حاول الدكتور بوضرياسة بوعزة من خلال كتابه ”الحاج أحمد باي في الشرق الجزائري رجل دولة ومقاوم 1840-,”1848 إماطة اللثام عن العديد من نقاط الظل في حياة رجل ظلمته الكتابات التاريخية الفرنسية وحتى بعض الجزائريين· واستعان الدكتور في عرضه لحياة أحمد باي بمنهج البحث التاريخي الحديث عبر استنطاق الوثائق التاريخية الفرنسية والعربية من أجل إبراز السمات الشخصية التي كان يتمتع بها أحمد باي· وأشار صاحب الكتاب إلى أن الحاج أحمد باي كان حاكما لأكبر إقليم جغرافي من الأقاليم الجزائرية من حيث شساعة أراضيه وتعدد القبائل القاطنة به، وهذا ما زاد من كثرة السكان الذين كانوا في تزايد مستمر· ولم يرحب الفرنسيون بهذا التزايد السكاني، حيث أدركوا لتوه ما يمكن أن ينجرّ عنه من مخاطر ضدهم في الإقليم، خاصة كراهية الجزائريين الشديدة والمتزايدة للفرنسيين المحتلين· ومازاد في هذه المخاطر ظهور الحاج أحمد باي بمظهر الرجل القوي الذي بإمكانه استغلال القوة البشرية الجزائرية للحد من جبروت العدو الفرنسي والقضاء على طموحاته المستقبلية· وهذه الظاهرة السكانية حاول جل الكتاب الفرنسيين التقليل من أهميتها، مما اضطرنا تحت هذا التحيز الفرنسي إلى مقارنة ما ذكر من معلومات فرنسية بما كتب بأقلام جزائرية، فكان كتاب المرآة لحمدان خوجة خير معبّر عن صدق المعلومات حول عدد السكان في الإقليم الشرقي· أحمد باي رجل الدولة
ويقول الدكتور بوعزة في كتابه الصادر عن منشورات ”دار الحكمة”، إن شخصية الحاج أحمد باي كانت أكثر إثارة، لما توصلنا إليه من معلومات دقيقة حول حياته وتربيته، وما عاناه من مكائد أعدائه واستنتجنا على ضوء هذه المعلومات، وما أكسبه من تجارب سياسية وعسكرية· وأوضح أن زيارته إلى مصر جعلته يحتك بأولاد محمد علي باشا والي مصر لفترة، إذ تأثر بالمنجزات العمرانية والعسكرية، فكانت حافزا قويا بالنسبة له على تخطي الصعوبات لتحين سنة ,1962 حيث أظهر قدرة فائقة على تسيير شؤون ”بايلك الشرق”، لتأتي سنة 1830 وتؤكد هذه القدرة في اتخاذ التدابير الفعالة لمواجهة الاحتلال الفرنسي، ومن ثم برز كرجل دولة، وحاول جاهدا تثبيت دعائمها جاعلا من قسنطينة عاصمة لها بعدما سقطت العاصمة الجزائر على أيدي العدو الفرنسي· وبالتالي فإن فترة حكمه تميزت بأعمال إدارية وسياسة، وكانت رمزا لهذه الدولة، وما تأسيسه لمجلس شورى يتضمن عقلاء ”البايلك” وعلمائه وشيوخة وأكابر موظفي الدولة؛ إلا دليل قاطع على مدى ما وصل إليه الحاج أحمد باي في ترتيب شؤونها· وللسير الحسن؛ أحدث مناصب هامة مثل ”قايد الدار” و”قايد العشر”، ومنصب ”كاتب السر” المسمى ب”الباش كاتب”· وتعددت المناصب في عهده مثل ”ناظر الوقف” و”الباش كاتب”، و”الباش مكحالجي” و”الباش في سراج”، و”وائد المقصورة” و”باش فراش” و”قائد الدريبة” و”شاوش الباي” و”قائد القصبة”· ولتكتمل سيادة هذه الدولة، قام بضرب النقود، ووضع علما أحمر يتوسطه سيف علي ابن أبي طالب رضي الله عنه، ونصب على كل مؤسسات الدولة·
ولحماية هذه السيادة؛ عمل الحاج أحمد باي على الاهتمام بالجيش لأنه العمود الفقري لهذه الدولة، وحامي حماها، فكان يتكون من جزءين، جيش نظامي يزيد عن ألفين وخمسمائة مجاهد، وآخر غير نظامي يفوق الإثني عشر ألف مجاهد· ومن رموزها كذلك، الحياة الثقافية التي ازدهرت كثيرا في عهد الحاج أحمد باي، فجعل من قسنطينة حاضرة علم ومعرفة، فأصبحت توازي كلا من تونس والقاهرة، وما يؤكد ذلك، التعليم بكل أطواره وإجباريته على التلاميذ الذين تزايد عددهم من عام لآخر·
للعلماء مكانة خاصة
حظي العلماء، حسب الكتاب، بمكانة كبيرة في عهد الحاج أحمد باي، منهم الشيخ محمد بن فتح الله المفتي الحنفي، ومحمد بن عبد الكريم الفكون، وأحمد بن المبارك بن العطار وأبو راشد عمار الغربي، وكذلك الشيخ محمد الميلي ومحمد العربي ابن عيسى وغيرهم من العلماء الذين دفعوا عجلة الثقافة وجعلوا من قسنطينة مقصد طلاب العام والمعرفة· كما اعتنى الحاج أحمد باي باعتباره رجل دولة؛ بالنشاط العمراني، معتمدا في ذلك على بنائين جزائريين مهرة أشهرهم الحاج الجابري والخطابي اللذين أشرفا على بناء قصر أحمد باي، إلى جانب إنشاء الساحات العمومية مثل ”رحبة الجمل” و”سوق العصر”، وكذلك تخصيص أسواق للحرف والمهن والبضائع، بينما عمل الحاج أحمد باي على إبقاء الطابع العربي الأصيل على شوارع المدينة وأزقتها· غير أن هذه المعالم الحضارية الشاهدة على الانبعاث الفكري الذي ميّز عهد الحاج أحمد باي، هدمت وهوى صرحها بدخول الفرنسيين قسنطينة عام 1837 وتحولت إلى أطلال· ويضاف إلى هذه الأعمال التي جعلت من أحمد باي رجل دولة وحاكما فعليا، إرباكه للعدو الفرنسي الذي بدأ يبحث عن مخرج سلمي لاستدراجه بعدما عرف أنه ليس من الشخصيات التي يمكن شراء ذممها، خاصة أن أحمد باي جعل نصب عينيه، أنه لا مجال للمساومة على المبادئ ولا لمسالمة عدو جاء يبذر خيرات الجزائر ويستبعد شعبها· وكان موقفه بطوليا اعترف له بذلك أعداؤه من قادة ”بكالوزيل” و”دي روفيغو” و”ديبرمون وفالي” الذين سارعوا في كل مرة إلى مراسلته طالبين منه السلم، لكنه سلم مشروط على حساب شعبه وعقيدته، فكان رده الرفض بعد المماطلة· وزاد هذا من كره الفرنسيين له، خصوصا أنه رجل دولة بما تحمله الكلمة من وزن ومعنى، فكانت المنازلة الأولى بينه وبين العدو الفرنسي التي تفنن فيها الحاج أحمد باي ملقنا الفرنسيين درسا في الحروب باتباعه خططا عسكرية محكمة لم يكن يتوقعها العدو، وتعتمد على حصر قوات العدو بين نارين، نار المدافعين بقيادة ابن عيسى داخل المدينة، ونار المجاهدين خلف القوات الفرنسية بزعامة الحاج أحمد باي· وهنا كانت النتيجة الانتصار الكبير ودحر قوات العدو التي رجعت تجر أذيال الهزيمة من حيث أتت·
حماية ”عار الهزيمة”
لكن فرنسا بما أوتيت من قوة أرادت أن تمحي عار الهزيمة التي لحقت بها على يد الحاج أحمد باي لذا أعدّت العدة عام 1837 باستقدام جيوشها من وهرانوالجزائر العاصمة وفرنسا لتضييق الخناق على الحاج أحمد باي، مستغلة عدة ظروف منها على وجه التحديد ”معاهدة التافنة” مع الأمير عبد القادر·
ومما يزيد من قيمة الكتاب أن الدكتور بوضرياسة بوعزة استعان في دراسته لشخصية أحمد باي على الأرشيف الفرنسي، وكذا العديد من الكتابات الجزائرية، مما جعل الكتاب إضافة حقيقية لكل باحث، خاصة أنه استطاع تقديم صورة مغايرة عن شخصية أحمد باي ودحض الأطروحة الفرنسية من خلال آليات البحث التاريخي الحديثة·