة· أيضا لننظر إلى هذا المشهد اليمني لنرى حراكا سلميا، والكل يدرك أن الشعب اليمني مدجج بالسلاح، ورغم هذا لم يحمل أيا من المتظاهرين سكينا في المواجهة مع النظام اليمني وأجهزته· أيضا من التداعيات التي كانت بحاجة لوقفة متأنية، التحولات الإقليمية والدولية من ضعف الدول الغربية، وأمريكا منها إلى إسرائيل وتغير موقعها ووظيفتها في المنطقة والعالم، يقول أحد المحللين الصهاينة، نحوم برنباع ''إن الثورة في العالم العربي هزت الاستقرار الإقليمي، وأضعفت الحكومات، وأطلقت إلى الشارع الكراهية والإحباط، بما فيها الكراهية لإسرائيل أيضا· هذه فترة محملة بالمصائر أيضا بالنسبة لمكانة إسرائيل في العالم· الولاياتالمتحدة توجد في نقطة سفلى لم تشهد لها مثيلا منذ الثلاثينيات من القرن الماضي، ولا يمكنها أن توفر لإسرائيل حماية مطلقة· الشرخ مع تركيا، الاضطرابات في مصر، والتعاطف الذي لاقاه التوجه الفلسطيني إلى الأممالمتحدة، كل هذا يوضح أننا وصلنا إلى نهاية عصر· أسرة الشعوب، بأغلبيتها الساحقة تدير لإسرائيل ظهرها'' (ايديعوت أحرونوت 21 / 9) أما حامي شاليف فيقول: ''لا حاجة لأن تكون عبقريا في الجغرافيا لتفهم أن الهزة الأرضية في العالم العربي ستخلق في نهاية المطاف تسونامي سياسيا قد يغرق أيضا الفرضيات الأساسية لنا ولنزاعنا''؟ (إسرائيل اليوم 4 / 3)· لقد أدخلت الثورات الشعبية المجتمعات العربية في معادلات جديدة، وفي موازين مختلفة عما كان من قبل، فمعادلات الصراع مع إسرائيل، كما يقول ماجد كيالي، ''لم تعد محكومة بأمزجة الحكام، وإنما باتت في مجال الرأي العام، وفي نطاق تحكم المجتمعات التي بات لها رأي في مداخلات وتفاعلات الصراع العربي الإسرائيلي''· لقد أعادت الثورات الشعوب العربية إلى مسرح التاريخ، وجعلته سيد مصيره، كما أنها غيرت البيئتين السياسية والأمنية ليس فقط لإسرائيل وإنما للغرب أيضا· رغما عن ملاحظة هنا وهناك، وقد تكون صحيحة ووجيهة، تبقى نقطة إضافية يشير إليها ماجد كيالي ''من أن الصراع العربي الصهيوني بعد الثورات الشعبية لن يبقى حكرا على الأنظمة التي كانت تديره وتوظفه بحسب سياساتها، وإنما سيشتمل المجتمعات في البلدان العربية، أي أنه سيشمل الإطارات غير النظامية أو غير الدولية أيضا· مما لاشك فيه أن التحوّل نحو الديمقراطية وإرساء دولة المواطنين سيفضيان إلى انتهاج سياسات واضحة عقلانية وواقعية توازن بين الحقوق والقدرات، وبين المأمول والممكن في مجال الصراع مع إسرائيل''· وعلى حد تعبير الباحث المغربي، سعيد ناشيد، ''المطلوب من الجميع، حكومة ومعارضة، الانتباه إلى أن هناك فاعلا سياسيا جديدا لا يمكن إغفاله ولا إخضاعه، ولا يكفي اتهامه بخدمة أجندة معينة، كما نسمع بين الفينة والأخرى، إنه الشارع، صانع الثورة، الذي لم يتم التفكير الجدي في (احتضانه)، سواء في تونس أو مصر أو اليمن أو حتى ليبيا''· أخيرا عودة وخلاصة لما قدمه المشاركون إذن يمكن أن نستخلص التالي مما طرحه احميدة عياشي على المشاركين: محمد هناد: رأى بأنه من السابق لأوانه الحكم على مآلات الحراك الذي هو دون قيادة، لذا فباب الانتكاسة لا تزال واردة، لكنه استدرك أن الحراك أخرج قيادات مستعصية وشباب رافعين خطابا عقلانيا· من هنا لابد من متابعة التطور الذهني ليس فقط عند الإسلاميين، بل عند الشباب، وكيف سيتعامل الإسلاميون مع المعارضة؟ وتوصل إلى أن المجتمعات أجسام حية، تملك أنظمة دفاعية داخلية تدافع بها عن نفسها، وتتمتع بالمناعة الداخلية، وإذا كان المجتمع ضعيفا يمكن لأي ميكروب القضاء عليه· الزبير عروس: اعتبر أن لحراك العربي حراك أفقي يمتد وينتقل من دولة عربية إلى أخرى، كما أنه كشف عن الوحدة الوجدانية بين الشعوب العربية، وأضاف إن الحراك ليس عموديا، إذ أنه حتى الآن لم يمس ثقافة المجتمع التي أنتجت الأنظمة الاستبدادية، واعتبر أن الحديث عن فاعلية العامل الخارجي نكران لدور الشعوب والانتقاص من قدرتها على التغيير، إن المجتمعات العربية ليست جامدة، إذ شهدت الدول العربية العديد من الانتفاضات والمظاهرات منذ السبعينيات حتى اليوم، وانتقد التيارات السياسية الإسلامية ورأى أن المشكلة ممارستها للسياسة بالولاء، وبالتالي نكرانها للعامل السلمي في إدارة المجتمع، وأضاف أن التغيرات العربية يعمل الغرب كي توظف ضمن ثلاث حالات، 1 حماية المصالح الغربية، 2 إسرائيل، 3 أن الغرب يميز بين دولة وأخرى، إذ أن لبعض الدول مكانة استراتيجية في السياسات الغربية· وعن سوريا رأى بأن ما يجري فيها بالرغم من منطقيته وشرعيته إلا أنه قد يؤدي إلى ردة حقيقية عن مكسب العيش المشترك القائم على قبول الآخر، أي أننا أمام حالة يمكن أن تتحوّل إلى طائفية· ناصر الجابي: رأى من أن سوريا مثلا، مؤهلة للعنف لأن فيها نظام مذهبي فئوي يسيطر على الجيش والمال، وشاطر ناصر جابي زميله محمد هناد من أن الحراك دون قيادة ودون برنامج، كما أنه ليس من دور للطبقات الشعبية التي من المفترض أن تكون وراء التغيير· إننا أمام حراك عربي مشترك، لكن لكل دولة خصوصياتها، لذلك ستكون آليات التحرك متباينة ومختلفة بين دولة وأخرى، أيضا فنحن أمام مرحلة جديدة تعبر فيها المجتمعات عن نفسها· وانتقد جابي المبالغة في التدخل الخارجي لمصلحة الحركات الشعبية، واعتبر بأننا أمام تحليلات من هذا النوع نفقد البوصلة ونصبح كائنات مجتمع هلامية وافتراضية، وتساءل عن دور القوى اليسارية والعلمانية، ووقف عند مشهدية الحراك في الدول التي تعتمد على السياحة، وبالتالي كيف ستتعامل الأحزاب الإسلامية مع الأوضاع فيها، وأضاف إن المستشرقين كانوا ينظرون إلى أن العرب عاجزون عن القيام بالثورة، فقط يمكنهم القيام بانتفاضات وتحركات وهبات محدودة· إن هذه الثورات تقوم بها شعوب أوروبا الشرقية ودول أمريكا اللاتينية وأوروبا القديمة، وانتقد مواقف هؤلاء المستشرقين قائلا إن العرب موجودون في مركز العالم كشعوب عندها طاقة ونفط· أما موقفه من الإسلاميين، فسيتحدد حسب موقف هؤلاء من العملية الديمقراطية، فالشعوب تحركها هواجس المتناوب على السلطة عبر الانتخابات، كذلك موقفهم من الأحزاب العلمانية، ومن النقابات واقتصاد السوق، وتساءل عن إمكانية إدماج الأحزاب الإسلامية في النطاق الحضري؟ وخلص أن المجتمعات تحدد مساراتها خصوصياتها الداخلية· عمر لارجان: انطلق من فرضية مفادها أن الحراك الشعبي العربي يتم بدوافع خارجية تصل نسبتها إلى ما يقارب من 80% وأن الديمقراطية كفلسفة ونظرة للكون منعدمة عندنا، وأعطى مثال حول خطاب منظمات أهل السنة الذين فازوا بالانتخابات، هؤلاء الذين يطالبون بالولاء ورفض الآخر، ثم ما لبث أن استدرك قائلا إن الأحزاب هذه لديها منطق جديد، إلا أنه شكك في هذا المنطق ولخدمة من؟ وأضاف إن هذا المنطق يهدف لخدمة المصالح الغربية، والدليل ما طرحه الناطق باسم جماعة النور السلفية من أنهم يحترمون معاهدة كامب دايفيد وغيرها ومن معاهدات أبرمت مع الدول الغربية، وأضاف مستائلا عن كيفية تعامل الشباب مع الأحداث وكيف سيستوعبونها؟ كما انتقد الغرب الذي لم يساعد أية دولة لبناء الديمقراطية، فالجزائر كادت أن تمحى عن الخريطة البشرية، ولم يندفع أحد لمساعدتها، إلا أن الشعب الجزائري لم يفقد ذاكرته، وفي إشارة إلى الوضعية الاقتصادية للدول الغربية رأى بأن الغرب ينهار إقتصاديا، وأن الشيء الذي ينقصنا نحن العرب هو السلاح، فإذا لم يستعملوه ضدنا فسيتدهورون، لقد أنشأ الغرب قواعد عسكرية في كل أنحاء العالم، إنهم يريدون أن يحكموا العالم بالسلاح وليس بالديمقراطية، وختم أن الدول التي لها تاريخ هي مصر والجزائر والمغرب وتونس، وإن بقية الدول جاءت بالانقلابات· هذه هي خلاصة ما أباح به المشاركون في الندوة· **** عودة إلى مضامين ما ورد على لسان المشاركين، نشير إلى أنهم لم يتطرقوا إلى موضوع المرأة ودورها في هذه الحركات الشعبية، كما لم يشيروا إلى التحولات الإقليمية في مراكز القوة العسكرية والاقتصادية كالدور الإيراني والتركي، هذا الدور الذي توسع ليس فقط على حساب إسرائيل كقاعدة متقدمة للغرب، وإنما أيضا على حساب الغرب ومصالحه في المنطقة فإسرائيل بدأت تتقهقر بعد أن أجبرت على الانسحاب من لبنان عام ,2000 وأخذ تقهقرها مداه عام 2006 بعد أن أجبرت على وقف الحرب مع لبنان دون أية نتائج سياسية لمصلحتها، أضف أن المشاركين لم يتطرقوا إلى دور الجزائر في ظل التطورات المتلاحقة التي حصلت وتحصل في الخريطة الجيوسياسية المغاربية، ناهيك عن عدم بناء تصورات قد تستفيد منها الحركة الشعبية العربية، إذ كان عليهم التأسيس لبناء مداميك في التفكير السياسي يتناول إمكانية التأسيس لعقد اجتماعي جديد ليس فقط على الصعيد الاجتماعي، بل على الصعيد السياسي والتربوي والصحي وغير ذلك؟ لاشك أن هذا الوصف للواقع العربي الراهن مفيد وجيد، ولكن لابد من الحفر أكثر في الجنائن الأخرى متعددة الثمار· وفيما إذا أشرنا إلى ما على المشاركين المساهمة به، فإن الشكر الكبير لهم وللأستاذ احميدة عياشي راعي هذه الندوة التي أثمرت جهدا فكريا لابد من التنويه به واستكماله بلقاءات أخرى تسلط الضوء على ما تم البدء به والتأسيس عليه·